الطائفيون العلمانيون
برز انقسام شائع في النقاشات “الطائفية” السنية-الشيعية في الشرق الأوسط المعاصر حول العلمانيين في مقابل الطائفيين، هذه الازدواجية الخاطئة منفية منطقيا جملة وتفصيلا! أولا، الطائفة هي جماعة فرعية من أصل الأمة برزت نتيجة لسمة ثيولوجية أو فقهية تشكلت تاريخيا، أو سياسيا، أو جغرافيا، ولذلك يمكننا منطقيًا قول أن “العلمانية” -على ظاهرها- نقيض للطائفية، حيث أن الأولى توجه مدني بشري للعامة نابع من المفاهيم الحديثة للدولة القومية ومؤسساتها الرئيسية، والتي تتطلب فصل الدين عن الدولة. بقدر ما أن أمرًا كهذا يبدو بديهيًا لا يقبل الشك، إلا أنها ثنائية خاطئة شوّهت الهويات الطائفية والديناميكية الطائفية في العالم العربي، وأغفل دور الذي تؤديه الطبقات الاجتماعية، والسياسة، والسلطة فيما بدا ظاهريا مسألة دينية.وبالتأكيد يوجد نوع معين من الطائفية المثيرة للاضطراب ونوع آخر منها عدائي يتمحور بشكل كامل حول العقيدة والمسائل الدينية، يشكل منطق كهذا -بلا أدنى شك- الدافع الرئيسي لأشخاص في السباق الطائفي والعدائية الطائفية. المسألة عند هؤلاء مسألة منافسة “حقائق عقدية”؛ فالوطنية، والقومية، والدولة القومية ليست بذات صلة قوية في هذا الإطار الفكري، حيث تكون الرؤى فيه مسيّرة نحو الطائفي الآخر بواسطة الحاجة الملحة إلى تأييد معتقد ديني أرثوذكسي وخوف أو كره باثولجي في الردّة.من الطبيعي أن يبدو العلماني على النقيض من هؤلاء، فليس من المتوقع من العلماني ذو العقلية المدنية -رجلا كان أو امرأة- أن يلقي بالًا لاعتقادات بني جلدته الثيولوجية مهما بدت سخيفة. إن اهتمامات الفرد العلماني الحالي تترفّع عن خرافات العقيدة الطائفية التي تقسم الناس إلى فرق، فهي منصبّة في المسائل الملموسة، كالوطنية والحقوق والتماسك الاجتماعي والحكم الجيّد. بيْد أن الانقسام الطائفي/العلماني ممكن فقط في حال أن الديناميكية الطائفية متمحورة حول النزاعات الثيولوجية بدلا من الدنيوية. هل سيتمكن ذات الفرد العلماني هنا من أن يترفّع عن “الطائفية” في حال أنها تجذّرت في شيء غير الدين، شيء لا يعتبره -رجلا كان أو امرأة- خاصًا، أو قديمًا، أو سخيفًا كالدولة القومية؟
الجانب الذي يتم اغفاله باستمرار في العلاقات الطائفية المعاصرة في الوطن العربي هو أنها راسخة في الصراع على القومية وليس على الحقائق الدينية، ونتيجة لذلك، لا يحتاج الشخص -على وجه الخصوص- إلى أن يكون متديّنًا أو مرتبطًا ارتباطًا استثنائيًا بمسائل مذهبية أو عقدية ليضمر انحيازيات طائفية، أو لأن يكون محاميًا عن الجمود الطائفي! ومن هذا المنطلق، تظهر لنا الظاهرة المتناقضة للأفراد العلمانيين ذوي الطائفية المستشرية. إن نشأة القومية العربية، والمفاهيم التي قامت عليها، والمشاعر التي رعتها -كالوطنية، والمساواة، والاستحقاق والتمكين، والتمثيل- غيرت الهويات الطائفية وعلاقاتها بإضافة طابع -وهو طابع الوطنية- إلى كيفية تصور الهويات الطائفية. وعلى هذا النحو، وإلى جانب الهويات الطائفية العابرة للحدود (أو a-national) الراسخة في الحقائق الدينية ومسائلها، أصبح لدينا الآن هوية طائفية قومية راسخة في الحقائق القومية ومسائلها.
وتبعا لذلك، يغلب على الجدل الطائفي القائم بين أبناء البلد الواحد أن يكون متمحورًا حول مسائل قومية، مثل الديموغرافيا، والأصالة القومية، والتاريخ القومي، والتمييز السياسي والاقتصادي، وهلم جرا. وفي المقابل، كثير ما يغلب على الجدل الطائفي الموجه إلى جمهور عابر للحدود أن يكون متمحورًا حول الحقائق الدينية، كالتاريخ الإسلامي، والفقه، والاختلافات العقائدية. ولهذا التعارض منطقه، فالأول يقصي الطائفي الآخر من الدولة القومية، بينما يقصي الأخير الطائفي الاخر من المعتقد! إذا لم تزعم الدولة القومية بأنها ذو حكومة دينية (theocracy)، فليس من المتوقع لهذين الطرفين أن يتوافقا.
شهدت السنوات الأخيرة بروز أهمية للاختلافات العقدية في الديناميكية الطائفية لأنها تعود -من جهة- إلى أطر مرجعية قديمة وعميقة، وانتشار وسائل إعلامية حديثة -من جهة أخرى- وأشكال تواصل جديدة قد أزالت الخط الفاصل بين ما هو قومي وما هو عابر للحدود. ومما يثير القلق أن هذا الأمر قد أظهر لنا أن الهوية الطائفية الدينية قد أصبحت ملازمة للهوية الطائفية القومية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الدولة القومية العربية! ومع ذلك، فقد احتفظ منظور الدولة القومية بمركزتيه في الديناميكية الطائفية، مما يدل على أنه مازال على العرب -وعلى الرغم من الأحداث الحاصلة منذ ٢٠٠٣، وفشل صد وإيقاف طموحات المتعصبين الوهمية لإقامة دولة إسلامية في العراق والشام- تصوّر أو تطوير رغبة في خلق بدائل للحدود المتعارف عليها لنظام الدولة القومية الحالي. فطالما أن العلاقات الطائفية راسخة في منظور الدولة القومية ومتمحورة حول الحقائق القومية، فإن كلًّا من الدين، والثيولوجيا، والفقه سيؤدي دورًا ثانويًا في الديناميكية الطائفية. وفي إطار كهذا، فإن مصطلح ” الطائفيون العلمانيون” -الذي يبدو في ظاهره التناقض- ليس متناقضًا على الإطلاق.
ربما يغذي الطائفيون العلمانيون شعورًا بالتعالي والانحياز العميق ضد طائفة معينة لأنها تهدد مفهومهم لما يجب أن تكون عليه الدولة القومية، أو لأنهم يشعرون -سواءً كانوا على صواب أو خطأ- أنها أقل أصالة أو لأنها ليست إلا تجسيدًا سطحيًا للدولة القومية. يبدو هذا جليًّا -على وجه الخصوص- في رأي الطائفي العلماني تجاه الشيعة في العالم العربي في حال لم يوجد سبب سوى الحقائق الديموغرافية! لكن يجب أن نعيد القول بأن هذا ليس نفورًا ثيولوجيًا من الشيعة، وعلى هذا النحو، فهو ليس إقصاءً لهم بالجملة. هذا النوع من معاداة الشيعة -لأنه ليس راسخ في الدين على وجه التحديد- لا تستهدف الهدف الملائم لها، وهم الشيعة ذوي التعليم الغربي من الطبقة الوسطى والراقية، بل يستهدفون “الحشود” و “الجحافل” الشيعية، أولئك المتأصلون في الهوية الشيعية، ومن تشكل لهم الطقوس والرموز الشيعية هي مركزية في تعبيرهم وتصوّراتهم للذات. في هذا السياق، يبدو أن المعاداة هنا متأثرة بمعايير مثل الطبقة الاجتماعية والإقليم أكثر من الفقه، وهذا هو بالتحديد سبب اعتلال فهم الانقسام الطائفي/العلماني. يستطيع الشخص العلماني -بل حتى الملحد المتصلّب- أن يكون “طائفيا”، حيث أن جماعة طائفية قد توصم بأنها الدخيلة أو بأنها طبقة منحطّة. وبذات الطريقة، نجد في البلدان العربية التي تفتقر إلى انقسام سني شيعي معتبر إقصائية نخبوية علمانية مماثلة، وموجهة إلى الفئات الدينية، ولعلنا نجد في رد الفعل الليبرالي لبروز الإخوان المسلمين بمصر أفضل مثال يوضح ذلك.
ترى الأصوات العلمانية المشددة في العراق تؤكد على قبولها للواجهة الاجتماعية العراقية ومع ذلك يؤوون أفكار تعصب متاخم بالكراهية تجاه “الشيعة”. بعيدًا عن كونها مسألة ثيولوجية، ربما يكون هذا الازدراء نتيجة للاعتقاد بأن الشيعة برموزهم وطقوسهم وهرميتهم واستقلالهم الثقافي الخاص بهم أكبر تهديد للعلماني العراقي المثالي الذي يتمنى أن تكون الهويات الطائفية خاصة بالأفراد وغير ظاهرة للعيان بقدر المستطاع. يبدو بأنه تعصب راسخ بقوة أيضا في النخبوية الاجتماعية والثقافية ضد الشيعة كمجموعة لافتة للأنظار على النقيض لما يعنيه التحضر والعلمانية والأنموذج الغربي الخاص بالطبقة الوسطى والراقية، بل هو فظ ووقح وجاهل ومتخلف وقروي زد على ذلك أنه متدين. من المهم أن نوضح أن مثل هذه الأفكار يُعبّر عنها بشكل جماعي أكثر منه على المستوى الفردي؛ ربما يحمل شخص مثل هذه الأراء بينما لديه صديق شيعي، أو شريك، أو زوج، أو حتى بينما يكون شيعيا بنفسه. في الواقع، بعض أكثر السياسيين العراقيين حماسة من الطائفيين السنيين ارتبطوا بالزواج من الشيعة. فالشيعة من هذا المنظور كلهم جيدون وليسوا متعمقين في الدين الشيعي والكيان الاجتماعي طالما أنهم ليسوا شيعة ظاهريا، أو -لمزيد من التوضيح- طالما أنهم شيعة من مجموعة إياد العلاوي. هذه العقلية توضح لنا كيف وضع أغلبية السنة آمالهم في شيعي في انتخابات ٢٠١٠ على الرغم من التعصب الطائفي المكثف الذي شهدناه في العراق بعد ٢٠٠٣ والفارق البسيط المهم هنا هو أن تشيّع هؤلاء الشيعة ليست ظاهرة للعيان، ونبعا لذلك فهي مقبولة.
من المثير للاهتمام أن نوضح هنا أن التحيز الطائفي العلماني العراقي كان قد انعكس إلى حد ما على وجهات النظر العلمانية السورية تجاه “الكتل السنية”، حيث يحمل كلا الطرفين ايحاءات واضحة لنخبوية مناطقية وطبقية. سواءً اعتبر الموروث البعثي لهاتين الدولتين التعيستين عودة لهذه الدينامكيات أم لا اهو أمر مفتوح للنقاش، إلا أن التعصب الطائفي القائم على إطار استبعاد ثقافي بدلا من الديني، أو إطار الاستبعاد الثيولوجي سينحصر دائما على سوريا والعراق.
لم يتقاتل اللبنانيون فيما بينهم لإقصاء بدعة دينية أو لإجبار تعليم فقهي معين لهذه الطائفة أو تلك، ولم يتقاتل العراقيون فيما بينهم بسبب غضبهم لعدم تقديس الإمام والصحابة، وبالمثل فإن مثيري الشغب في أحداث التعصب الكروي الأسكتلندي -واحدة من أشهر حاضنات العداء الطائفي في الديناميكية الطائفية الأسكتلندية- لم يغنوا ويضربوا بعضهم لدعم تقويض السلطة البابوية فيبدو أن الحشود والعدائية الطائفية -في الواقع- في العالم الحديث راسخة في المنظور الثقافي القائم على المركزية الطائفية لآفاق الفرد الاجتماعية والسياسية المباشرة في الحي والمدينة أو على نطاق أوسع: في الدولة القومية. كما هو الحال فالعلمانيين ليسوا في حصانة أو بريؤون من العداء الطائفي الذي ينتقدونه بشدة، غالبا ما ينهجون في الاستعارة من قاموس الجدل الطائفي الديني ليتهكموا، ويذموا، ويستبعدوا، مجموعة معنية وكل ذلك يتم باسم دعم نموذج العلمانيين الغير طائفيين. بطريقة ما، فإن ما يواجهه المرء غالبا في الاوساط العربية العلمانية هو توحد التحيزات الطائفية العربية وتلك التي ضد العلمانيين تبدو أكثر قسرية.
باختصار، العلمانيون في العالم العربي كثر، بيد أن العديد من الحالات -إن لم يكن جميعها- جزء لا يتجزأ من الطائفية، إلا أنهم يعتقدون خطأً أنهم على النقيض منها أو العلاج لها.
فنر حداد / ترجمة: ندى صالح
إضافة تعليق جديد