إعلان القداسة في الكنيسة الأرثوذكسية
قالت روز لجارتها ليلى: "ما بالكم معشر الاروام (1) لا تتولد كنيستكم قديسين؟ أفلا يكون يسوع ابن يوسف النجار وامه مريم قد فارقا كنيستكم؟، انّ الكنيسة التي لا تنتج قديسين هي عاقر، وفق ابي. انظروا كيف تتوالى عندنا احتفالات التطويب والتقديس في شكل سنوي. تبدّلوا يا قوم، او على الاقل اكسروا سمكم على غرار الملكيين الكاثوليك كي تمن عليكم السماء ولو بمشروع قديس!
غضبت ليلى من روز، ونشبت حرب ما بينهما استخدمت فيها كل دلاء المياه والاحذية العتيقة المتوافرة... وكاد النزاع، لولا تدخل "الكاركون (2"، يتطور الى فتنة طائفية.
وحملت ليلى طروحات جارتها الى ارشمندريت بلدتها بغية الاستفسار عن اعلان القداسة والعقم في كنيستها.
دخلت المستقيمة الرأي محتشمة الى صرح الدير وولجت الى الكنيسة بوقار، ثمّ راحت تتبع صلاة الغروب حتى نهايتها كي تتمكن من لقاء الارشمندريت الذي كان داخل هيكله يصلي.
وسرعان ما انتهت الصلاة، فقرعت النواقيس، ومضى الجميع الى صالون الدير. فكان ان بادرت ليلى كبير كهنة الدير بالسؤآل عن مبتغاها. فشرح لها الكاهن ببساطة ماهية المعايير المتبعة لتطويب قديس في الكنيسة الأرثوذكسية، وأثلج قلبها لما قال لها انّ الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية قد اعلنت حديثا قداسة العديد من الشهداء، كيوسف الدمشقي الذي استشهد دفاعا عن ايمانه في نهاية القرن التاسع عشر، وشهداء حماطورة، الذين استشهدوا دفاعا عن دينهم ايضا، في ازمنة المماليك. وابلغها بأنّ طرائق اعلان القداسة تختلف ما بين الكنائس، كما نشر اخبار العجائب. الا انه فاجأها بقوله انّ ثمة قديسين ما زالت قداستهم طي عدم الاكتشاف والاعلان. وإليكم بعض ما بلغ تلك السيدة من معطيات في هذا الاطار.
في التطويب واعلان القداسة
شكل الشهداء (في سبيل المسيحية) طلائع مسيرة القداسة في الكنيسة الجامعة، وكان الشماس اسطفانوس أولهم. فأولئك، وفق الكنيسة الجامعة، اشتروا الفردوس بدمائهم بلا منة احد، فانضموا بذلك الى جوقات الملائكة والرسل والانبياء. ودرجت العادة على ان يقيم المسيحيون الاوائل هياكل الكنائس على قبور شهدائهم. ومع انحلال الاضطهاد، اي بعد تنصر الامبرطورية الرومانية، انضمّ المعترفون كـ"افرام السرياني" وبعض الرهبان المتوحدين في صحراء مصر الى مسيرة القديسين.
كما درجت العادة في الكنيسة قديماً على ان تعلن قداسة راقد ما سلف من اسلاف الرسل (الاساقفة المحليون - رؤساء الكنائس المحلية) الى حين اصدر البابا الكسندر الثالث امرا في العام 1170، تضمن حصر مسائل التكريم والتطويب واعلان القداسة بالكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان.
ارتكز البابا يومذاك في تسطير قراره على وقائع (سوء استغلال بعض رؤساء الكهنة للسلطة الممنوحة لهم في هذا الاطار)، كما الى معطيات سياسية وادارية هدفت الى تعزيز سلطته على احبار الكنيسة الكاثوليكية ورعاياها. وتقوننت مسألة الاعلان تدريجاً، الى ان أضحى الزاميا على طالب التكريم ان يرفع دعوى تطويب امام مجمع القديسين في الفاتيكان الذي له صلاحية درس الملف قبل رفع الموضوع الى الحبر الاعظم، لتبني القرار النهائي واعلانه.
من الواضح انّ وسائل اعلان القداسة في الفاتيكان تخضع الى معايير علمية وقانونية، وتستهلك الكثير من الجهد والوقت والمال. ودرجت العادة على ان يكون لكل دعوة وكيل. وكان يعيّن (قبل العام 1983 (3)) لكل دعوة محامي دفاع ايضا، يتولى الرد على مزاعم مدعي عام المجمع، وذلك لزوم اقناع الاباء بأحقية موضوع اعلان القداسة. وبعد الاستماع الى الردود والردود المضادة، كان آباء المجمع يصوتون على القضية، وترفع نتيجة التصويت الى الحبر الاعظم لتبنيها وتحديد موعد الاعلان (يجري الاعلان في احتفال مهيب في كاتدرائية القديس بطرس).
وتجدر الاشارة الى انّ اودرليك - اسقف اوغسبورغ كان اول قديس (من خارج روما) أعلن البابا يوحنا الخامس عشر قداسته في العام 993. كما انّ فولتير دو بونتواز كان آخر قديس غربي تعلن قداسته من قبل رئيس كهنة (رئيس اساقفة روان - هوغ دو بوف) في العام 1153.
معايير القداسة في الكنيسة الارثوذكسية
وتتميز الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية بطرق فهمها للقداسة واعلانها، وليس في جوهر المسألة، الى حد بعيد.
فالقديس سيبمن، الملقب باللاهوتي الجديد، يقول عن القديسين الجدد في الكنيسة الارثوذكسية ما يأتي: انّ القديس الجديد في الكنيسة ينضم الى محفل القديسين عبر التاريخ الذين ملئوا على شاكلته، نورا إلهياً. فيضحي الكلّ سلسلة ذهبية، يشكل كل قديس فيها حلقة تتصل بالاخرى عبر الايمان والعمل والمحبة. نعم فانّ القديسين في كنيستنا يشكلون سلسلة ايمانية لا تنكسر ابدا".
في تحديد القديس في الكنيسة: يحدد الارشمندريت توما بيطار اعلان القداسة في الكنيسة الارثوذكسية بما يأتي: "القديس هو مَن استحال، بالروح والحق، هيكلاً لله. فصار إناء للاهوت. وأضحى أيقونة الله... وإنجيلاً حياً. فحياته كلمة، وسيرته قدوة. وهو، إلى ذلك، شفيع لدى الله، يرفع الصلاة عن المؤمنين في الكنيسة".
في فلسفة اعلان القداسة عند الارثوذكس: اما في موضوع الكنيسة الارثوذكسية واعلان القداسة، فينقل الكاتب الاخ اليكس يانغ عن القديس دجون ماكسيموفيتش قوله انّ قداسة راقد ما في الكنيسة الارثوذكسية لا تنبع من اعتراف الاحبار لا بل من نعمة الله. فمهمة احبار الكنيسة عند الارثوذكس في موضوع التقديس تقتصر على اكتشاف وتكريم ما قد قدّسه الله من بين رعاياهم الراقدين.
انّ الكنيسة الارثوذكسية تميز ما بين القداسة واكتشافها واعلانها. وهي تعتبر أنّ في الكنيسة قديسين لم يتكشفوا لكنيسته الارضية بعد، الا انهم يعيشون في حضرة ربهم مع سائر القديسين والملائكة ويتشفعون لنا عنده. وقد يبدأ اعلان القداسة عند الارثوذكس على المستوى الفردي، اي عندما يبدأ فرد ما في الكنيسة بطلب شفاعة احد الراقدين ممن يعتبرهم من المقربين لدى الله.
كيفية اعلان القداسة عند الارثوذكس: يقول الارشمندريت بيطار في اعلان القداسة لدى الارثوذكس، انه اذا ما لاحظت الكنيسة أنّ الراقد (موضوع اعلان القداسة) كان إنسانا للمسيح بالروح والحق، وانّ سيرته كانت ناصعة وتميزت بعدد من الفضائل المسيحية (الاتضاع، الصلاة، الفقر، المحبة...)، وانه موجود في وجدان المؤمنين كمثال، ومعلم، وشفيع، تقوم عندها بدراسة امكان تكريمه. الا انه ووفق التقليد الارثوذكسي، فانّ الروح القدس قد يشاء احيانا ان يصنع العجائب (كالأشفية والظهورات وعدم انحلال الجسد وفيض الطيب) من خلال شخص او راقد ما، وذلك كي يؤكد حضور هذا الشخص في حياة الكنيسة واستحالته ايقونة إلهية. فالعجائب في الكنيسة ليست بالضرورة لازمة لاعلان التقديس.
وما زال اعلان القداسة عند الارثوذكس غير محصور بسلطة مركزية ويقع في صلاحيات رؤساء كنائسهم. اما التدابير التي تسبق اعلان القداسة في هذه الكنيسة فهي غير خاضعة لمعايير علمية وقانونية، بل الى معايير ايمانية صرفة.
ويضع الارشمندريت بيطار مسألة إعلان القداسة في الكنيسة الارثوذكسية في إطار العلاقة الوجدانية الدينامية الحية بين الكنيسة المحلية والقديس. ويعتبر انّ إعلان القداسة في كنيسته ليس شأنا أكاديمياً، ولا يستند عادة إلى رغبة لدى الرؤساء أو المتنفذين إلى تكريم شخصية معينة كقديس بل الى رغبة الشعب والاكليروس. لذا، فإن إعلان القداسة وفقه، يجب ان يترافق ووفرة في الصلاة والصوم في الكنيسة ودفق من نعم الله. وينهي معتبرا ان اعلان القداسة يحتاج إلى تنقٍ من جانب الرؤساء والمؤمنين في الكنيسة لتمييزه والاغتذاء به، وإلا انزلقت الممارسة (ممارسة إعلان القداسة) في متّاهات الاستنساب الشخصي وخضعت للضغوط السياسية والاجتماعية والقومية والعرقية وسواها. وأضحت، بالأحرى، إعلانات مزعومة لقدسية أهواء الناس.
واذا ما كانت المبادئ العامة الناظمة لاعلان القداسة هي نفسها في الكنيستين، الا انّ الاختلاف يتجسد في الممارسات وعقيدة اعلان القداسة. فمهمة الكنيسة عند الارثوذكس تقتصر على اكتشاف عمل الروح القدس في تقديس احد افرادها الراقدين حصرا. لذا، فانّ الوسائل المتبعة في الكنيسة الارثوذكسية هي اقل اكاديمية واكثر بساطة.
ومن الملاحظ انّ القديسين المحليين الذين اعلنت الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية قداستهم أخيراً، هم في غالبيتهم من الشهداء الذين قضوا دفاعا عن عقيدتهم وايمانهم في شكل واضح، كيوسف الدمشقي، مثلا.
في احتفال اعلان القداسة لدى االارثوذكس:
وتقول الام مريم زكّا عن احتفال اعلان القداسة عند الارثوذكس ما يأتي: انه وبعد سلسلة من الصلوات والاصوام وبعد التشاور مع اركان الكنيسة من آباء روحيين ومتوحدين وعلمانيين معروفين بتقواهم، وعلى اثر التثبت من سيرة الراقد وخصاله ومدى حضوره وتأثيره في حياة جماعة المؤمنين (الكنيسة)، يدعو السيد البطريرك المجمع المقدس الى الانعقاد (بناء لطلب اسقف على الاقل) لدرس ملف اعلان قداسة راقد ما. ويتخذ المجمع المقدس قرارا في هذا الشأن، وفي حال الموافقة يأمر السيد البطريرك، كاتب الايقونات بكتابة ايقونة للقديس، كما يأذن لاحد الاديار بكتابة خدمة خاصة بالقديس.
وعشية ذكرى رقاد القديس الجديد تقام صلاة غروب خاصة، فؤدي بذخائر القديس الجديد وايقونته الى الكاتدرائية. وتنقل الايقونة والذخائر خلال صلاة كسر الخبزات في تطواف مهيب من هيكل الكنيسة الى صحنها، وتوضع قرب الايقونسطاس، ويقوم جوق المرنمين بتراتيل "طروبارية" القديس للمرة الاولى. ويكشف البطريرك عن رسمه ويكسر الخبزات الخمس التي يوزعها على الناس الذين يوافون لتقبيل ذخائره وايقونته. وفي صبيحة اليوم التالي يتم ذكر اسم القديس الجديد (للمرة الاولى) في خدمة القداس الالهي (مع سائر القديسين) كشفيع لجماعة المؤمنين لدى الله. وبعد حفل الاعلان، تسمح الكنيسة للمؤمنين عادة ببناء كنائس جديدة على اسم القديس الجديد، كما تسمح لهم بتعليق ايقوناته في منازلهم وللتبرك، وتطلب شفاعته لدى الله من قبل المؤمنين في شكل جماعي في الكنائس.
(1) أبناء كنيسة الروم الأرثوذكس.
(2) مخفر الدرك في البلدة.
(3) مع وصول يوحنا بولس الثاني الى سدة الرئاسة البابوية تمّ الغاء منصب المدعي العام، وتمّ تسهيل البت في دعاوى اعلان التطويب والتقديس. فازدادت وتيرة اعلان القداسة والتطويب الى حد غير مسبوق في الكنيسة الكاثوليكية.
(4) أعلنت قداسة الكاهن المتزوج يوسف الدمشقي (وهو من بيروت واستشهد إبان أحداث 1860) في العام 1993.
(5) رئيسة دير مار يوحنا دوما.
مازن عبود
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد