«الكوريدور» الكردي يضغط على أنقرة: هل من تغيير في سياسة تركيا السورية؟
العملية العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة بجيش كردي للسيطرة على مدينة الرقة، والتي تحولت إلى محاولة السيطرة على المنطقة الممتدة من نهر الفرات غربا إلى منبج، آخر وخير دليل على الحصاد المر للسياسات التركية بشأن سوريا منذ اذار العام 2011.
لكن الأكثر خطورة أن هذه العملية تقرب أكثر من بلوغ «العدو» الكردي هدفاً استراتيجياً وهو وصل كانتون عفرين بكانتون عين العرب (كوباني). وهذا الوصل لم يكن بطريقة تفكير تقليدية. بل في غاية الدهاء إذ إنه، في حال حصوله لن يكون بحاجة لينال المنطقة المحاذية للحدود التركية بين جرابلس وإعزاز، بل المنطقة التي تحاذي هذا الشريط لجهة الجنوب. منطقة بعيدة عن مرمى المدفعية التركية وبعيدة بطبيعة الحال عن مرمى الطائرات التركية، حتى لو كانت داخل الحدود السورية بمتر واحد.
مع ذلك، فالتفاصيل الكثيرة للعملية تعكس القصور الذي بات يستحكم بالعقل السياسي والأمني التركي.
في وقت كان رئيس الجمهورية يحتفل كما ليس من قبل بما أسماه «يوم فتح» اسطنبول، في استعراض ضخم مساء الأحد الماضي كانت ثلة من المقاتلين الأكراد الموسومين في تركيا بالإرهاب، يعبرون في الصبح نهر الفرات خفافاً في اتجاه الغرب، كاسرين خطاً أحمر آخر من الخطوط الحمر التركية الكثيرة التي استحالت إلى لا لون من العراق إلى سوريا إلى مصر وشرق المتوسط وليبيا والقائمة طويلة.
الاستعراض السلطاني لم ينجح في أن يخفي حقيقة أن الانتفاخ في الخطاب، والصورة ليس سوى تورم يئن من الوجع عند أول وخزة دبوس.
الفوبيا التركية من الأكراد لم تستطع أن تترجم نفسها خطوات عملية على الأرض. لم تستطع أن تمضي في دعم تنظيم «داعش» حتى النهاية في معركة عين العرب (كوباني). ولم تستطع أن تحمي ضريح سليمان شاه داخل الأراضي السورية، وهو لا يبعد عن الحدود أكثر من 27 كيلومتراً، فنقلته ذات ليل إلى منطقة على حدودها مباشرة.
أما حيث استطاعت ذلك، وكان حصراً داخل الأراضي التركية، فكانت الحرب المدمرة ضد الأكراد في مدنهم في جنوب شرقي البلاد، فصب النظام التركي، بجناحيه السياسي والعسكري، جام غضبه على السكان والبيوت التي أحالت أحياء بكاملها خراباً وهجرت عشرات الآلاف من منازلهم، تائهين في العراء.
أما المأزق الأكبر الذي تقع فيه تركيا ففي العلاقة مع الولايات المتحدة. وبعدما كاد البلدان يتصارعان بشأن ليبيا قبل أن يرضخ الرئيس رجب طيب أردوغان ويوافق على عملية حلف شمال الأطلسي هناك، تكرر السيناريو في سوريا. تركيا تريد منذ اللحظة الأولى منطقة عازلة، فيما الولايات المتحدة عارضت أولاً لأنها تواجه معارضة من سوريا وإيران وروسيا. وثانياً لأن التطورات اللاحقة أظهرت أن لواشنطن أجندتها الخاصة بها لكل المنطقة الحدودية السورية مع تركيا.
النظرة إلى المشهد العام الحالي يفترض أن تتم بمعزل عن الموقف الكردي الذي يرى أن الفرصة التاريخية الحالية قد لا تتكرر، ليس فقط بالنسبة لأكراد سوريا، بل لكونهم امتداداً اتنياً لأكراد تركيا وسياسيا لـ «حزب العمال الكردستاني».
إن العدالة والمساواة بين مكونات أي وطن هما الشرط الأول لإبعاد شبح التفكير بالنزوع إلى الانفصال فالاستقلال. وبما أن الأنظمة المتعاقبة، على امتداد القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، حيث يعيش الأكراد أحسنوا الإضطهاد لا المساواة فعليها أن تتحمل العواقب لأن دفق التاريخ لا يعترف بالتقصير والقصور، بل بالبذل والاجتهاد للعيش بحرية الهوية.
كما أنه يجب ألا ينظر إلى المسألة الكردية في سوريا على أنها مجرد مسألة وطنية تتعلق بالجغرافيا السورية، بل إنها الأكثر بعداً خارجياً متصلاً بمكون كردي آخر خارج الحدود السورية، وبالتحديد في تركيا. لذلك فإن ما يرسم لأكراد سوريا يستفيدون منه حتماً، لكنه اكبر منهم وهو ليس سوى مدخل للمحطة الأهم، وهي مستقبل أكراد تركيا الأكثر عدداً وقوة وعراقة في النضال وتعرضاً للإضطهاد.
تجد تركيا نفسها ليست فقط محرجة، بل مكبلة إزاء المسار الذي تتخذه عملية منبج. إذ أنها جاءت بعد لقاءات بدأت تعقد في الأسابيع الأخيرة للبحث في كيفية إخراج «داعش» من منطقة المئة كيلومتر بين جرابلس وإعزاز.
وفيما كانت تركيا تنتظر إجابات من الجانب الأميركي حول التعاون المشترك ضد «داعش» فاجأت واشنطن حليفتها تركيا بالعملية ضد الرقة، ومن ثم وهذا الأكثر حساسية لتركيا تجاوز الفرات غرباً نحو منبج. وبعدما كان رجب طيب اردوغان يطلب من الأميركيين أن يختاروا بين أن يكونوا مع تركيا أو مع «الإرهابيين» الأكراد، جاءت عملية الرقة ـ منبج لتعطي الجواب بأن واشنطن هي مع الأكراد لا مع تركيا.
القدرة التركية على التحرك أو الرد وتلافي الأضرار محدودة جداً تكاد تقارب الصفر. فتركيا التي لا تريد أصلاً، وخلاف ما تزعم، أن تنظف منطقة المئة كيلومتر من «داعش»، عرضت على الأميركيين أن تشارك هي مباشرة في العملية العسكرية نحو الرقة ونحو منبج، شرط ألا يشارك بها الأكراد. لكن الجواب الأميركي لم يأت وهو على الأرجح لن يأتي. الرد كان على الأرض بمواصلة العمليات العسكرية.
ليس من شيء تفعله تركيا داخل سوريا في هذه النقطة. فالخطة الأميركية المتكئة على الأكراد مستمرة.
لكن هناك في أنقرة من يرى أن هذه التطورات قد تكون منطلقاً لتغيير ما في السياسة التركية المتبعة حتى الآن في سوريا. لازمة تكررت أكثر من مرة في السنتين الأخيرتين. ومع انه ليس هناك من خطوات عملية على الأرض، غير أن الإشارات الصادرة عن أعلى المرجعيات السياسية في تركيا تشي بأن هناك شيئاً ما يعبر العقل السياسي التركي من دون تلمس جديته، أو ما إذا كان، قياساً على تجارب سابقة، مجرد وسائل ضغط على واشنطن، إن لم يكن لتحقيق بعض المكاسب فعلى الأقل التقليل من الخسائر التي تتراكم.
إن العودة إلى سياسات صفر مشكلات كانت من أولى هذه الإشارات، مع كلام رئيس الحكومة الجديد بن علي يلديريم أن حكومته تريد «أصدقاء أكثر وأعداء أقل». وتوقف المراقبون في تركيا عند تركيز الحكومة في بيانها الوزاري على رغبتها تعزيز العلاقات مع إيران.
الإشارة الثانية كانت في اعتبار اردوغان أن إسقاط الطائرة الروسية كان خطأ من الطيار التركي، محملاً إياه المسؤولية، بعدما كان رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو قال إنه هو بنفسه أعطى الأمر بإسقاط الطائرة. تراجع أردوغان لم يصل إلى مرتبة الاعتذار التي يريدها الروس غير أنها خطوة «متقدمة».
لكن الإشارة الأقوى كانت في الكلام الذي قاله نائب رئيس الحكومة التركية نعمان قورتولمش في جلسة مغلقة، ونقله عنه الصحافي عبد القادر سيلفي. يعكس سيلفي أجواء حديث قورتولمش فيقول «لا بد من إدخال تعديلات على سياسة تركيا الخارجية. وبيان الحكومة واضح في عبارة أصدقاء أكثر أعداء أقل. لم يتغير فقط رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو بل سيتغير العديد من جوانب السياسة الخارجية. في المناخ الجديد في أنقرة أنه إذا تطبعت العلاقات مع إسرائيل، سيترك هذا أثره الإيجابي على العلاقات مع روسيا. أميركا تريد أن تفعل مع أكراد سوريا كما فعلت في شمال العراق مع أكراد العراق. لكن تركيا ترى في نشوء كيان كردي في شمال سوريا تقسيما لسوريا. رغم أن إيران وروسيا تقفان إلى جانب (الرئيس السوري بشار) الأسد لكنهما ضد تقسيم سوريا، وهو ما يساهم في تعاون قوي بينهما وتركيا. سوف يستمر اعتراضنا على وضع الأسد، لكن كما يُرى أن عدم تقسيم سوريا سيكون أولوية لتركيا».
الكلام على «مثلث قوة» جديد يضم تركيا وروسيا وإيران، كما على أولوية وحدة سوريا على إسقاط الأسد، جديد على السياسة الخارجية التركية بعد الانكسار الكبير في العلاقات التركية ـ الروسية والتركية ـ السورية. لكنه عنوان كبير، ولا يمكن له التقدم السريع في خضم التطورات المتسارعة هذا إذا كان يمتلك حدا أدنى من الجدية والمصداقية التي لم تعودنا عليها تركيا على امتداد سنوات الأزمة السورية، بل كانت سياستها هناك عاملاً رئيسياً في تفتيت سوريا وتعميق الاحتقان المذهبي والاتني، والدفع في اتجاه تفكيك وحدتها الجغرافية، لتأتي الآن وتتكلم عن وحدة سوريا ومعارضتها لتقسيمها.
رغم قوة هذه الإشارات فإن أنقرة لا تستطيع الذهاب بعيداً بها. وتصويت البرلمان الألماني، وبالإجماع وبمن فيهم نواب من أصل تركي، على الاعتراف بأن ما حصل من مجازر في العام 1925 بحق الأرمن هو «إبادة»، هو مجرد آخر رسالة تصل إلى أنقرة بأن عليها أن تلتزم ببيت الطاعة الغربي، وأن أي تمرد محتمل لن يجلب لها سوى المزيد من الخسائر.
تضيف التطورات الميدانية المتسارعة في سوريا، والاتجاهات الجديدة التي تحملها، المزيد من التعقيدات على المشهد السوري، الذي يحتاج إلى جهد استثنائي لمنع استكمال دائرة الدم لسنوات أخرى.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد