«حرب الجهالات»: المسلمون ولاهوت التسامح والغفران
لا تستطيع الأمم التي شهدت مراحل تطاحن واحتراب طائفي ومذهبي تخطي الماضي إلاّ عبر التأسيس للمستقبل وتحقيق المصالحة النقدية مع التاريخ. لم يشهد العالم العربي هذه الحدة من الصدام والتشابك العقدي بين المسلمين السُنّة والمسلمين الشيعة على خلفيات سياسية ودينية، كما هو حاصل في العقدين الأخيرين، لا سيما إثر الاحتلال الأميركي للعراق (2003) الذي فجر مخزون الكره والتوتر على أسس صراعية، آلت إلى انقسام هذا المشرق لفسطاطين: إسلام سُنّي أكثري، وإسلام شيعي أقلوي.
كيف يمكن الخروج من كل هذه الاكراهات القابضة على أنفاس المسلمين بعدما تحولوا إلى أمة ترفض بعضها بعضاً وتجعل من فقه النبذ وإلغاء الآخر، الشريك في بناء الإسلام عبر مساره التاريخي والحضاري والمدني، القاعدة الأساسية في رؤيتها لذاتها وللعالم؟ هل ثمة منابع لثقافة الكراهية والإكراه عند المسلمين العرب؟ ألا يتطلب إسلامنا تدشين لاهوت التسامح والغفران؛ لاهوت تعددي تشاركي يقطع مع فقه التمذهب والكره بعد هذا التغالب المديد؟
الحاصل أن نفوس المسلمين في العالم العربي معبأة بألم الماضي والصراع على التاريخ والمقدس والدنيوي والسياسي. حين تتعمق أكثر فأكثر في بنى المجتمعات العربية تكتشف حجم التفاوت الهائل والضاغط لاعتبارات مذهبية، أساسها سياسي وديني، ما يتطلب تنقية التراث الفقهي الشيعي والسُنّي من كل هذه الشوائب التي تكبل العقول وتمنع عنها ثقافة العيش معاً لبناء إسلام متصالح مع ذاته، بإمكانه معالجة أمراضه وموبقاته كي يحقق المصالحة المطلوبة. لا يولد العنف المذهبي سوى العنف المذهبي بأبعاده الدينية والمجتمعية والسياسية. مرت المسيحية في أوروبا بما مر ويمر بها الإسلام التاريخي وتخطت عنفياتها في حقبات عدة عنفيات المسلمين، غير أنها تمكَّنت على فترات متراكمة وبعد عقلنة الدين من تكريس شرط الغفران والتسامح والاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف، متجاوزة وجع الحروب الدينية ومحاسبةً لها.
يقارع المسلمون اليوم بعضهم بعضاً بالإيديولوجي والمذهبي. التيولوجيا المذهبية أساس الحياة عندهم ومنطلقها. في العام 2001 نشر المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد (1935_ 2003) مقالاً أسماه «صدام الجهالات» وقد أتى في سياق الرد العلمي على أطروحة صموئيل هنتنغتون «صدام الحضارات» التي حظيت بشهرة عالمية وتهليل أكاديمي وسياسي غربي. قد يكون عنوان المقال الأكثر تعبيراً في ما لو تمّ إسقاطه على واقع الإسلام السُنّي والشيعي في ديار العرب. نحن إزاء «صدام الجهالات» الكل في حرب على الكل، المقدس يحارب المقدس، وهذه الجهالة المتفاقمة المرتكبة بحق الإسلام النقي التسالمي والتشاركي والتعددي والغفراني تفكك الدين نفسه وتجعل منه منطلق التنافس الطهوري على الدين والنطق به عبر توظيف سياسي خطر، وإستحضار غير مسبوق للفقه الإقصائي/ المذهبي الذي يبتلع كل شيء: الحضارة والإنسان والقيم والأخلاق الدينية والمشتركات المجتمعية، وما أكثرها. نحن في مواجهة كتل مذهبية صماء وصلبة تصد كل شيء حولها، ولا نعلم كيف يتحمل المسلمون كل هذا العنف الرمزي والمادي المستمد من بطون بعض النصوص التراثية بدعوى احتكار الحقيقة. من المؤلم أن تضع نفسك في موقع الدفاع عن إسلام متسامح ضمن جماعة بشرية لا ترضى بالآخر، فتجذر الرفض وتؤسس مستقبلها وحاضرها على ماضيها، وتتسلح بممانعة ضد كل إصلاح جاد وعميق يستطيع أن يجسر ويقرب المسافات بين أهل الإسلام من سُنّة وشيعة.
يحتاج المسلمون في العالم العربي إلى ذاكرة متحفية رادعة للعنف وإلى استنهاض ثقافة السلام والحوار والشراكة. وفي ظل هذه الإكراهات داخل منظومة دينية عبر مسالكها ومدياتها وقيودها، من المهم العمل على تطهير بعض التراث من المقولات التي تحض على الكراهية ورفض الآخر المسلم الشريك عند الطرفين، ومن الأولية التأسيس لفقه التسامح والغفران الذي يشكل المنطلق لإنجاز استحقاقين رئيسين: الأول، حق الآخر أياً كان إنتماؤه العقدي/ المذهبي في الإختلاف على اعتبار أن هذا التعدد جزء أصيل من حركة الإسلام نفسه وحواره الغني مع ذاته، تأويلاً وقراءات، صهراً وتقابلاً إيجابياً مولِّداً للأفكار والرؤى التي تلتقي هنا وتختلف هناك، لا سيما إذا نُظر إليه _ أي إلى الإسلام _ كحاضنة جامعة لكل المسلمين باختلافهم لا خلافهم؛ والثاني، تحقيق المصالحة التاريخية بين المسلمين وشرطها الأساسي والوجودي الغفران عن كل ما ارتكب باسم الدين أو المذهب وما لحق بهما من توظيفات قاتلة لم تنتج سوى فكر التباغض والتكفير، ما يؤدي إلى تنقية ومحاسبة الذاكرة التاريخية الجمعية المثقلة بجروح الماضي.
ليس التراث الإسلامي السُنّي والشيعي قالباً صلباً غير مؤهل للتجديد والتحديث والتنقية والنقد والقطيعة عند اللزوم، ومن الضروري استخدام آليات وأدوات تأويلية جديدة تأخذ في الاعتبار متطلبات العصر والحداثة بروحيتها وموجباتها، إذ إن لكل حقبة ظروفها الموجبة ومفاهيمها ورؤاها. فقه التسامح والغفران يستدعي قبل أي شيء تكثيف التلاقي والمكاشفة بعد معالجة الذاكرات الدامية، والقطع مع العنف المذهبي/ التذريري المنتج لثقافات ظلامية تؤسس قوتها على تعنيف الآخر وطرده من دائرة المقدس باسم التسلط الديني. وعلى قدر التعاطي مع هذا التراث بالنقد البنّاء بوصفه عتبة يجب تجاوزها من خلال فقه إسلامي عقلاني مستنير، على قدر ما يتم التأسيس الهادئ لا الانفعالي/ المذهبي للحاضر والمستقبل.
ليس الإنسان كائناً ماضوياً. هو كائن مستقبلي بفطرته وتكوينه، غير أن التدين الأعمى والالتصاق الشديد بما أنتجته المدونة الفقهية التقليدية عند الشيعة والسُنّة جعلت بعض المسلمين كائنات تراثية أو نصوصية ترنو إلى غدها بقيود الماضي ومشاكله فترفض أي حركة اجتهادية بذريعة المحافظة حيناً واليقنية القدسية حيناً آخر.
لقد استغلت الجماعات الجهادية منابع الفقه العنفي منذ استفحالها بعد المعطيين الأفغاني والعراقي وتركت ندوباً في الذاكرات، لكنها تبقى حركات طارئة على الإسلام استغلت الخلاصات الفقهية الخاطئة وقتلت من قتلت من سُنّة وشيعة.
ثمة مساحات واسعة في الإسلام القرآني تحمل خطاباً تسامحياً غفرانياً رحيماً حوارياً مع الآخر في الدين ومع غير المسلمين، جرى طمسها والسكوت عنها وتحريفها وتشويهها وتوظيفها، في موازاة إعلاء فقه الرفض والتمترس وراء مقولة الفرقة الناجية، بعدما تناسى المسلمون الأحقية القرآنية بل الضرورة القرآنية الواضحة في الاختلاف والاختيار.
عندما يجرد الدين من مركزية العقل وشروطه الإنسانية وحين يتحول إلى أرضية جاذبة لإيديولوجيات القهر والجهل وجماعات التناحر، وتُدمر فيه الأنسنة وتصادر منه حرية التفكير والإبداع التوليدي، يُصاب المجتمع برمته بأمراض المذهبية والقطعيات واليقينيات والماضوية والصدام العنفي المدمر لمحيطه ونفسه وشرائكه في التوحيد.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد