مديح الرداءة وتمجيد الابتذال.. ليس الشعر وحده الذي يموت
في موازاة التقدّم التقني والتكنولوجي، وباسم العولمة والنمو الاقتصادي، يشهد العالم اليوم تراجعاً متزايداً لمجالات المعارف والعلوم الإنسانية والآداب والفنون في المدارس والجامعات في العالم أجمع، وبالأخص في الغرب حيث كان لتلك العلوم الموقع الذي عُرف به طوال عقود من الزمن.
في العقدين الأخيرين، تراجعت نسبة الطلاّب المسجّلين في مجالات الفنون والآداب والعلوم الإنسانية في الجامعات الأميركية بنسبة خمسين في المئة. في نيسان/ أبريل الماضي، تمّ إغلاق قسم الفلسفة في جامعة «ميدلسكس» في بريطانيا. وفي فرنسا أيضاً تراجعت دراسة الفلسفة، بالإضافة إلى الآداب والتاريخ. ولقد سجّل تراجع الإقبال على القسم الأدبي، خلال العشرين سنة الماضية، نسبة 28 بالمئة. ندرك فداحة هذا التراجع وانعكاسه على الفكر والإبداع وعلى القراءة النوعية، حين نقف على إجابة سارتر عن سؤال حول من يكون قرّاؤه: «أساتذة الفلسفة والطلاب الجامعيون».
من هنا تبدأ الحكاية. من الاقتصاد الذي يلقي بظلال كبيرة على التربية والتعليم، ومن خلالهما على التوجهات الجديدة التي تعمل على تهميش الجماليات والمعارف الإنسانية وكلّ ما لا يمتّ بصلة إلى عالم المال. إنها المرة الأولى التي يجتاح فيها رأس المال الثقافة ويحكم قبضته عليها ويخضعها لشروطه ومعاييره.
لا بدّ من الإشارة، هنا، إلى أنّ ثمة فرقاً بين المال الذي يؤمن بالمشاريع الثقافية ويدعمها ويساعدها على أن تتجسد انطلاقاً من رؤية تنظر إلى الثقافة بصفتها عاملاً من عوامل التنمية وصورة لتقدم المجتمع، والمال الذي يتعاطى مع الثقافة كسلعة ويحصر قيمتها فقط في مردوديتها المادية. هذا التوجّه هو الذي يفرض قوانينه اليوم ويتغيّر معه المعنى الثقافي ومفاهيم الجمال، فيصبح صاحب السلطة الثقافية أهمّ من المثقف، وصاحب السلطة الأدبية أهمّ من الأديب.
عزلة الشعر
كيف ينعكس ذلك كلّه على الواقع الإبداعي والمعرفي في بعض تجلياته؟ نبدأ بالحلقة الأضعف، أي بالشعر. كَثُر الحديث في السنوات الأخيرة عن موت الشعر؟ هل يمكن الحديث عن موت الشعر بدون الالتفات إلى التحوّل الذي طرأ على العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتّى الآن؟ وما حال بعض المجالات الإبداعية الأخرى التي تعيش اليوم، وإن بنسب متفاوتة، المصير نفسه الذي يعيشه الشعر؟ ثمّ هل يمكن إغفال التحدي الذي يفرضه التقدم العلمي وهل بالإمكان إشاحة النظر عن الإنجازات التقنية التي تجسّد بعض الرؤى وتعطي الحدس شكلاً فتسبق بذلك، في أحيان كثيرة، روايات الخيال العلمي بل وتفتح أمام الحلم آفاقاً جديدة لم تكن موجودة من قبل؟ هل يمكن ألاّ يؤخذ في الاعتبار التطور التكنولوجي وأثره في التغيّر العميق في المجتمعات الإنسانية وعلاقة البشر في ما بينهم، وكذلك مع محيطهم والبيئة التي يقيمون فيها؟
لا يتحرّك الشعر وحده في المشهد الثقافي الراهن، شرقاً وغرباً. إنّه جزء من منظومة ثقافيّة تتغيّر ملامحها كما تتغيّر طريقة التعاطي معها والنظرة إليها ضمن الحياة العامّة ككلّ. ينحسر الشعر في الغرب إلى الحدّ الأدنى. بعض المجتمعات، كالمجتمع الفرنسي مثلاً، ينظر إلى الشعر نظرته إلى اللغة اللاتينية البائدة. المهرجانات الشعرية التي تقام هنا وهناك، وتكتسي أحياناً الطابع الخيري، لا تعني أنّ الشعر بخير. مكتبة «لاهون»، إحدى المكتبات العريقة في حيّ سان جيرمان في باريس، تخلّت مؤخّراً عن الحيّز الذي كانت تخصصه للشعر، وذلك لكي تفرده للإصدارات البوليسية.
أما في العالم العربي فماذا يعني الحديث عن الشعر وهل هو مرادف لحضوره؟ لا يحضر الشعر في وسائل الإعلام العربية لحاجة القراء إليه، بل لأنّ معظم المسؤولين عن الصفحات الثقافية، لا سيما في مدينة بيروت، هم أنفسهم من الشعراء. لكن كثرة المقالات عن الشعر وتغطية أخبار الشعراء وكتبهم لا يعني بأي حال من الأحوال أنّ الشعر حاضر. دور النشر «تجفل» من هذا «الكائن الغريب» الذي قلّما يجد من يقرأه والذي يشيح النظر عنه أيضاً الكثير من الشعراء أنفسهم!
قد يجد الشعر في الإنترنت متنفّساً جديداً. وقد تؤدي بعض المواقع المخصصة للشعر خدمة كبيرة للبحاثة العرب والأجانب، لكن هذه المواقع أقرب ما تكون إلى مخزن شعري يتجاور فيه كلّ أنواع الشعر، جيّده ورديئه، وهذا ما يعوق أحياناً العثور على القصيدة. في التراكم الكمّي وغياب النقد، نخشى أن تضيع «خمريات» أبي نؤاس و«رسالة الغفران» للمعرّي و«الكوميديا الإلهية» لدانته.
لم تكن القصيدة غريبة كما هي الآن. غريبة ليس فقط عن الآخر، وإنما أيضاً عن نفسها. وإن خرجت من مخبئها فلا أحد يعرفها ولا تعرف أحداً. ليس فقط القصيدة بل الأدب الجادّ. بل الإبداع الجادّ بأكمله. ولأنه خارج دورة الاقتصاد، فهذا يعني أنه خارج الشاشة الصغيرة وخارج الحياة الاجتماعية. تراجع القيمة الاجتماعية للأدب ينعكس بصورة سلبية أيضاً على المواهب الإبداعية وعلى نوعية الكتابة نفسها. يحجب «صوت الشعر»، ذاك الصوت الذي يناديه سوفوكليس من وراء أزمنة بعيدة قائلاً: «تكلّم يا طفل الأمل المذهَّب، يا الصوت الأبدي»؟!
روايات وجوائز
ينحسر الشعر إذاً وتتصدر الرواية المجال الأدبي في العالم. يصدر في باريس وحدها، خريف كلّ عام، أكثر من سبعمئة رواية. بعض هذه الروايات يموت لحظة ولادته وبعضها الآخر لا يعيش في المكتبات أكثر من شهر أو شهرين. ضمن هذا المناخ التسويقي الذي لا يرحم، تصبح الكتابة التي تبلغ النجاح المادي والإعلامي أشبه بالمنيّ. النطفة الأولى هي التي تخصّب بويضة رأس المال، وما دونها يتخلّف وراءها ويضيع.
الروسي نيكولا ليلين الذي نشأ في بيئة من الفقر والتشرد والعنف، طلب منه أصدقاؤه أن يروي فصولاً من سيرته الذاتية على الإنترنت. بعض من قرأ تلك الحكايات شجّعه على تطويرها ونشرها في كتاب. الكتاب تمّت ترجمته إلى أربعين لغة. ليس المطلوب من الأدب أن يكون أدباً. الروايات التي تأتي من خارج الأدب لها الحظوظ الأكبر في النجاح بعد أن أصبح الإعلان عن النتاج الأدبي والترويج له أهمّ من النتاج نفسه. صار بالإمكان الترويج لبضاعة غير موجودة، أو بالأحرى لا ثقل لوجودها.
الأدب الرائج اليوم ينطلق، في الغالب، من قضايا اجتماعية وإنسانية عامة. يثير فضول القارئ ويكون أدباً مسلّياً لا تتطلّب قراءته جهداً. وهذا ما يفسر نجاح بعض الروايات على المستوى العالمي. لكن هذه العالمية لا تعني شيئاً في زمن العولمة، ونقل عمل روائي إلى عدد كبير من اللغات لا يعكس بالضرورة مدى قيمته وأهميته. الهمبرغر الأميركي عالمي ويسيء إلى الصحّة. الكوكاكولا عالمية. بعض المسلسلات التلفزيونية التافهة تكتسح القارات. يقول الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك: «إذا أردت أن يكون لك قرّاء، ضع نفسك على مستوى واحد معهم! كن شخصاً مسطَّحاً، مبهماً، قليل الذكاء، قبيحاً ومخجلاً».
من روائيي القرن العشرين من أمثال فرانز كافكا وهرمن هسّه وفيرجينيا وولف وجايمس جويس إلى إميلي نوتومب وباولو كويلو ودان براون وميشال ويلبيك وفريدريك بيغبيدير ومارك ليفي. هذا الأخير عندما يتناوله النقد في فرنسا إنما يركز على أنه الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعاً والأكثر ترجمة. أما التعريف به فغالباً ما يكون بالأرقام، على الصورة الآتية: «بدأ الكتابة منذ عشر سنوات. له عشرة كتب نقلت إلى إحدى وأربعين لغة، وبيع منها أكثر من عشرين مليون نسخة. روايته الأخيرة «سارق الظلال» بيع منها أربعمئة وخمسين ألف نسخة. معدّل المسافة التي يجتازها خلال شهرين ونصف الشهر للترويج عن كتاب جديد له تبلغ مئة ألف كلم». من جانب آخر، وفي مجال البيع والشراء دائماً، بيع من رواية ويلبيك الأخيرة «الخارطة والإقليم»، في الأسبوع الأول لصدورها، أكثر من ثمانين ألف نسخة. هكذا، صار الحديث عن بعض الروايات الرائجة أشبه بالحديث عن نتائج اليانصيب الوطني.
منذ سنوات، روى لي الشاعر اللبناني صلاح ستيتية قصة الكاتبة الفرنسية مارغريت إيمري (1860-1953) المعروفة باسمها المستعار راشيلد، مع جائزة «غونكور»، وهي أبرز الجوائز الأدبية في فرنسا والحصول عليها يعني الشهرة ويعني أيضاً ارتفاع أرقام المبيعات.
قال صلاح: كانت راشيلد روائية تحتلّ موقعاً متقدّماً في العلاقات الاجتماعية وفي الواجهة الثقافية. في إحدى المرّات، اتصلت راشيلد بأحد أعضاء لجنة «غونكور» وطلبت منه أن يذكر اسمها في قائمة الكتب المرشّحة للجائزة، «ليس من أجل الحصول عليها، بل لمجرّد ذكر اسمها والإشارة إلى حضورها في المشهد الأدبي». لدى البتّ في الجائزة، تبيّن أنّ أعضاء اللجنة اختاروا كلهم اسماً واحداً: راشيلد. نظروا إلى بعضهم البعض واضطرّوا إلى معاودة الاقتراع.
قصّة راشيلد تختصر إحدى سمات الواقع الراهن. ولو جاءت هذه الكاتبة في الفترة الزمنية التي نعيشها الآن لكان من الممكن أن تحصل على جائزة «غونكور» (بعض من يحصل عليها الآن ليس أكثر موهبة منها)، بل وربّما حصلت على جائزة نوبل التي رفضها جان بول سارتر ولم يحظَ بها كاتب من طراز خورخي لويس بورخس. بات من المعروف دور أعضاء لجان التحكيم وحساباتهم، وكذلك ثقل دور النشر، في الحصول على هذه الجائزة أو تلك. من يعرف طبيعة الوسط الأدبي اليوم وما يحرّكه في العمق لا يتأخر في معرفة الاعتبارات التي تجعل هذه الرواية تصل وأخرى لا تصل، وهي، في معظم الأحيان، اعتبارات غير أدبية.
هذا الواقع يكشف الوجه الآخر للكتابة الراهنة. إن ما يحدّد قيمة الكتاب ونجاحه وشهرته هو قيمته الشرائية لا الجمالية والفنية. التجارة هي الأساس بعدما أصبحت الروايات تشكّل صناعة قائمة بذاتها في الغرب. صناعة تستخدم قنوات محددة وجيوشاً من المتواطئين، من وسائل الإعلام والنقاد وسوق النشر إلى المهرجانات والجوائز. هذا لا يعني أن ليس ثمة روايات تستحقّ التقدير والجوائز، لكن مثل هذه الأعمال الأدبية أصبح يطالعنا في الندرة والاستثناء، وغالباً ما يتمّ التعتيم عليه.
إنّ التهديد الذي يواجه الكاتب اليوم لا يتأتى فقط من السلطات السياسية ومن التوجهات الاقتصادية، بل أيضاً من وسائل الإعلام (وهي، في أغلب الأحيان، أداة في يد السياسة والاقتصاد)، وبالأخص الشاشة الصغيرة التي تغوي النسبة الأكبر من المثقفين الذين يشعرون أنّ من يبقى خارجها يبقى خارج العالم.
بشاعة تلك «الفنون الجميلة»
يُعلَن عن الأدب بالأرقام، وبالأرقام يتمّ التداول مع الفنّ التشكيلي. وإذا كان بعض رجال الأعمال يُقبل على شراء الأعمال الفنية فلأنّ الاستثمار في هذا المجال معفى من الضرائب.
هذا العام أيضاً، عاش سوق الفن انتعاشاً كبيراً بينما كانت أسهم البورصات العالمية تتراجع. وقد سجلت «كريستيز» في نيويورك رقماً قياسياًَ جديداً مع لوحة زيتية أنجزها بيكاسو عام 1932 وعنوانها «عري، أوراق خضراء وجذع». بيعت اللوحة بـ 106 ملايين دولار وكان تنافس عليها روسي وصيني وأميركيان من أصحاب الثروات الكبيرة. (عولمة الزبائن لها دور أيضاً في هذا المجال). منحوتة «الرجل الذي يسير» لجياكوميتي بلغ سعرها 104 ملايين دولار، وقبلها بيعت لوحة لكليمت بمبلغ 135 مليون دولار. غير أنّ عملية البيع الاستثنائية التي شهدتها «كريستيز» بلغت قرابة مئتين وأربعة وعشرين مليون دولار وتحمل تواقيع فنانين من أمثال كالدر وجياكوميتي وبونار ورينوار وروو وماتيس وبيكاسو.
يبقى السؤال: من يحدد الأسعار ومن يرفع قيمتها ويجعل سعر العمل الفني الواحد ثروة يتقاتل عليها الورثة؟ من يجعل اللوحة ذريعة لزيادة رأس المال فيصبح الحديث عن قيمتها المادية يتفوق على الحديث عن قيمتها الفنية؟ هناك دراسات وضعت في السنوات الأخيرة وكشفت أسماء بعض أصحاب المجموعات الفنية الكبيرة وهم من جنسيات مختلفة. يتوزعون بين نيويورك وبعض العواصم الأوروبية ويتلاعبون في بورصة الفن بالتواطؤ مع غاليريهات وأمناء متاحف ونقّاد فنّ ومجلات فنية وتجار وأصحاب مصارف. هؤلاء يتعاملون مع الأعمال الفنية القديمة والجديدة مثلما يتعامل عالم المال مع النفط والماس والذهب، وإلاّ ما الذي يفسّر إقامة معارض لأحفاد مارسيل دوشان في كبريات صالات العرض العالمية وأكثرها عراقة: جيف كونز وتاكاشي موراكامي في قصر فرساي، أندي وارول وكريستيان بولتانسكي في «القصر الكبير»، روبير روشنبرغ وإتيان مارتان في «مركز جورج بومبيدو الثقافي» في باريس؟
في بعض الأحيان، تعرض أعمال هؤلاء في المتاحف إلى جانب أعمال فنانين كبار من أمثال دافنشي ورامبراندت وغويا. هذا الخلط بين الأسماء والأشياء يؤلّف اليوم جزءاً من حفلة تهريج عالمية ضخمة، ليس فقط في مجال الإبداع الفني وإنما أيضاً في جميع المجالات. كأن تُعزَف سيمفونيات لموزارت وبيتهوفن إلى جانب «تقاتيق» لموسيقيين «حديثين»، أو كأن يطالعنا في برنامج تلفزيوني واحد المفكر الفرنسي ميشال سير إلى جانب الروائي فريديريك بيغبيدير، أو الروائية توني موريسون إلى جانب الناقدة الفنية والكاتبة الإباحية كاترين مييه برفقة مغنية صاعدة.
عام 1912 أعلن مارسيل دوشان موت الفن، وعام 1917 حمل «مبولته»، وقد منحها اسم «ينبوع»، وعرضها بوصفها عملاً فنياً. منذ ذلك الحين، فُتح الباب أمام الفنانين الأكثر تطرفاً. أصبحت الأشياء الجاهزة أعمالاً فنية لمجرد أن يقرر الفنان عرضها أمام الجمهور. صار بالإمكان أيضاً تحويل كلّ شيء إلى قطعة فنية. ألم يتعامل أرمان مع القمامة والمهملات ومخلفات السيارات والدبابات بصفتها مكونات العمل الفني وعناصره الأولى؟ وإذا كان أرمان يضع القمامة داخل تصوّر فني معيّن، ويسعى إلى توليف يكسبه طابعاً خاصاً يتناسب وأسلوبه، فإنّ فنانين آخرين يعرضون القمامة تماماً كما تكون في حالتها الأصليّة.
والحال هذه، أليس فناناً ذاك الذي يصمم شكل الهاتف المحمول وجهاز الكمبيوتر وحقيبة اليد وأحذية النساء؟ حذاء متقَن التصميم والصنع في قدم جميلة، أجمل بكثير من عمل فنّي لجاسبر جونز أو داميان هرست، وهما من الفنانين الذين تقبل متاحف العالم على اقتنائهم وتباع أعمالهم بملايين الدولارات.
أصبح المال اليوم، أكثر من أي وقت مضى، القاعدة التي ينهض عليها الفنّ. المال الكثير يتقدّم الفن. المال الكثير ينهض على جرائم كثيرة ويحجبها. عدم الارتواء من المال هو العلامة حتى عند المبدعين الكبار في عالم الفنون التشكيلية وفي المجالات والحقول كلها، في الكتابة والموسيقى والرقص. أصبحت مسألة عادية أن نرى راقصة الباليه الأولى في فرنسا سيلفي غيّام وهي تقوم بالإعلان عن ساعة روليكس. وقبلها مغني الأوبرا الإيطالي الراحل بافاروتي وهو يقدم إعلاناً عن السباغيتي. قد يقول البعض هذا أفضل من أن يزوّر الفنان أعماله الفنية وتواقيعه من أجل المزيد من الربح كما فعل سلفادور دالي.
كان الارتقاء بالفن والفكر النقدي والمخيلة، والبحث (ربما المستحيل) عن الجمال، من وجوه التمييز بين الإنسان والحيوان، لكننا نقترب، في الأزمنة الحالية، من المقولة القائلة إنّ الفرق بين الإنسان والحيوان هو المال فحسب. إنّ الفنّ الذي يدغدغ العين ويستميل العواطف ويستقطب الاهتمام هو تجسيد لانحطاط المشروع الحداثي مثلما كان الفنان الفرنسي فرنسوا بوشيه في القرن الثامن عشر تجسيداً لتردّي القيم الكلاسيكية، ومثلما رأينا ما آلت إليه النهضة الإيطالية وأين استقرت بعض الأشكال والأساليب الفنية التي عرفت باسم «مانييريسم» (التكلّف في الفنّ)، ومثلما تحولت الرومانسية والكلاسيكية الجديدة في القرن التاسع عشر، في إنكلترا وفي فرنسا على السواء، إلى فنّ أكاديمي صرف.
يكفي الفنان اليوم أن يختار أسلوباً مكروراً ليكون حاضراً ضمن المشهد الفني السائد. يكفي أن يلتزم قواعد لعبة محددة. لا تلزمه عدّة ولا اختبار، لا تجربة ولا وقت، ولا حتى ثقافة. في الأمس القريب، أي في القرن التاسع عشر، أمضى الفنان مونيه حياته بأكملها يصوغ أسلوبه الفني وينحته. هكذا فعل عدد كبير من الفنانين المبدعين في حقب زمنية مختلفة. الفنان الياباني هوكوساي الذي عاش بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان مأخوذاً بهاجس الكمال، وهو الذي كتب: «اعتدتُ منذ السادسة من العمر أن أرسم شكل الأشياء. عندما اقتربتُ من الخمسين طبعتُ رسوماً كثيرة، لكنني لم أرسم شيئاً يستحقّ الذكر قبل أن أبلغ السبعين عمري. في الثالثة والسبعين، استوعبتُ قليلاً شكل الأسماك والنباتات وهيئة العصافير وطبيعتها الحقيقية. وحين سأبلغ الثمانين، سأحقق تقدماً. وسأتمكن، في التسعين، من تبصّر جوهر الأشياء، بحيث سأتوصل، وأنا في المئة، إلى مرتبة أعلى يتعذر تحديدها. وفي المئة وعشر سنوات يصبح كل شيء حياً: النقطة بعينها والخط بعينه...».
في زمن «الفاست» و«الكيتش» و«الغادجت»، كم يبدو كلام هوكوساي غريباً ويأتي من المناطق القصوى والبعيدة.
المشهد الفلسفي والفكري
إنّ الوهج الذي عرفه الغرب، وفرنسا بالأخص، في الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية والذي بلغ أوجه في النصف الأول من القرن الماضي يشهد تراجعاً كبيراً اليوم. تضؤل الأصوات التي بلورها الفكر النقدي وصقلتها النزعة الإنسانية، تلك النزعة التي تعاني في وقتنا الراهن من عزلة قلّما عانتها في تاريخ الفكر منذ الفلاسفة الإغريق حتى اليوم.
هكذا ينتقل الفكر والفلسفة والنقد من حالة إلى أخرى، من سارتر وميرلو بونتي وكلود ليفي ستروس وميشال فوكو ورولان بارت وجاك ديريدا وبيار بورديو وبول ريكور إلى فلاسفة من أمثال أندريه غلوكسمان وألن فنكلكروت وبرنار هنري ليفي. هذا الأخير اعتبر يوماً، في افتتاحيته الأسبوعيّة في مجلّة «لوبوان»، أنّ الرصاص الفلسطيني هو الذي قتل الطفل محمد الدرّة وليس الرصاص الإسرائيلي، مدافعاً بذلك عن فرضيّة جيش الاحتلال وقبل أن يقول التحقيق كلمته الأخيرة. وفي كتاب صدر هذا العام، استشهد برنار هنري ليفي بنتاج فيلسوف غير موجود ويدعى جان باتيست بوتول. لكن هذه الفضيحة لم تؤثر على نجوميته وعلى الهيمنة التي يفرضها على الساحة الإعلامية الفرنسية. إنه انقلاب المعايير، أو كما يقول الكاتب النمساوي كارل كراوس: «حين تنخفض شمس الثقافة إلى هذا الحدّ، يصبح للأقزام ظلال كبيرة».
الجوهرة تحت الأنقاض
منطق الرأسمالية المتوحّشة الذي تبنّاه الغرب المنتصِر، الممسك بزمام العالم، لم يترك آثاره فقط على الاقتصاد والاجتماع والبيئة والمناخ والثروات الطبيعيّة، وإنما أيضاً على المسار الثقافي وإنجازاته عبر الزمن. ومثلما هناك، الآن، نظام بيئي مهدَّد وأجناس حيّة تنقرض أو هي مهدّدة بالانقراض، هناك، في المقابل، كائنات من طبيعة فكرية وجمالية، على طريق الزوال. هناك مجالات إبداعية كانت أساسية في الثقافة الإنسانية طوال مئات السنين، وفي مقدمتها الشعر والفلسفة، وأضحت اليوم في موقع الهامش لأنها غير قابلة للتسليع ولا يمكن إخضاعها لمعادلة العرض والطلب.
الباحث الأميركي جيرمي رافكن الذي يدرس في مؤلفاته الأسباب الاقتصادية والعلمية التي تتحكم بتطور العالم، يرى أنّ مرحلة رأسمالية جديدة بدأت مع مرحلة ما بعد الحداثة وهي تعتمد على تحويل الوقت والثقافة والتجربة إلى صناعة، وتعمل على تسليع العلاقات الإنسانية وخصخصة المجال الثقافي.
حيال هذا الواقع، وفي موازاة ما تطلقه ثقافة الإعلان والدعاية والاستعراض، ثمة أصوات لا زالت تمثل التجربة المتوهّجة صاحبة البعد الكوني. أصوات تؤمن بأنّ الاقتصاد وحده غير كاف للنموّ، وأنّ التقدم التقني والتكنولوجي لا يستقيم فعلاً بدون تقدم على المستوى المعرفي والإنساني، وأن الجماليات والفنون والعلوم الإنسانية تساعد أيضاً على مقاربة نوازع البشر وفهمها حتى لا يصبح الإنسان نفسه فريسة لتلك النوازع. صحيح أن هذه الأصوات باتت قليلة، غير أنّ أهميتها تزداد في مقدار ندرتها وفي عدم انصياعها للمعايير السائدة وفي قدرتها على أن تكون، على الرغم من التهميش المفروض عليها الآن، نواة حيّة لأزمنة آتية. ألا يقول جلال الدين الرومي إنّ «الجوهرة تحت الأنقاض»؟
عيسى مخلوف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد