نهاية عصر الإيمان: مزاحمة الآخر المغاير والنفس الأمارة بالسوء

01-11-2006

نهاية عصر الإيمان: مزاحمة الآخر المغاير والنفس الأمارة بالسوء

الجمل ـ عبدالواحد علواني :  في كتابه الصادر حديثاً (نهاية الإيمان) يقول سام هاريس الكاتب الأميركي الذي يحتل مرتبة متقدمة في مبيعات كتبه داخل الولايات المتحدة، أن الدين يمزق المجتمع الإنساني. وهذه الملاحظة التي أثارت وتثير حنق الكثيرين عليه، تبدو لي ملاحظة صادقة على الأقل في سياق الراهن الدامي، فمعظم الصراعات الإنسانية يرتكز إلى أبعاد دينية، ومعظم النزاعات حتى السياسية منها بات يستند إلى أسباب ميتافيزيقية، فهل أصبحت الأديان عبئاً على البشر؟ وهل هي حقيقة تمنع قيام إنسانية عادلة، وهل هي الحاجز دون المدينة الفاضلة وهي التي تدعي الكمال؟

لاشك أن التاريخ حافل بصراع ديني لا يمكننا تلطيفه بالادعاء أنه نتاج فهم خاطئ للأديان، فالنصوص الدينية تحفل بدعوات الصراع على أسس ثقافية وفكرية، جنباً إلى جنب النصوص التي تدعو إلى فهم الآخر والتسامح معه وعدم إكراهه على ما لا يريد الإيمان به. ومعظم الكتب السماوية وغير السماوية فيها نصوص تحض على القتل على أساس الاعتقاد المعلن، ويرتبط الثواب والعقاب فيها بالاعتقاد أكثر من ارتباطه بالأخلاق والسلوك. بل إن التساهل في عقوبة الاختراقات الأخلاقية أو السلوكية يتم عبر أبواب متعددة تلتمس العذر للمارق على أن البشر كلهم خطاؤون، ولكن إزاء أي اختلاف في العقيدة تظهر العصبيات الصارمة متلفعة بخطاب عنيف ودعوة لممارسات شديدة الإيذاء.

ولا يمكن الركون إلى طمأنينة مزيفة من خلال محاولة إجراء قراءة مسالمة للنصوص وتفسيرها التفسير الملائم لمجتمع إنساني يسوده الوئام والسلام، ذلك أن القراءة المتشددة والمتبنية لحالة التعصب الديني، تستمد جذورها من هذا النص بحد ذاته، وباسم الله يعطي المتشدد لنفسه سلطة تحاول حجب الحرية والإرادة التي أتاحها الله لعباده، بل يتكفل بتعجيل العقاب قبل يوم الحساب.

والمعضلات الكبرى التي تواجه الفكر الديني تتمثل عادة في النفس الأمارة بالسوء وغواية إبليس ومزاحمة الآخر المغاير في العقيدة. ويتم التعامل مع النفس الأمارة بالسوء بدعوتها إلى التوبة والصلاح، وتُدرأ غواية إبليس بالاستعاذة منه، والاعتراف طلبا للغفران، مع لعنات سخية لإبليس ومكره ودسائسه، أما الآخر المزاحم في الاعتقاد، فلا يمكن التساهل معه، ولا التعايش على قدم المساواة معه، وكل فرصة أو متاح يجب أن يناله سيكون منة وتفضلاً. حتى لو كانت من أبسط حقوقه كإنسان خلقه الله حراً سيداً لنفسه.

لو تأملنا خارطة العالم اليوم، لوجدنا أن الصراع في معظم أصقاع الأرض صراع ديني على الحدود الملتهبة بين المساحات الدينية المتباينة، وصراع طائفي أو مذهبي داخل هذه الدوائر، وكلاهما جدل ديني تحول إلى معارك حامية الوطيس، ولا يمكن لأحد أن ينكر الحروب والصراعات القائمة والمستمرة من أقصى الأرض إلى أقصاها، والمؤسف أن المسلمين يكادون أن يكونوا طرفاً من أطراف كل نزاع، إذا لم يكونوا طرفيه.

لاشك أن الصراع سابق على العهد الاستعماري، ولكن التقسيمات الاستعمارية شتت العالم في جغرافية لئيمة ملأى بالفخاخ والبؤر والألغام التي تعود إلى طبيعة دينية في الغالب مع بعض الاستثناءات العرقية. فتم رسم مصائر الشعوب عبر تجمعات قلقة أذكيت حميتها عبر فلسفات وطنية تحاول أن تستجمع أقدارها في عالم مليء بالعمالقة المدججين بوسائل التدمير. لتشكل هذه الحميات الوطنية دريئة متواضعة تمنع واقعا أكثر بؤسا من التسلل، ولكن حتى هذه الوطنيات تعرضت إلى تسلط وهيمنة جعلتها رهن من رسم لها الحدود.
في راهننا ثمة دليل صارخ أشار إليه العديد من الكتاب والمفكرين على أن القوة الأكبر والمهيمنة على العالم اليوم (الولايات المتحدة الأميركية) تقوم سياستها على بعد ديني واضح، وتقود معاركها في أصقاع الأرض تحت شعارات لا تخفي بنيتها الدينية وخاصة بعيد 11من سبتمبر 2001، حيث كان بإمكانها أن ترتكس بشكل شرعي داخل ثقافتها، على خلفية أن ما تعرضت له كان بفعل رؤية دينية، ولا بد من ارتكاس ديني مضاد ، مماثل بل وأقوى، فكان استخدام مصطلح الحرب الصليبية ليس مجرد خطأ لغوي.

والسياسة التي يتبعها المحافظون الجدد في أميركا وغيرها لا تخفي نزعتها الدينية، بل إن خطابها يبدو مباشرا في هذا الإطار، ويتم استخدام مصطلحات رسالية مباشرة كالخير والشر والمهمة المقدسة لتكون عنواناً للفعل العسكري والسياسي والاقتصادي.
والمنطقة التي تدعوها أميركا بالشرق الأوسط الكبير، تخضع لسياسات هيمنة ترى مصالحها فقط، ولكنها لا تسير بمقتضى مصالحها فحسب، إنما تضرُّ مصالحها أحيانا لأسباب دينية جلية. فإسرائيل كيان ديني أقيم لأسباب دينية، ويتم دعم هذا الكيان لأسباب كثيرة، العامل الديني كان سبباً واضحاً سواء في الدعم الأوربي منذ بداية نشوء الكيان، أو في الدعم الأميركي منذ حقبة نيكسون وما تلاها.
ولسيطرة اللوبي اليهودي على مقتضيات السياسة الأميركية شأن كبير، وليس الأمر سراً، بل يدرك السياسي الأميركي أنه لن يتمكن من بلوغ مناصب رفيعة ما لم يتمسح برداء اليهود والصهيونية وإسرائيل.

منذ بداية الحرب بين مجاهدي أفغانستان وبين الإتحاد السوفيتي السابق، كانت نذر حروب دينية جديدة تطل برأسها، ومع الحمية الإسلامية التي تمت تذكيتها غربياً بما لا يقبل الشك ، تحولت المعركة من كونها معركة استقلال وطني، إلى جهاد ديني بين الإيمان والإلحاد، ويبدو لي أن تلك المعركة كانت وراء كل التحولات الجارية اليوم، فحركات التحرر الوطني على الرغم من استثمارها للبعد الديني بقيت حركات ساعية لرفع الظلم ودفع الاستعمار، ولم تحتكر تحت إطار واجبات دينية مضادة لطرف ديني آخر، وعلى الرغم من الحملات التبشيرية التي رافقت المد الاستعماري، لم يتم التعامل مع المستعمر على إنه المقابل الديني، وإلى اليوم لا يستخدم مصطلح المسيحية كمقابل لمصطلح الإسلام، مع أن العلم الغربي معظمه مسيحي، إنما يتم اللجوء إلى مصطلح جغرافي ليقابل المصطلح الديني دلالة على أن الأزمة هي مع أنظمة استعمارية وليس مع أديان سماوية، فيقال (الإسلام والغرب).
مقاومة الغرب اتخذت منذ حروب المجاهدين الأفغان لبوسا دينياً فحسب، وتعتبر التيارات التي لا تتبنى الشعارات الدينية متآمرة مع الغرب على الإسلام، وهجمات 11 سبتمبر تقصدت الآخر الديني، وكل نظريات الحركات الإسلامية قائمة على مبدأ الجهاد ضد الكفار، وقلما تتبنى حركة إسلامية مبادئ إنسانية عامة تطالب برفع الظلم والهيمنة، والعناية بحقوق البشر في الحرية والرأي والإرادة وتقرير المصير.
داخل الدائرة الإسلامية ثمة صراعات طائفية حادة في كل حدب وصوب، صراعات تتخذ شكلا داميا (الحالة العراقية كمثال) وصراعات تتمثل الاستبداد المذهبي (مثل الدول التي تتبنى مذاهب بعينها) ، وداخل الدائرة الغربية، بؤر الصراع تعود في عمقها إلى اختلافات دينية أو طائفية، ومن البلقان إلى أقصى ايرلندا وإلى القارة الأميركية، لا تخفي النوازع الدينية أسهمها الوفيرة في إدارة الصراع.

ولأن الأديان باتت مسؤولة مسؤولية مباشرة عن الواقع الدموي الذي نحياه بكل بلادة، لابد من إعادة النظر في التفسيرات المتداولة للأديان، ومدى ملاءمتها لمجتمع إنساني متنوع لا يفاضل بين الناس لمجرد الانتماء الديني، والبحث في إمكانية وضع رؤية شاملة للتعامل بين أتباع الديانات بعيداً عن الصراع والاضطهاد والإهانة والسخرية بالرموز والمقدسات، وإمكانية الوصول إلى عقد اجتماعي عالمي يبين الحدود والآفاق التي يمكن للانتماء الديني أن يسير فيها، فقيم التسامح متوفرة في كل الديانات ولكن يتم تفسيرها وفق رؤية تيارات متشددة، فتضيع في خضم نصوص مقابلة تغدو كزيت يؤجج نار البغضاء التاريخية. إن أي طرف يبيح لنفسه التعامل وفق أجندة دينية مع الآخر يبيح للآخر أن يعامله وفق أجندته الدينية، وهذا ما يحول الدين إلى أيديولوجية تخاصمية استعلائية اقصائية، بدلا من أن يكون وعياً إنسانيا راقياً.

 علينا أن نعيد تأسيس العديد من التعريفات والمفاهيم، لنخرج من حالة النقمة الدينية، إلى حالة التعاطف الإنساني، والتعاضد لمواجهة القضايا الإنسانية الشائكة وخاصة فيما يتعلق بالتنمية وأبوابها. علينا أن ندرك نظرية تقبل الآخر هي جزء لا يتجزأ من هويتنا، وأن التعامل مع الآخر بمقتضى ما يصدر عنه من أفعال خير من التعامل معه بمقتضى الأقوال والنوايا والمضمرات.
إن عدم توافر رؤية عميقة لهذا الجانب، وإهماله بشكل متعمد، سيبقي (الصراع الديني) حراكاً رئيسيا في تاريخ البشر، يدفعون المزيد من الضحايا كل يوم وهم يحتسبون الفضل في السماء.


الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...