'الشرف الرفيع' على 'الجزيرة الوثائقية': الجهل بمرجعيات التاريخ
تسعون عاماً مرت على معركة ميسلون التي قادها وزير الحربية السوري يوسف العظمة في الرابع والعشرين من تموز (يوليو) عام (1920) كي لا يسجل التاريخ أن الاحتلال الفرنسي دخل دمشق بلا مقاومة، وما زالت هذه المعركة وبطلها يوسف العظمة حالة ملهمة في الوجدان العربي... فالحديث عن هذا الوزير الشهيد الذي قال عندما سأله الملك فيصل، لماذا تريد أن تخرج في هذه المعركة، وأنت تعرف أنك لن تستطيع مواجهة الفرنسيين: (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم)... أقول الحديث عن هذه الشخصية الدرامية والبطولية المؤثرة، مازال يستهوي الكثيرين، ليس في سورية فحسب... حيث يشكل يوسف العظمة رمزاً مضيئاً في وجدان الغالبية العظمى من السوريين، بل في ذاكرة العرب أيضاً... فهاهو المخرج المغربي محمد بلحاج، ينجز فيلماً وثائقياً عن يوسف العظمة وميسلون، أنتجته قناة (الجزيرة الوثائقية) مؤخراً... وعرضته يوم الجمعة الماضي في الثاني عشر من آذار (مارس) الجاري.
رجل مؤسسات!
لم يعن الفيلم كثيراً بالتركيز على ملامح يوسف العظمة الشخصية، فقد أراد أن ينطلق منذ البداية، من الظرف التاريخي الذي أعقب هزيمة الأتراك وخروجهم من المشرق العربي وانتصار الحلفاء من الفرنسيين والانكليز الذين وعدوا الشريف حسين حين أطلق رصاصة ما يسمى بـ (الثورة العربية الكبرى) وعوده بالدولة العربية المستقلة، التي تنقل الخلافة من الأتراك إلى العرب... إلا أن اتفاقية سايكس بيكو، التي فضح أمرها انتصار الثورة البلشفية في روسيا، وضعت هذه الآمال والوعود على محك المطامع الاستعمارية... وهكذا تحولت الدولة العربية الكبرى، إلى مناطق نفوذ يتقاسمها الإنكليز والفرنسيون، ويأخذون بعين الاعتبار مسألة إنشاء وطني قومي لليهود في فلسطين!
لكن في ظل هذه التعقيدات الدولية النابعة من خدعة استعمارية وقع فيها العرب الذين كانوا بسطاء وساذجين في تعاملهم مع الغرب، حين انخرطوا في حلف لمصلحة الغرب، ثم هوى سيف الغرب على رقابهم... في ظل هذا الوضع، برعم الحلم العربي في دمشق... حين أعلنت الحكومة العربية الأولى بقيادة الملك فيصل... حينها غادر يوسف العظمة تركيا وقال قولته الشهيرة (وطني يناديني) وترك الأستانة، مع أنه عرض عليه أن يكون من مؤسسي الجيش التركي... ومن المعروف أن يوسف العظمة كان من خريجي أرقى الأكاديميات العسكرية في عصره، فقد التحق بالمدرسة الإعدادية العسكرية وهو في الثالثة عشرة من العمر، وحين أتم السادسة عشرة التحق بالمدرسة الحربية في الأستانة ثم تخرج منها برتبة ملازم عام 1903، والتحق بعد تخرجه بمدرسة أركان الحرب ورقي إلى رتبة ملازم أول.. ثم إلى رتبة نقيب وحاز على وسام المعارف الذهبي، كما اختير معاونا للقائد الألماني ويتفورت باشا. وفي عام 1909 أوفد في بعثة دراسية إلى ألمانيا ثم عين ملحقا عسكريا في المفوضية العثمانية بمصر.. ثم خلال نشوب الحرب العالمية الأولى شارك يوسف العظمة في عدة جبهات فحارب مع الجيش التركي في القفقاس وكان رئيس أركان حرب القوات التركية في حرب الدردنيل.
لا يذكر الفيلم هذه المعلومات الهامة عن سيرة يوسف العظمة العسكرية، بل يحول بعضها إلى شذرات متفرقة على لسان الضيوف.. إلا أن أهم ما يقوله الشاعر الدكتور نذير العظمة، عنه في هذا السياق أنه... (من تربيته ونشأته وعلومه كان رجل مؤسسات وشارك في تأسيس الجيش السوري).
غياب نبض الشارع!
لكن مشكلة فيلم (الشرف الرفيع) ليس في مدى ما يقدمه من معلومات عن بطله، رغم أنه حاول أن يفعل ذلك في السياق الاعتباطي الذي أتاحته مناقشة ملامح المرحلة على لسان الضيوف... إلا أن مشكلته الأساسية تبقى في حجم معرفة التاريخ ونبض الشارع في ذلك التاريخ ومدى الاقتراب منه... فقد تحدث الفيلم عن القرارات الدولية، وعن القرارات الحكومية، لكنه أغفل الاقتراب من صورة الشارع تماماً... الشارع في دمشق كان يغلي في شهر تموز (يوليو) الملتهب من عام 1920، بعد نشر بنود إنذار غورو ومعرفة الرأي العام بها... ومن المؤسف أن مخرج وكاتب سيناريو الفيلم المغربي محمد بلحاج، لم يبذل جهداً طيباً، في تقديم الصورة الحقيقية لهذا الشارع وردود أفعاله إزاء تخبط الحكومة حينها في قبول بنود الإنذار أو رفضه... واختيار خيار المقاومة أو التخلي عنه... مع أن غليان الشارع وردود أفعاله كان لها أكبر الأثر في التجاوب مع قرار يوسف العظمة التاريخي والنبيل في ضرورة المقاومة. ويكفي أن نقرأ ما كتبه طه الهاشمي في مذكراته بعد أن أعلنت الحكومة في العشرين من تموز (يوليو) قبولها بنود الإنذار... حيث يصف ما جرى في الشارع فيقول:
(وفي 20 تموز (يوليو) خرج عدة جنود من ثكنة البرامكة، شاهرين السلاح بدعوى أن الحكومة استسلمت للفرنسيين، والتحق بهم المتحمسون من الأهالي، مروا بشارع النصر وحرس الموقع... وبدلا من أن يصدوهم عن عملهم التحقوا بهم فزاد التجمهر... وهجموا على القلعة على مستودع السلاح، وصادروه وأخرجوا المساجين، وبدأ إطلاق النار في البلدة واستمر إلى منتصف الليل، ونهبت بعض الدكاكين وقتل 25 شخصا وجرح 35 شخصا، وحدثت الواقعة بترخيص من بعض الجنود... وفي منتصف (21) تموز (يوليو) استتب الأمن عدا بعض السرقات (...) ولم يستتب الأمن إلا ليلا، بعد أن قرر الملك الدفاع نظراً لتقدم الفرنسيين وعدم قبولهم التوقف)
إن من المؤسف حقاً أن يغفل الفيلم هذه الصورة الحية للشارع الدمشقي، وأن يحول قرار ميسلون، إلى مناقشات تتم بين الملك ووزرائه، فيما الشعب معزول تماماً عما يجري... ومن غير المقبول أيضاً أن يضل صانع الفيلم طريقه إلى هذا التاريخ، وهو موثق بحذافيره... ويعتبر كتاب (يوم ميسلون) الذي كتبه وزير المعارف في الحكومة العربية المفكر ساطع الحصري، والذي كان رسول الملك فيصل إلى غورو لمفاوضته في الإنذار المرجع الأساسي، الذي روى من داخل الحكومة تفاصيل ما حدث، وصوّر حالة الشارع... ومن الغريب أن السيد بلحاج لا يأتي على هذه المهمة على الإطلاق، وهي هامة جداً في سياق الأحداث... لأن الحصري مر من الطريق الذي سلكه يوسف العظمة إلى ميسلون (طريق دمشق- بيروت) وقدم وصفاً للتحركات الفرنسية على هذا الطريق... ولأن يوسف العظمة طلب من الحصري وهو ذاهب إلى عاليه كي يقابل غورو وان يحاول أن يكسب ما يمكنه من وقت في المفاوضات، من أجل الاستفادة منه للتحضير للمعركة!
أخطاء تاريخية!
وعدا عن بعض الأخطاء التاريخية التي وردت في الفيلم، بسبب غربة المخرج عن موضوعه... وغربة بعض ضيوفه أيضاً من الأشقاء اللبنانيين الذين كان حضورهم تزييناً في الفيلم... فاسم (هاشم الأتاسي) رئيس الحكومة، والسياسي السوري البارز على مدى أكثر من نصف قرن، أصبح على لسان أحد الضيوف (هشام الأتاسي)، والخلاف الأساسي بين يوسف العظمة في الحكومة، لم يكن بين العظمة من جهة والملك فيصل والفريق الركابي من جهة، كما ذكر الدكتور سامي المبيض، بل كان مع الملك فيصل والفريق ياسين الهاشمي، وهو صاحب مقولة أن الجيش الموجود لا يستطيع أن يصمد أمام العدو أكثر من ساعتين على أعظم تقدير!
طبعاً قد تكون هذه الأخطاء ناتجة عن سهو لدى الباحثين الذين ذكروها، لكن لو أن صانع الفيلم حضر جيداً، وقرأ عن هذا التاريخ، لأمكن له أن يصحح تلك الأخطاء أثناء تسجيل المقابلات... ناهيك عن أن هناك معلومات يوردها الفيلم بلا أي سند حقيقي، منها أن الطبول من أجل الالتحاق بميسلون قرعت في بعض المدن السورية واللبنانية... وهي معلومة لم ترد في أي مصدر عن ميسلون... على كثرة المراجع التي وثقت لتلك المعركة!
إن جزءاَ من مشكلة محمد بلحاج في فيلمه الوثائقي هذا، أنه تعامل مع يوسف العظمة وميسلون باعتبارهما حالة وعنوانا عريضاً لا يعرف عنهما الكثير، وهو يريد أن يصنع هذا الفيلم كي يعرف! ولهذا لم يستطع إغناء بحثه عنها بالتفاصيل التي تشبع الحدث التاريخي... ولم يستطع أن يقدم لنا فيلماً يمثل روح المرحلة، وليس عنوان الحالة... وقد انعكس هذا على طريقة اختياره لبعض ضيوفه... فجاء اختياره لوزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا، منسجماً تماماً مع روح الفيلم التقليدية والخطابية... حيث تحدث الوزير بنبرته الخطابية المفخمة، وبلغة درامية مفتعلة من قبيل: (وكان هناك استعداد وطني عارم... كان هناك رجال لحقوا به وليس معهم سلاح... إلى أين أنت ماض؟!) طبعاً هذا لم يحدث... لأن الجميع كانوا يعرفون إلى أين هم ماضون... ولم يكن هناك سؤال استنكاري مضمر على النحو المفتعل!
أيضاً انعكس ارتباك الرؤية وفقر التفاصيل على نهاية الفيلم... فقد قدم الفيلم ثلاث نهايات... الأولى على أغنية (يا عروس المجد) بصوت المطربة سلوى مدحت، والتي تغنى فيها الشاعر عمر أبو ريشة برمزية ميسلون... والثانية حين تحدث عن المصير الذي انتهى إليه الملك فيصل، حين أخذه البريطانيون إلى العراق لينصبوه ملكاً تحت أمرتهم... فاختار الملك فيصل الكرسي بينما اختار يوسف العظمة الشهادة... وذهب (كما قالت الدكتورة ناديا خوست في الفيلم) وهو يعرف أنه لن يعود، ولكنه كان يعرف أيضاً أنه يؤسس لمقاومة قادمة منتصرة... ثم استطرد الفيلم بعدها في الحديث عن الوحدة الوطنية في مقاومة الفرنسيين، وعن بعض الثورات... وختم بقصيدة للشاعر نذير العظمة عن ميسلون. وأعتقد لو أن المخرج توقف عند النهاية الثانية... لكانت أبلغ أثراَ من كل ما أتى بعدها من استطرادات نافلة... بل جاءت أكثر انسجاما مع عنوان الفيلم... حيث يمثل يوسف العظمة باختياره المقاومة والشهادة الشرف الرفيع فعلا!
إن فيلم (الشرف الرفيع) يقدم لنا مثلا جيداً على العمل الذي يختار موضوعاً هاماً، وذا قيمة رمزية عالية... لكنه لا يستطيع في معالجته أن يتجاوز أهمية الموضوع كعنوان وحالة فقط!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد