الإسلام مهدَّد من الداخل: من الرحمة والتوبة إلى الذبح والنحر؟!
"ديننا مهدّدٌ من الداخل"، قالها بصراحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في خطبة عيد الأضحى المبارك، وقالها معه عشرات المؤمنين الذين ضاقوا ذرعًا بممارساتٍ وحشية باسم الإسلام وعلى وقع شعاراته..
ففي وقتٍ يجتمع المسلمون، شيعة وسنّة، في ساحات عرفة ومنى ومكة المكرمة، متوجّهين إلى الله متضرّعين وخاشعين في موسم الحجّ، يصرّ البعض الآخر على ترويج صورةٍ مخالفةٍ بل مناقضةٍ للإسلام، صورة عنوانها الفتنة والوحشية والذبح، في أكبر جريمةٍ بحق الدين نفسه قبل أيّ شيءٍ آخر..
مؤامرة من صنعنا؟!
كغيره من الأعياد، مرّ عيد الأضحى المبارك مرور الكرام على المسلمين حول العالم. البهجة باتت منقوصة، والوهج شبه منعدم. الحجّاج أنفسهم باتوا يشعرون، وهم يمارسون شعائرهم المقدّسة، بمرارة ما بعدها مرارة. ومع ذلك، يمكن أن يكون العيد فرصة للمراجعة والنقد الذاتي بأمل "الإصلاح" وإن تأخّر.
وفي هذا السياق، تُطرَح أسئلة كثيرة وهي أكثر من مشروعة. فمن الذي يتحمّل مسؤولية الواقع الذي وصل إليه العالم الإسلامي اليوم؟ ومن الذي حوّل الدين، الذي بشّر به رسول الإسلام بوصفه "رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (سورة الأنبياء، الآية 117)، إلى دين تُرتَكَب باسمه الفظائع من ذبحٍ ونحرٍ وخطفٍ وقتلٍ وما شابه؟ وأيّ مسؤوليةٍ يتحمّلها فقهاء الإسلام في تعزيز هذا المنحى التشويهي والتهديمي لكلّ القيم والمبادئ التي يفترض أنّ الدين الإسلامي يحملها، وهو الذي ما احتاط بشيءٍ كما احتاط في مسألة الدماء، مثله مثل غيره من الأديان السماوية؟
وفي مجال الإجابة على هذه الأسئلة، تتعدّد "التفسيرات" و"التأويلات". يتحدّث البعض عن مشاريع تقسيمية تُرسَم للمنطقة، ويلجأ البعض الآخر للتوصيف الأحبّ لقلب كلّ العرب، "المؤامرة". أيًا تكن التسمية، الأكيد أنّ ما يجمع بين كلّ هذه التصنيفات هو هوية اليد المنفذة. هي يدٌ داخلية شاء من شاء وأبى من أبى، لا يختلف عاقلان على ذلك، باعتبار أنّ ما يجري اليوم في العالم الإسلامي هو من صنع المسلمين أنفسهم، أو من يطلقون على أنفسهم لقب المسلمين.
الدين مخطوف..
الدين مخطوف. بهذه العبارة، يختصر بعض رجال الدين "المعتدلين" الواقع المُرّ الذي يعيشه الإسلام هذه الأيام. المسؤولية الأولى تقع بنظرهم على عاتق المجموعات التكفيرية والإرهابية التي نبتت فجأة والتي وجدت من الحواضن ما يكفي لتتمدّد وتتوسّع أكثر فأكثر، مع ما لذلك من تداعيات تشويهية وكارثية على الدين. وباعتبار أنّ هذه المجموعات امتهنت "الخطف" على أنواعه، يصبح بالإمكان التأسيس على ذلك للقول أنّ ضحيتها الأولى هي الدين نفسه.
ولعلّ نظرة متأنية ومتعمّقة لما يسمى بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" أو "داعش" كافية للتدليل على ذلك، حيث ينتهج هذا التنظيم التكفير كمبدأ أساسي له يشمل حتى المنتمين لأهل السنة والجماعة، وهو يتبنى نفس الأفكار "الجهادية" التي تتبناها التنظيمات المنتسبة للفكر "القاعدي" التي تقوم على "الجهاد وتكفير المجتمع"(1)، علمًا أنّ الإسلام في صورته الأساسية هو دين انفتاح وليس تكفير، بدليل ما قاله النبي محمد في وصية الوداع(2)، خصوصًا لجهة قوله "لا تعودوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه".
ذبحٌ وعنفٌ.. وتكفير!
هكذا إذًا، بات الذبح والعنف والقتل والطائفية هو العنوان الأساسي اليوم في العالم الإسلامي، وبات المسلمون الذين قال عنهم الله أنهم "خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (سورة آل عمران، الآية 10) مصدرًا للمشاكل والصراعات بل رمزًا للدماء والعصبيات بنظر الكثيرين.
ولكن، هنا نقطة أساسية لا يمكن إغفالها. المشكلة ليست فقط في "داعش" وأخواتها، ولا في المتطرّفين والمتعصّبين الذين يشوّهون صورة الدين. المشكلة أكبر من كلّ هؤلاء وقبل كلّ هؤلاء. المشكلة قد تكون في الفقهاء أنفسهم، ليس فقط الفقهاء الذين يحتضنون هذه الظواهر الغريبة، ولا فقط في أولئك الذين يغضّون النظر عنهم ويسكتون. المشكلة هي أصلاً في الفقهاء الذين يرفضون تصحيح المفاهيم الخاطئة في الموروث الإسلامي، الذين يقدّسون هذا الموروث "كما هو" ويرفضون "عصرنته" إن صحّ التعبير، الذين وبدل تجديد هذا الموروث يكفّرون كلّ من يدعو إلى إعادة النظر ببعض ما فيه، علمًا أنّ هذه الظاهرة الرافضة لكلّ ما هو جديد، تعود إلى أيام الأنبياء، بدليل أنّ ما من نبي إلا طُرد من بلده.
في خضمّ كلّ ذلك، هناك حقيقة ثابتة لا يمكن نكرانها، وهي أنّ "داعش" وأخواتها تستند في ما تستند إليه إلى هذا الموروث، الأصيل منه والمزوّر. صحيح أنها تجتزئ ولا تقرأ إلا ما يعجبها، وصحيح أنّ الأمر وصل بها لدرجة إرادة تغيير كتاب الله، القرآن الكريم، لترك "الفتات" التي تناسبها وإزالة كلّ معاني التسامح والتلاقي والمصالحة، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّ "داعش" وغير "داعش" ستجد دائمًا لنفسها "الذرائع" و"المبرّرات" طالما لم يعمل المسلمون على تصحيح هذا الموروث الفقهي، بل سيأتي يوم قد يترحّم المسلمون فيه على "داعش" نفسها في حال لم يبادروا اليوم، وقبل فوات الأوان.
مسؤولية مضاعَفة..
بين قطع الرقاب وبيع النساء واغتصابهنّ، وتفجير المساجد والحسينيات والمستشفيات، وخطف وذبح الجنود حماة الأوطان، يقول البعض أنّ الإسلام ينتحر، ويستنفر البعض الآخر ليقول أنّ هذه الجماعات لا تمتّ للإسلام بصلة ولا يمكن أن تُحسَب عليه.
لا شكّ أنّ الكلام النظري جميل، لكنّ الأهم منه هو التطبيق العملي. هناك مسؤولية ملقاة اليوم على جميع المسلمين، وفي مقدّمهم رجال الدين، إلى تحويل الأقوال إلى أفعال. المطلوب من هؤلاء اليوم أكثر بكثير من الكلام الرنّان الذي لا يغني ولا يُسمن.
القضاء على "داعش" وأخواتها ليس مسؤولية العسكر وحدهم، لأنهم وإن قضوا على هذه التنظيمات التكفيرية الآنية، فإنّ الظروف التي سهّلت ولادتها ستسهّل ولادة غيرها من أتباع الفكر القاعدي المتطرّف نفسه. المطلوب اليوم خطوات جادة ومراجعاتٌ نقدية آن أوانها، بل يكاد يفوت، والمسؤولية هنا مضاعفة، حرصًا على دينٍ يجب أن يعود إلى جذوره ليكون فعلاً لا قولاً دين التلاقي والحوار والمحبة، وقبل كلّ شيء الرحمة.
(1)من الأفكار الجهادية التي يتبناها هذا التنظيم إعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، منع ترميم أو إعمار كنائس المسيحيين المهدمة وعدم الجهر بصلواتهم، إقامة الدولة الإسلامية على أي أرض يتم تحريرها ثم الانتقال لأرض إسلامية أخرى، التي توجد بها نفس الظروف حتى الوصول إلى تحرير جميع الأراضي الإسلامية، إباحة قتال الحكام المسلمين والمعارضين للتنظيم، جواز قتل المسلم إذا تمترس به الكافر كأساس شرعي لتبرير بعض العمليات العسكرية التي يترتب عليها قتل المسلمين، قتال غير المسلمين وغزو العالم لنشر الدعوة، فرض الزي الإسلامي واجب ومن يخالفه يُجلَد.
(2)خطبة الوداع ألقاها الرسول في حجة الوداع يوم عرفة من جبل الرحمة وقد نزل فيه الوحي مبشراً أنه "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً".
حسين عاصي
المصدر: النشرة الالكترونية اللبنانية
إضافة تعليق جديد