الجدل الإسرائيلي حول ما بعد زلزال لبنان

08-09-2006

الجدل الإسرائيلي حول ما بعد زلزال لبنان

بعد جدل الأسبوعين التاليين لقرار وقف إطلاق النار وصدور القرار الدولي 1701، الذي تركز حول توصيف ما جرى وما إذا كان هزيمة أم انتصارا، مع غلبة الرأي القائل بأن زلزالاً قد وقع بصرف النظر عما إذا كان هزيمة أو نصف هزيمة، أو كان مجرد "صفعة" حسب تعبير الكاتب الأشهر "زئيف شيف" في صحيفة هآرتس، أو "ضربة قاضية" حسب وصف الكاتب الدائم في ذات الصحيفة "رؤوبين بدهتسور"، في سياق رده على الأول.

بعد أسبوعين من هذا الجدل دخل على الخط جدل من نوع آخر يتعلق أولاً بالدروس العسكرية المستقاة من الحرب وضرورة الإفادة منها في مواجهات قادمة، فيما يتعلق ثانيا بالدروس السياسية أو لنقل وسائل الخروج من المأزق وعدم تكرار المواجهة في المستقبل.

لن نتوقف طويلا عند هذا البعد، لكننا نشير إليه كجزء لا يتجزأ من البعد السياسي، لاسيما والجميع يدرك أن قدرا لا بأس به من السطوة السياسية الإسرائيلية قد بني على أساس قوة الردع التي تأسست بدورها على نار الطيران البالغة القوة، فضلا عن القوة النووية، إلى جانب عجز الطرف الآخر عن الرد خوفا من التدمير الواسع النطاق.

ونقول القوة الأساسية لأن الجميع يدرك أن قوة الدولة العبرية إنما تنبع في الأساس من الدعم الأميركي والغربي لها، فضلا عن البعد المتعلق بضعف الوضع العربي الرسمي وشرذمته.

في حرب لبنان تبدى عجز الحرب الجوية عن إخضاع الخصم، فيما ظهر العجز أمام قوته الصاروخية، وقد كثرت المقترحات بشأن وسائل الخروج من هذا المأزق التي شارك في طرحها العديد من السياسيين والكتاب، فيما جاءت ملخصة في مقال للمستشرق اليهودي المعروف "غاي بخور" على النحو التالي:

- أن لإسرائيل مشكلة مع جميع أنواع الصواريخ، ابتداء بالصواريخ المضادة للدبابات وصواريخ القسام والكاتيوشا والصواريخ المضادة للسفن، وحتى صواريخ أرض أرض بعيدة المدى، ولذلك ينبغي بذل جهد تكنولوجي متعدد النظم للتخلص من هذه المشكلة.

- يجب الرد بصواريخ أرض أرض، ومن أجل ذلك يجب التسلح بآلاف منها، ويذكر الكاتب هنا برد صدام الصاروخي على إيران، الذي دفع هذه الأخيرة إلى وقف الحرب عام 1988.

- ما دامت الحرب القادمة صاروخية فإن من الضروري ترتيب وضع البلاد على هذا الأساس، وإعداد نظم لجميع أشكال الحياة من ملاجئ وما شابه.

- هذه حرب "عالمية لمواجهة إيران المجنونة والإسلام المتشدد"، ولمواجهتها يجب على إسرائيل أن تدخل في أحلاف عسكرية، وهي ثلاثة: حلف دفاعي مع الولايات المتحدة لردع إيران، حلف مع دول الناتو، حلف مع الدول السنية في الشرق الأوسط.
لم يبق أحد من السياسيين والنخبة الإسرائيلية إلا وأسهم في الجدل الدائر حول سبل الخروج من المأزق بعد الحرب اللبنانية، وما من شك أن اليسار والوسط كان الأكثر مساهمة على هذا الصعيد، فيما مال اليمين إلى ضرورة إكمال الحرب أو الاستعداد لجولة جديدة منها، مع التركيز على التحدي الإيراني، إلى جانب التحديات التي يمثلها "الإسلام المتطرف" في المنطقة، وقبل ذلك استعادة قوة الردع الإسرائيلية التي اهتزت في الحرب الأخيرة.

في هذا السياق طالب البعض بضرورة تحديد المسار، فإما تعزيز مسيرة البحث عن السلام وإما الذهاب سريعاً نحو الحرب، وفي هذا السياق كتب المحلل الإٍسرائيلي "عكيفا الدار" مقالاً في صحيفة هآرتس بعنوان "السلام أم الحرب".

وفي هذا المقال نقل عما أسماها "الجهات المسؤولة عن التقدير في إسرائيل" توصيتها للمستوى السياسي بالتخلص فورا من حالة اللاحرب واللاسلم في الساحة السورية والأخذ بواحد من خيارين، الأول "مفاوضات حثيثة مع سوريا ولبنان مقابل هضبة الجولان وشبعا. إبعاد الحلف الإيراني السوري عن الحدود الإسرائيلية، ووقف دعم الفصائل الفلسطينية".

أما الخيار الثاني فهو "حرب وقائية سريعة ضد سوريا قبل أن تتزود إيران بالقنبلة النووية وقبل أن تستكمل طهران تحويل الجيش السوري إلى جيش حديث مزود بأحدث الوسائل".

في سياق المقترحات المتعلقة بمواجهة الموقف الجديد تختلف الآراء في الساحة الإسرائيلية، لكن ضرورة التسوية تبقى العنوان الأبرز للطروحات السياسية.

في هذا السياق تبرز آراء بعض المشتغلين بملف السلام في الساحة الإسرائيلية ممن أدركوا الدلالات الواقعية لما جرى في لبنان، وطالبوا تبعا لذلك بالركض وراء التسوية والتوقف عن التبعية لهواجس المحافظين الجدد في واشنطن وحروبهم في المنطقة، ولا شك أن هذا الرأي يعد جديدا، بل بالغ الأهمية.

إذ إنه يعكس إدراكاً لمخاطر الركض خلف مغامرات تلك الفئة التي أثبتت عبثيتها بعد حرب العراق وأفغانستان، مع العلم أن الفريق اليميني الليكودي الإسرائيلي هو صاحب السطوة في معسكر المحافظين الجدد.

في هذا السياق كتب رون فونداك، وهو أحد أهم المفاوضين الذين أداروا مسار أوسلو، وما قبله وما بعده، مقالاً في يديعوت أحرونوت بعنوان "يوجد من نتحدث إليه"، رفض فيه مقولات المحافظين الجدد التي تضع سوريا ضن محور الشر، معتبرا أنها "مرساة ذات قدرة كامنة على جلب الاستقرار إلى المنطقة".

ويرى فونداك أن سوريا وإيران ليستا شيئا واحدا، بل لا يوجد بينهما شيء موحد، لا من حيث الأيديولوجيا (البعث حزب علماني مقابل حكم أصولي إيراني)، ولا من حيث التركيبة السكانية (الشعب في سوريا سني وفي إيران شيعي)، ولا توجد حدود مشتركة بين الدولتين، والرابط بينهما هو موقف الإدارة الأميركية الموحد حيالهما.

مع العلم أن سوريا لا تدعو للقضاء على دولة إسرائيل كما تفعل إيران، والكلام لا يزال لفونداك.

الحل برأي الرجل هو "سلام مع سوريا يقيد قوة حزب الله، وحل القضية الفلسطينية باتفاق يحسم النزاع التاريخي حول القدس، ويضعف قبضة حماس على الجمهور الفلسطيني، وسلام على الحدود مع لبنان، وطائفة من اتفاقات السلام والتطبيع مع سائر الدول العربية".

لا يختلف دانيال ليفي -وهو عضو طاقم مفاوضات أوسلو وأحد معدي وثيقة جنيف الشهيرة مع يوسي بيلين وياسر عبد ربه- مع فونداك في مطالبته بالتخلص من هواجس المحافظين الجدد، بل يعنون مقاله في صحيفة هآرتس بعبارة "كابوس المحافظين الجدد""، رافضاً تطوع إسرائيل "للوقوف في الخط الأمامي لجبهة حرب الحضارات الخاطئة أيديولوجياً والقابلة للمنع".

ومطالبا "بإعادة التفكير في السياسة المتبعة تجاه حماس وسوريا"، مع العمل مع أبي مازن للتوصل إلى تفاهم فلسطيني "كقاعدة للحكم الراسخ والهدوء الأمني والمفاوضات السلمية المستقبلية".

إيتان بنتسور، المدير العام لوزارة الخارجية يتبنى ذات الموقف، ويطرح في مقال له في صحيفة معاريف مقولة "العودة إلى مدريد"، مطالبا بالتفاوض مع سوريا ودق إسفين بينها وبين إيران بما يعزل حزب الله وقيادات الإرهاب الفلسطيني حتى لو لم توافق واشنطن على ذلك، وبالطبع من خلال مؤتمر مدريد جديد يكون "حلف الدول المعتدلة في الشرق الأوسط، الطامحة إلى السلام، التي تحارب سرا وعلنا الأصولية الإسلامية".

ذات الرأي صدر عن محلل وخبير سياسي معروف هو "زئيف شيف" الذي قال إن "المصلحة الإستراتيجية لإٍسرائيل هي إخراج سوريا من المحور الإيراني، ولا يوجد أي سبيل أفضل لخلق حاجز بين إسرائيل وإيران أفضل من السلام مع سوريا".

واللافت هنا أن وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس كان أول من أشار إلى إمكانية التفاوض مع سوريا مباشرة بعد وقف إطلاق النار، حيث اعتبر أن كل حرب تخلق فرصاً لعملية سياسية جديدة أوسع، وأنه يجب إجراء حوار مع لبنان وتهيئة الظروف للحوار مع سوريا. كما أعلن أنه سيبذل كل جهد "للعودة إلى المسار السياسي مع الفلسطينيين".

بقي أن نشير إلى أن التفاوض مع سوريا وإبعادها عن إيران كان محور مقالات عديدة نشرت في الصحف الإسرائيلية، من بينها مقال للكاتب في صحيفة معاريف "عاموس جلبوع"، وآخر لزميله في ذات الصحيفة "رافي مان".

مع أن آخرين كانوا على النقيض، كما هو حال "أوري دان" في معاريف أيضا، والذي سخر من تصريح لآفي ديختر، وزير الأمن الداخلي وأحد أعمدة حزب كاديما، قال فيه إنه على استعداد للتنازل عن هضبة الجولان مقابل السلام مع سوريا.

وهو ما تكرر في مقال للسفير السابق في الأمم المتحدة "دوري غولد" الذي رأى استحالة الفصل بين إيران وسوريا، معتبرا أن من يقولون ذلك "لا يدركون مدى أهمية هذا المحور لدمشق".

يطرح شمعون بيريز، نائب رئيس الوزراء الحالي، رئيس الوزراء السابق ورجل الدبلوماسية المعروف رأيا لافتا للانتباه، وإن كان يعبر عن طبيعة تفكيره كما برزت في تنظيرات "الشرق الأوسط الجديد" مطلع التسعينيات.

وفيما يبدأ بيريز مقترحاته بالدعوة إلى دعم حكومة السنيورة من أجل بسط سيطرتها على الأراضي اللبنانية، ومحمود عباس من أجل السيطرة على الوضع الفلسطيني، وتقديم عرض تفاوض غير مشروط لسوريا، لكنه يقدم خيارا آخر يتمثل في "مساع ثلاثية الجوانب وتشمل إسرائيل والأردن والفلسطينيين".

وهو في التفصيل "خيار يبدأ بالجانب الاقتصادي بموازاة الجانب السياسي"، وذلك من خلال "تحويل كل الشريط الحدودي بين البحر المتوسط ونهر اليرموك إلى ممر اقتصادي مفتوح للتعاون، ويشتمل على مناطق سياحية وصناعية وزراعية، وسيكون من الممكن إيصال المياه من البحر المتوسط إلى البحر الميت".

وكل ذلك في إطار تنظير يقول إن "أغلبية التغيرات التي طرأت في العالم منذ الحرب العالمية الثانية قد جاءت نتيجة التغيرات الاقتصادية". لكن بيريز لا ينسى أن يقترح على الفلسطينيين مفاوضات سياسية على أساس خريطة الطريق.

في السياق الفلسطيني يبرز رأي لافت للانتباه قدمه وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شلومو بن عامي، وهذه المرة في صحيفة لوموند الفرنسية، وليس في صحيفة إسرائيلية، حيث طالب بسلام مع حماس وحرب على حزب الله، وذلك اعتقادا منه بأن حماس ستقبل تسوية رفضتها منظمة التحرير.

وفي حين لا يبدو طرحه مقنعا بحال، فإن اللافت في كلامه هو تركيزه على المخاطر التي تشكلها "الحركات المتطرفة ذات الأيديولوجية الدينية المتشددة"، بوصفها تحديا "لا تردعه مفاهيم الحرب الحديثة المعروفة".

في سياق مقترحات الخروج من المأزق يبرز رأي لافت آخر، وهذه المرة من أفرايم هليفي، وهو رئيس الموساد بين العامين 1989 و2002، ومستشار الأمن القومي لرئيس الحكومة الحالية، فقد كتب مقالا بالعنوان أعلاه "تناول الطعام مع الشيطان" في صحيفة يديعوت أحرونوت، وجاء المقال خلافا للمقترحات السابقة قبل إعلان وقف إطلاق النار، ولكن إثر بروز معالم الفشل العسكري الإسرائيلي بعد ثلاثة أسابيع على الحرب (نشر المقال في 2/8).

والشيطان الذي يعنيه هليفي هو إيران، حيث طالب بواحد من خيارين، إما مواصلة الحرب وتحقيق إنجاز عسكري في وجه حزب الله وإيران، وإما "دعوة إيران إلى طاولة المباحثات بجانب الولايات المتحدة وإسرائيل"، ويرى الرجل أن إيران سترفض في البداية، لكنها كلما شعرت بفشل إستراتيجيتها ستفهم حدود قوتها.

هكذا يبدو الارتباك هو سيد الموقف في الساحة الإسرائيلية، إذ تتباين الآراء حول سبل الخروج من المأزق، ما يؤكد القناعة بأن الأفق مسدود إلى حد كبير في وجه طموحات المشروع الصهيوني، ليس لأن العرب يريدون الحرب ويشعرون بقوتهم، بل لأن مطالب المؤسسة العسكرية والأمنية وربما السياسية في الدولة العبرية لا زالت أكبر من قدرة العرب على الاحتمال.

ويبقى السؤال هو ما إذا كان زلزال لبنان إلى جانب فشل المشروع الأميركي في العراق سيدفعان نحو إعادة التفكير في أسس التسوية، أم أن التعنت سيواصل فعله، مع العلم أن أياً من الاحتمالين لن يغير في حقيقة أن المشروع الصهيوني قد دخل مأزقه الوجودي الحاسم وبدأت رحلته نحو التراجع والانحسار وصولا إلى النهاية في ظل صعود لثقافة المقاومة والجهاد والاستشهاد في وعي الأمة.

ياسر الزعاترة

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...