هل خيار المقاومة هو سبب الحرب السورية؟
ما عاد أحد يحكي عن الإصلاح والديمقراطية في سوريا. عاد العالم الأطلسي يطرق أبواب دمشق باحثاً عن تعاون أمني. لو كشفت القيادة السورية يوماً ما تفاصيل ما يجري في الكواليس منذ فترة لربما فوجئت المعارضة وداعموها من دول إقليمية بأن معظم دول «مجموعة أصدقاء سوريا» التي وعدت بأنهار اللبن والعسل في طريق اطاحة الرئيس بشار الأسد، تأتي اليوم الى العاصمة السورية تحت جنح الظلام طالبة الإفادة من الخبرات السورية في مكافحة الإرهاب. لا يتردّد بعض كبار الزوار الأمنيين في القول: «إننا أخطأنا التقدير». كان الرئيس السابق للمجلس الوطني المعارض عبد الباسط سيدا واضحاً في قوله مؤخراً ان «الولايات المتحدة الاميركية وغيرها من الدول الكبرى لها مصالح وحسابات خاصة في إدارة الأزمات والتحكم بها». هو يقول ما يفكر به كثير من المعارضين اليوم الذين تركهم الغرب الأطلسي على قارعة الطريق والأسئلة والقلق.
نحن اذاً امام لحظات مفصلية في تاريخ سوريا، تتطلب نقداً ذاتياً صريحاً من قبل كل الأطراف، لنعرف الأسباب الحقيقية للحرب وكيفية الخروج منها.
لنعد قليلاً إلى الوراء
سبق وصول بشار الأسد الى سدة الرئاسة في العام 2000، بخمسة أشهر فقط تولي الرئيس «التبشيري» جورج بوش الأبن مقاليد البيت الأبيض محاطاً بصقور المحافظين الجدد. سرعان ما تعامل هؤلاء مع سوريا على انها «دولة مارقة». بعد أقل من 10 أشهر على وصول الأسد الى الرئاسة، هاجمت اسرائيل محطة رادار للجيش السوري في لبنان على بعد 45 كيلومتراً إلى الشرق من بيروت. بررت ذلك بالقول «إنه رد على هجمات «حزب الله» وأن إسرائيل طبقت بدقة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 بسحبها قواتها من جنوب لبنان في مايو 2000». كانت الرسالة واضحة ومفادها ان سوريا ستبقى هدفاً للطيران الإسرائيلي حتى تنسحب من لبنان.
ما كاد الأسد يهضم تلك الارتدادات الإسرائيلية والفلسطينية والدولية ووصول آريل شارون الى رئاسة الحكومة، حتى اهتز العالم بالاعتداءات الإرهابية على أميركا في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وهو اليوم الذي عادة ما يحتفل فيه الرئيس الأسد بعيد ميلاده. قال نائب الرئيس عبد الحليم خدام آنذاك: «إن حرباً عالمية جديدة بدأت في نيويورك وواشنطن وإن القرار 1373 يعني، عملياً، أنّه قانون طوارئ دولي، ويعني عملياً الحد من سيادة الدول وجعلها تحت وصاية مجلس الأمن ويفتح الباب أمام حروب متعددة» ... كان على حق.
كذلك توقعت المعارضة، فكتب أحد أعرق المعارضين الماركسيين عبد العزيز الخير: إن احتلال بغداد يأتي في سياق مشروع الشرق الأوسط الكبير وإن الاتفاق الأميركي الفرنسي الذي تبعه جاء لإخضاع النظام السوري «بغية إسقاط سائر حلقات المحور الذي يندرج فيه مع إيران و «حزب الله» و «حماس»، ذلك المحور الرافض لمشروع الشرق الأوسط الكبير»...
وفي تحليل خارجي دقيق، قال الكاتب الفرنسي كزافيه بارون في مؤلفه حول تاريخ سوريا: «لقد كان بوش والمحافظون الجدد الأميركيون مصمّمين على زعزعة النظام السوري، ثم صلّب آرييل شارون في إسرائيل موقفه حيال سوريا بسبب دعمها للانتفاضة الثانية ولـ «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية المتطرفة مثل «حماس» التي كان رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل يقيم في دمشق».
لم يكن الخيار الاول لبشار الأسد مواجهة أميركا. وواشنطن التي أرسلت وزيرة خارجيتها مادلين أولبرايت للمشاركة في جنازة الرئيس حافظ الأسد رأت في الرئيس الجديد عنواناً لمرحلة قد تقدّم الانفتاح على المقاومة. وحافظ الأسد نفسه ما كان يوماً يريد مواجهة أميركا وإنما تصحيح سياستها. تقول المستشارة الرئاسية السورية د. بثينة شعبان في كتابها المهم بوثائقه «عشر سنوات مع حافظ الأسد»: «لطالما كان حافظ الأسد يقدّر العلاقة مع الولايات المتحدة ويتطلّع إليها حتى في أوج العلاقات السورية مع الاتحاد السوفياتي، وحين كان يتحدّث إلى وفد أميركي كان يقول لهم: نحن لا نريد منكم تأسيس علاقة معنا تتعارض ومصالح بلادكم، بل نريد أن تأخذوا مصلحة بلادكم في الاعتبار، مصلحة الولايات المتحدة وحدها، وليس مصلحة الآخرين، في إشارة إلى إسرائيل». هو الكلام نفسه تقريباً الذي قاله بشار الأسد لكولن باول حين جاءه متوعداً او مهدداً بعد اجتياح العراق.
قبل لقاء باول بثلاث سنوات، قال بشار الأسد في خطاب القسم الأول العام 2000: «إننا ندعو الولايات المتحدة الأميركية لكي تقوم بدورها بشكل كامل كراعٍ لعملية السلام بشكل حيادي ونزيه... ونؤكد هنا على أننا مستعجلون لتحقيق السلام، ولكننا غير مستعدين للتفريط بالأرض ولا نقبل لسيادتنا أن تمسّ».
الرحلات الأولى التي قام بها الرئيس السوري إلى الخارج كانت صوب دول مناهضة للمقاومة المسلحة والمعروفة بصفة «الاعتدال». زار في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000 كلاً من مصر والسعودية والأردن. بين هذه الدول اثنتان تقيمان علاقات مع إسرائيل. هو كان أيضاً في قمة بيروت في آذار/مارس 2002 التي تبنّت بوضوح المبادرة السعودية القائلة بـ «علاقات طبيعية مع إسرائيل في سياق سلام شامل». لا بل إنه ذهب للتفاوض مع الإسرائيليين بوساطة تركية في العامين 2007 و2008».
برر الكاتب الألماني فولكر بيرتس في حينه انفتاح الأسد بالعوامل الاقتصادية، فقال: «لا يمكن النظر إلى سوريا خارج سياقها الإقليمي، فالصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي لم يُحلّ، أصبح يشكل عبئاً على بلد كسوريا، من حيث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك سياسياً، ولهذا السبب سعى بشار الأسد إلى السلام مع إسرائيل».
المقاومة بدل الانفتاح
سرعان ما تبدّل الانفتاح واتجه بشار الأسد صوب التحدي بعدما تبين له أن صقور الإدارة الاميركية وصقور إسرائيل يتجهون لإخضاع سوريا، فالتحم أكثر فأكثر بخيار المقاومة. ها هو يقول في القمة العربية في الأردن: «إنّ شارون رجل مجازر، رجل قتل، رجل يكره العرب»، وخاطب الإسرائيليين قائلاً: «هم يعرفون تماماً كيف سيكون الوضع إن أخطأوا التقدير، خصوصاً أنهم لم ينسوا هزيمتهم في لبنان على يد المقاومة اللبنانية منذ أقل من عام.... المهم أن نقرّر ونصمّم، وبكل تأكيد سنحقق ما نريد». ثم رفع اللهجة أكثر في القمة العربية في الدوحة التي خصصت لغزة في العام 2009. قال «إن العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم، وإن ما أخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة». وتوّج خياره بصورة طافت العالم من قلب دمشق جمعته مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والسيد حسن نصرالله، وذلك قبيل القمة العربية في ليبيا عام 2010. قال آنذاك في مقابلته مع قناة «المنار» التابعة لـ «حزب الله»: «إن إسرائيل التي لا تفهم سوى لغة القوة وتدرك أن الجيش السوري يطوّر نفسه لخوض أي حرب تفرض على سوريا. تزامن ذلك مع تمرير كميات كبيرة من الصواريخ والأسلحة الى «حزب الله».
بين تهديده لإسرائيل عام 2010 وغرق سوريا في حربها 2011. المسافة قصيرة. هل ثمة أوضح من هذا؟
صحيح أن قيادة بشار الأسد وكما كتب في حينه سيمور هيرش: «قدّمت معلومات استخبارية كبيرة الأهمية للولايات المتحدة الاميركية» عن إرهابيين ربما لهم علاقة بالاعتداءات، لكن هيرش نفسه يضيف: «إن الأسد لم يحصل على أي شيء من أميركا وأن الشيء الوحيد الذي تمّ اقتراحه على النظام السوري هو الاستسلام. لكن العكس هو الذي جرى: صمد النظام».
هذا ما تبين لاحقاً من لقاء الأسد مع كولن باول وزير الخارجية الأميركي الأسبق في 3 أيار (مايو) 2003. طلب باول بوقاحة من الأسد إغلاق مكاتب «حماس» والتنظيمات الفلسطينية وقطع العلاقات مع «حزب الله». قال: «اطلب منكم إغلاق هذه المكاتب وإخبار قادتها أن يجدوا مكاناً آخر ليمارسوا نشاطهم فيه، وهذا سيُرى على أنه إشارة إيجابية من قبلكم... نريد أن نطلب منكم أيضاً وقف نشاطات «حزب الله».. حينها سيقول الناس إنه فجر جديد في العلاقات السورية الأميركية». ردّ الأسد بأنه لن يطرد أي فلسطيني إلا إلى بلاده.
كان الأسد قبل استقباله الوزير الأميركي ببضعة أشهر قد زار طهران والتقى مرشد الثورة السيد علي خامنئي تمهيداً لقتال الأميركيين في العراق. قال في اللقاء الذي حصل في 16 آذار/ مارس ٢٠٠٣: «نحن على اقتناع بأن مقاومة ستنطلق ضد هذا الاحتلال ولا بد لنا من التنسيق قبل الحرب، لأنه في حال نجحت أميركا في العراق فستصبح إسرائيل هي التي تقرر مصير جميع الدول بما فيها سوريا وإيران، وسوف تنتقل الحرب ضد الفلسطينيين وتستهدف القضاء على المقاومة... إن أكثر شيء يرعب الأميركيين هو أن نقول لهم إن أبناءكم سيُقتلون في العراق».
تثبت بعض المحاضر السرية بين الأسد وخدام والمسؤولين الإيرانيين أن هاجس الفتنة المذهبية كان حاضراً، وأن الأسد تحدث مراراً عن احتمال لجوء أميركا وإسرائيل وحلفائهما إليه بعد العجز عن مواجهة محور المقاومة.
ربما من المهم العودة الى كل هذا التاريخ، لنفهم أن الهدف الأول والأخير كان تدمير سوريا وإنهاء دورها وتطويق إيران وضرب «حزب الله». لا شك في أن سوريا لم تكن دولة فاضلة. كان فيها قبضة أمنية أذلت كثيرين، وفيها فساد ورشوة وطبقة أثرت على حساب الشعب.. لا شكّ أيضاً في أن بعض مَن تظاهر في بداية الاحداث كان يحلم بتحسين حياته وإصلاح النظام، لكن لا شك أيضاً في أن الخطأ الفادح الذي ارتكبه بعض رؤوس المعارضة خصوصاً في المجلس الوطني ثم الائتلاف، كان في توجيه جزء من المعركة بداية ضد المقاومة، وبعث رسائل انفتاح على إسرائيل.
الآن، سوريا على مشارف مرحلة مفصلية. بعد حلب لن يكون كما قبلها. السؤال المركزي: هل ستقبل الإدارة الأميركية المقبلة بانتصار سوريا وإيران و «حزب الله» وروسيا؟ إذا قبلت فهذا يعني فشل مشروع... والمرجح بالتالي أن تكون الإدارة الأميركية المقبلة خصوصاً اذا وصلت هيلاري كلينتون الى سدة الرئاسة، كبيرة الخطورة.. هذا يفترض تسريع وتيرة الحرب في ما بقي من وقت قبل الانتخابات الأميركية، لأن ما بعدها مفتوح على المخاطر كلها.. إلا اذا كان في جعبة فلاديمير بوتين مشروع لتسوية تاريخية بين إسرائيل وسوريا تشمل «حزب الله» وتقنع إيران بأن ثمة بديلاً للمقاومة المسلحة... هذا صعب الآن، لكنه غير مستحيل.
سامي كليب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد