600 ألف لبناني عبروا الحدود بعضهم بملابس النوم
سعاد جروس: ليسوا غرباء اللبنانيون الذين قصدوا سوريا بعشرات الألوف. انهم بين اشقائهم وأهلهم وعلى ارض عربية تدعم المقاومة. والذين عبروا الحدود الى الداخل بلغوا حتى الاسبوع الاخير ستماية ألف (بمعدل 50 ألفاً في اليوم الواحد) لكن ايمانهم بالصمود تشوبه دمعة حزينة تحجرت في العين, وغصّة من النوع الذي لا يوصف.
حين سئلت زينب عن بلدتها الدوير, تحجرت دمعة في مآقيها وتعذر عليها الكلام. جاءت زينب مع زوجها واثنين من أولادهما, تركوا كل شيء خلفهم, وخرجوا بما يرتدونه من ملابس. أما بناتها المتزوجات, فلا شيء عنهن, بعدما انقطع معهن الاتصال. لا ترغب زينب في الحديث عن مأساة بلدتها, وكلما عرج السؤال نحو الوضع الإنساني هناك, أدارت دفة الحوار باتجاه المقاومة, وكيف تقوم إسرائيل بترصد الأهداف بدقة. فالصواريخ تتعقب المنتمين لـ«حزب الله» ولا تخطئ في إصابة منازلهم, وكأنما هناك عملاء يرشدونهم إليها. تنظر بطرف العين نحو ابنها المراهق وتقول, لم يكن يرغب في المجيء الى سوريا, فهو يريد الالتحاق بالمقاومة, ومع أنها لا تمانع بذلك, بل تعتبر استشهاد ابنها عزاً له ولها, إلا أنه مازال صغيراً على القتال, وكما رأيناه يمتلئ حماساً وتفاؤلاً, ويؤكد أن ما منعه ليس صغر سنه, بل عدم قبول «حزب الله» به, فقد صار لديه فائض كبير بالمقاتلين. لكن ماذا عن وضعهم هنا في دمشق, وكيف وصلوا؟ تقول زينب, قضينا ثلاثة أيام في مدارس لبنانية, قبل أن نقرر المجيء إلى سوريا, وجدنا فيها استقبالاً ومساعدات لم تتوافر في لبنان, مع حفاوة تفوق التوقعات. ولدى وصولها مع عدد من الأسر اللبنانية إلى مقر الجمعية السورية للعلاقات العامة, صادفوا مواطناً سورياً قد وصل للتو من ألمانيا, أعرب عن رغبته في استقبال عائلة في بيته, فذهبت وأولادها معه, وأقامت لمدة ثلاثة أيام, لتبحث بعدها عن مكان آخر, بعدما واجهتها مشكلة لم تكن بالحسبان, فقد وجدت نفسها وعائلتها تتقاسم سكناً صغيراً مع شاب عازب, ما سبب إحراجاً للضيف والمضيف معاً, ومع أن المضيف نفى أي شعور لديه بالإحراج, وأبدى استعداده لاستضافة عائلة أخرى, إذا خرجت من بيته عائلة زينب, لأنه عاد إلى سوريا لتقديم المساعدة في مثل هذا الظرف العصيب. على كل حال, ما كان من شباب الجمعية إلا أن بحثوا لها عن خيار آخر, فذهبت واستطلعت منزلاً, قيل لها انه مستقل ويقع داخل مزرعة, ولدى معاينتها له على ارض الواقع, لم يعجبها البيت وأكدت أنه غير صالح للسكن, عدا كونه يقع في مكان ناء, وتتساءل إذا بقيت هناك مع عائلتي فمن يسأل عنا, لذلك فضلت العودة الى الجمعية, على أن تجد منزلاً آخر, أو تعود أدراجها الى منزل ذلك المتبرع بانتظار الفرج.
مقر جمعية العلاقات السورية العامة المتولية مهمة تنسيق الاتصال بين القادمين من لبنان والمواطنين السوريين الراغبين في استضافتهم, والمتبرعين بالمساعدات الغذائية والصحية, تحول الى محطة لتجمع القادمين من معبر جديدة يابوس, حيث يتولى شباب الجمعية البحث عن المكان المناسب لكل عائلة بين العناوين التي دونها متبرعون على أوراق صغيرة وكبيرة علقت على الجدران وغطتها بالكامل, نقرأ فلان الفلاني مستعد لاستضافة عشرة أشخاص, أو أربعة في مسكن ثلاثة غرف في مزرعة بالكسوة أو درايا أو الصبورة... إلخ, شخص آخر, يزيد على الاستضافة تأمين كافة المستلزمات. وإذا تم التوفيق بين الضيف والمضيف تبدأ الإجراءات التالية كتسجيل اسم المضيف, وماذا سيقدم وكافة البيانات من رقم الهاتف وعنوان إقامته وعنوان البيت أو المزرعة الموضوعة في الخدمة, ومن ثم يوقع على تعهد بما سيقدمه, وكذلك بيانات بخصوص الضيوف من حيث الأسماء والأعمار مما تحتويه البطاقة الشخصية , بالإضافة الى الحاجات الخاصة المتعلقة بوجود أمراض معينة بحاجة لأدوية, أو لنوع سكن معين. إحدى المتطوعات في الجمعية قالت, كثيراً ما نواجه مشكلات مع المصابين بأمراض الربو أو السكري أو العاجزين, فهؤلاء لا يناسبها السكن في أي مكان, ويحدث كثيراً بعد إيصال العائلة إلى المكان المقصود للسكن أن تتم إعادتهم, لتبدأ عملية البحث مجدداً, كأن يكون هناك شخص عاجز غير قادر على صعود الدرج, أو مصاب بالربو لا يمكنه النوم في منزل لا يتمتع بتهوية مناسبة. متطوعة أخرى تنوه الى مشكلة أخرى اعترضت عملها كثيراً في الأيام الأولى فتقول, نتيجة للضغط الكبير جراء تدفق القادمين من لبنان والوضع الإنساني المؤلم الذي يعيشونه لا يوجد وقت للتحقق من مواصفات البيوت التي توضع في الخدمة, كما أن المواطنين الملهوفين لإغاثة القادمين, تجعلهم لا يفكرون بأي شيء آخر سوى إيواء النازحين من تحت القصف, فيأخذون عائلات دون تسجيل, ما يحرم تلك العائلات من المساعدات الغذائية والدوائية المتوافرة في الجمعية, والمشكلة أيضاً أن الكثيرين يجدون حرجاً في طلب دواء أو أي شيء آخر من المضيف, ومنهم من يعود الى الجمعية فلا نعرف عن معاناتهم سوى مصادفة. هناك تفاصيل ذات خصوصية لا ندركها في وقت الازدحام كالحاجات الخاصة للنساء والأطفال, وغالباً ما يخجلون من إعلانها, ونحن لا نتذكر السؤال عنها تحت وطأة العجلة. المعتز بالله حسن قال: رأينا نساء جئن من تحت القصف بملابس النوم, وعند الحدود كن يستغثن بنا لسترهن, ومعظمهن من عائلات متدينة ومحافظة, وقد رأيت شباباً يخلعون ملابسهم ويقدمونها إليهن, منظر إنساني يصعب وصفه, إذ ليس هناك ما هو أكثر قسوة من انتهاك حرمة المحجبات, هذا لا يحسه إلا من يعرف ماذا يعني أن تخرج امرأة محجبة من بيتها مذعورة بملابس النوم لتنجو بأولادها.
ولعل معاناة النساء المحجبات مضاعفة عن غيرهن, في هذه الظروف حيث لا يبقى مكان للحديث عن حرمة الإنسان الخصوصية, في ظل انتهاك سيادة الوطن, واستباحته بتفويض دولي قذر, ليجري بالقسر والإرهاب تهجير مئات الألوف من النساء والأطفال, ليتركوا في العراء دون حام أو معين, بينما كانوا أعزاء وأسياد في قراهم وبيوتهم, ومن الشجعان الذين أهدوا ببسالتهم للعرب أجمل الانتصارات. السوريون الذين تداعوا بلهفة لإغاثة القادمين من لبنان, حركهم تضامنهم الكامل مع المقاومة ومع لبنان الذي لا يرون فيه إلا جزءاً لا يتجزأ من بلدهم, ولا يعتبرون أهله إلا بعضاً من أهلهم. شاب لبناني قال لشاب سوري عند الحدود حين بادر الثاني بتقديم المياه له لدى وصوله: لم نتوقع منكم هذه الحفاوة بعد عام من العداء وحروب الساحات والخيم. فضحك السوري ورد عليه: الآن لا مجال لطرح مسائل سياسية, عندما تعود الى بيتك في لبنان سالماً سيكون لنا حديث آخر.
إذاً, كما ان الخلاف لا يفسد للود قضية, فالعكس صحيح في علاقة الشعبين, وهو ما عبرت عنه خيمة وطن التي نصبت في شتاء العام الماضي أيام تقرير ميليس في ساحة الروضة قبالة السفارة الأميركية, للرد على خيمة 14 آذار في بيروت, عادت لتنتصب الآن على الحدود في استقبال الأشقاء, ولينسى الفريقان أيام الشقاق, وتتبخر الخلافات في اللحظات الأولى على وقع سخونة الأحداث, وإن كان لابد أن تعود في الأيام اللاحقة فلن تكون أكثر من مناكفات لا مفر منها بين أفراد العائلة الواحدة. حالياً لا تخفي ثناء على سبيل المثال تذمرها من السوريين الذي يقدمون بيوتاً غير مناسبة لإسكان الضيوف. ومن طرف آخر, تنتقد جومانة تهالك السكن الجامعي السوري. في حين يستغرب الشاب جمال طلب ضيوفه اللبنانيين أركيلة في هذه الظروف الصعبة!! كما لا يفهم سامي لماذا رفض اللبنانيون مناسف البرغل والارز التي قدمت لهم بحجة أنه لا دليل على أن اللحم الذي يغطيها حلال!!
غير مفهوم
بعيداً عن تلك النوافل, ثمة أشياء كثيرة تجري عند الحدود غير مفهومة للسوريين, أهمها كما أخبرنا الدكتور نزار ميهوب رئيس جمعية العلاقات العامة بأن إدارة الهجرة والجوازات على الطرف اللبناني لا تقوم بختم جوازات القادمين الى سوريا. بينما أشار متطوع يعمل مع أكثر من جهة أهلية في أعمال الإغاثة الى الأرقام المزورة التي تعطى لوسائل الإعلام؛ فقد أوردت وكالة «رويترز» في نبأ لها أن عدد اللبنانيين الذين نزحوا الى سوريا يقارب الثلاثين ألفاً, ويؤكد المتطوع أن هذا الرقم سخيف جداً, ففي اليوم الواحد يسجل معبر جديدة يابوس وحده رقم 18 ألف نازح, فإذا كان هناك ثلاثة معابر, فلدينا يومياً ما لا يقل عن 50 ألف نازح مسجل نظامياً, عدا هؤلاء الذين يتم إدخالهم دون وثائق, وعدا الداخلين بالطرق غير النظامية, فالرقم التقريبي حتى تاريخ هذا اليوم وبحده الأدنى حوالى 600 ألف. ثم يستغرب, لماذا يتعمد الإعلام التعتيم على الجهود السورية المبذولة لنجدة اللبنانيين. ويؤكد أن 40% منهم موجودون في حمص و40 % في دمشق و20% في طرطوس, وقد تم فتح كافة المدارس في المناطق الحدودية لاستقبالهم ريثما تترتب أوضاعهم, بدءاً من العريضة ومروراً بقصير حمص ولغاية الزبداني وجديدة يابوس في ريف دمشق. كما وضع الكثير من المواطنين منازلهم تحت التصرف, ففي دمشق هناك 500 سكن من شقق وفلل وغرف بمزارع في دمشق ومحيطها, وقدمت حلب حوالى 400 سكن وحمص 200, وسائر المحافظات قدمت بأعداد أقل كطرطوس واللاذقية ودرعا والرقة ودير الزور... إلخ.
يقودنا متطوع آخر الى الغرفة التي تتكدس فيها المواد الغذائية والأدوية, هناك سنجد أطباء وصيادلة وأفراد عاديين جاؤوا لتقديم المساعدة. يقول المتطوع حسن, هناك فائض بكل شيء, لا نعرف من أين تهطل علينا الإعانات, وجميعها من جهات أهلية أو أفراد, حتى باتت منظمة الهلال الأحمر السوري ترسل إلينا النازحين الذين يلجأون إليها.
غسان
غسان مع زوجته وأهلها كانوا في سيارتهم الفان عند باب الجمعية بانتظار إيجاد مسكن مناسب لهم. يخبرنا غسان أنهم عادوا للتو من الكسوة حيث فتح لهم منزل في مزرعة نائية, لم تتخيل هذه العائلة للحظة واحدة المبيت في مكان بعيد على هذا النحو, إنهم يريدون بيتاً قريباً من دمشق, غسان يستنكر هذا الوضع بالقول: لم نأت من تحت القصف لنسكن في منفى. في تلك الأثناء تصل السيدة أحلام لتسأل إذا كان أحد يحتاج الى منزل فتقودها متطوعة الى غسان, لتخبرهم أن لديها صالة قريبة من مقر الجمعية ستخليها لهم لهذه الليلة, ريثما يتم تجهيز المزرعة في داريا ليتدبروا أمرهم فيها, ريثما يأتي الفرج. وبينما كان شباب الجمعية يسجلون البيانات, فهمنا من السيدة أحلام أن المزرعة لأخيها المقيم في دولة أوروبية, وقد اتصل بها وفوضها بوضع المزرعة بتصرف من يحتاج اليها من اللبنانيين.
زوجة غسان وهي عروس لم يتجاوز عمر زواجها ستة أشهر, تجلس صامتة إلى جوار أختها وترفض الكلام, شقيقتهما الصغيرة تجول بعين حزينة ومكسورة وتدمع لدى سؤالها من أين أتيتم؟ تغص وتهز رأسها وكأن لا كلام يقال في هذا المقام, أمهم بدت أكثر تماسكاً وتحدثت إلى «الكفاح العربي», جئنا من (مشغرة) قلعة «حزب الله». أما صهرها غسان الذي لم يتجاوز العشرين عاماً فهو من بلدة €ليلة€. وتتابع, لولا القصف المكثف على مشغرة, لما فكرتُ لحظة بمغادرة منزلي؛ إنها لحظات صعبة, لكن إحساسها يؤكد أن المسألة لن تطول أكثر من أسبوعين لتعود مع أولادها. يسألها أحد الواقفين, أنتم من (مشغرة) التي غنت فيروز لقمرها!! فتنتشل ابتسامة من مرارة أيام سوداء وتهز رأسها بالإيجاب. بينما تبرق عينا غسان الصغيرتان بالتحدي معتزاً بانتسابه إلى بلدة ليلة في قضاء النبطية, وبعيشه مع أهل زوجته في مشغرة حيث يعمل في تصنيع كحل الحجر. نسأله ماذا تقصد بالكحل فيحرك اصبعه على جفنه قائلاً: الكحل... كحل العين. يتدخل آخر في الحديث ليسأل, ومتى يكحل العرب عيونهم بانتصار المقاومة؟ فيؤكد غسان وبكل ثقة لن يطول الأمر كثيراً, نحن من الذين حملنا «حزب الله» في البداية 50% من المسؤولية عما يحدث, ولم نتوقع أن يكون على هذا المستوى من القوة والمقاومة, والآن أقول انهم سينتصرون, لأن إسرائيل تفعل ما تفعله من تدمير في لبنان انتقاماً لكرامتها التي هدرت في الجنوب في العام 2000 , لا رداً على أسر الجنديين
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد