المدارس السورية : انقسام بين الداخل ودول اللجوء.. و«الجهاد»!
للعام الخامس للحرب السورية، افتتحت وزارة التربية السورية مدارسها للطلاب السوريين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة وتعتبر آمنة، معلنةً عن توافد أربعة ملايين طالب سوري لمقاعد الدراسة، في معظم المحافظات السورية - تسيطر الحكومة على مراكز جميع المحافظات باستثناء إدلب التي تسيطر عليها «جبهة النصرة»، والرقة التي يسيطر عليها «داعش» - الأمر الذي اعتبره وزير التربية هزوان الوز، خلال تصريحات صحافية، أنه «تأكيد على إرادة السوريين في مواجهة ظروف الحرب الإرهابية التي يتعرض لها الوطن». فما هو شكل الخريطة التعليمية السورية بعد خمسة أعوام من الموت؟
في العامين الأولين من الحرب، انصبّ اهتمام المنظمات الانسانيَّة والحقوقيَّة حول «آثار الحرب على التعليم». نشرت الأمم المتحدة عبر منظماتها المختصة، سلسلة من الإحصاءات والتصريحات التي تؤكّد أنَّ «التعليم في سوريا ينهار جراء الحرب»، إذ بلغ عدد المدارس التي أخرجتها الحرب عن العمل حوالي خمسة آلاف مدرسة، في حين تسبَّبت بتشريد أكثر من مليوني طفل، وأخرجتهم من مقاعد الدراسة (2.4 مليون طفل سوري خارج المدارس وفق تقرير أصدرته «يونيسف» مطلع الشهر الحالي). ويعاني الأطفال في دول اللجوء المحاذية لسوريا (تركيا، العراق، لبنان، الأردن)، من تهميش تعليمي، برغم المبادرات التي تطلقها حكومات تلك الدول، أو بعض المنظمات الإنسانية لتلافي هذه الأزمة.
وبالعودة للخريطة التعليمية في سوريا هذا العام، ينقسم الأطفال السوريون بين أربع مجموعات رئيسية. المجموعة الأولى هي تلك التي تمكَّنت من الالتحاق بالمدارس الحكومية، فيما تضم المجموعة الثانية الأطفال القابعين في دول اللجوء، وتضم المجموعة الثالثة الأطفال القابعين في المناطق الكردية ذات الحكم الذاتي، أمَّا المجموعة الرابعة فتضم الأطفال الذين يعيشون في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، والتي تتقاسم السيطرة عليها عدة فصائل «جهادية».
في مناطق سيطرة الحكومة السورية، تفيد الأرقام التي قدَّمتها وزارة التربية السورية بتراجع عدد الطلاب الملتحقين بالتعليم بنحو 300 ألف طالب، مقارنة بالعام الماضي (وفق الوزارة، التحق بالمدارس العام 2014 نحو 4.3 ملايين طفل سوري)، كذلك تفيد الإحصاءات ذاتها بتراجع عدد الطلاب مقارنة بالعام 2012 بنحو مليون طالب، وهو رقم كبير بالنسبة إلى دولة يُقدّر عدد سكانها الكلي بنحو 23 مليون نسمة (قبل الحرب).
وتعاني المدارس الحكومية من سلسلة مشاكل، لعلّ أبرزها الازدحام الشديد للطلاب، بسبب الازدحام السكاني الكبير في بعض المدن الآمنة (في اللاذقية، يُقدَّر عدد الطلاب الذين يدرسون في صف تعليمي مخصص لنحو 30 طالبا، بحوالي 60 إلى 65 طالباً، وفق عدد من المدرسين). كذلك تعاني المدارس من نسبة تسرب مرتفعة بسبب الأحوال المادية وتكاليف تجهيز الطلاب للمدرسة من ناحية الزيّ والقرطاسية وغيرها، والتي تفوق قدرة المواطن بسبب ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى فقدان عدد كبير من الطلاب المهجرين مع عائلاتهم لوثائقهم، الأمر الذي دفع وزارة التربية إلى تنظيم حملة إعلامية كبيرة، سمحت من خلالها للطلاب بالالتحاق بالمدارس من دون الحاجة إلى الوثائق، فضلاً عن التأكيد على مجانيَّة التعليم.
الأطفال القابعون في دول اللجوء بدورهم، يعانون، إلى جانب شتاتهم، من عدم وجود عمل منظّم متكامل يؤمِّن لهم التعليم، وفق تأكيد مصدر معارض.
المصدر نفسه الذي أكّد أنَّ العمل في مخيمات اللجوء يتم عن طريق منظّمات إنسانيّة بشكل شبه كامل، شدَّد ، على ضرورة النظر في خلفيَّات المنظمات الداعمة للتعليم. وقال إنَّ «معظم المنظّمات خليجية، تقوم بتقديم تسهيلات وتنظيم صفوف دراسيَّة وورشات تعليميَّة لمناهج إسلاميَّة، بعيدة كل البعد عن المناهج التعليميّة والتربوية السورية، الأمر الذي من شأنه أن يخلق جيلاً سلفياً في تلك المخيمات».
وإلى جانب عمل المنظّمات الخليجيّة، ينشط «الائتلاف المعارض» كلاعب رئيسي في تركيا، عن طريق تنظيم مدارس تابعة لـ«حكومته المؤقتة» في المنفى، حيث قام بطباعة مناهج خاصة به، وطرح شهادات دراسية لا تعترف بها سوى تركيا، وقطر، بالإضافة إلى محاولته تمويل نشاط مدارس في الداخل السوري تقع ضمن سيطرة الفصائل «الجهادية»، الأمر الذي يتعارض مع نشاط تلك الفصائل، والتي تقوم بدورها بتنظيم عمل «مدارس شرعية» خاصة بها.
وفي مناطق سيطرة «داعش» مثلاً، أنشأ التنظيم عدداً كبيراً من الصفوف التعليميَّة، والتي يدرس فيها «تعاليم دينية متشددة»، بالإضافة إلى دعمه الكبير لنشاط المساجد والشيوخ في تلقين الأطفال تلك التعاليم، والعمل بين حين وآخر على انتقاء عدد من الأطفال وإلحاقهم بالمعسكرات التدريبية التي تؤهّلهم لحمل السلاح وتنفيذ عمليات انتحارية. ووفق مصدر «جهادي»، يبلغ عدد المعسكرات التابعة لـ «داعش» سبعة معسكرات في سوريا.
حال المناطق التي تسيطر عليها «جبهة النصرة»، يكاد يطابق حال مناطق سيطرة «داعش»، حيث تولي المنظمات «الجهادية» اهتماماً منقطع النظير بالأطفال، الذين ترى فيهم «مستقبلاً»، حيث تقيم «النصرة» نحو خمسة معسكرات خاصة بالأطفال، بالإضافة إلى مئات المساجد، والحلقات التعليمية، وهو حال معظم الفصائل الأخرى كـ «أحرار الشام»، و «جيش الإسلام» وغيرها.
ولا تخفي التنظيمات المتطرفة نشاطها المتعلق بالأطفال، حيث تقوم بشكل متواتر بتوزيع تسجيلات مصورة وإصدارات مرئية لحلقاتها العلمية الخاصة بالأطفال، إضافة إلى «معسكرات» تدريب الأطفال. ويرى مصدر «جهادي» أن استهداف قطاع التعليم في سوريا لم يكن عن عبث، فقد عمدت الفصائل المسلحة منذ بدء الأحداث لاستهداف الكادر التعليمي، عن طريق التهديد بالخطف، والاعتداء على المدارس تحت شعارات «الإضراب»، قبل أن تتخذ من المدارس معاقل لها، ومراكز تجمع لقواتها، الأمر الذي مهد لخلق جيل «ضائع» وجد في المساجد «سبيلا للعلم»، فنشأت أولى حلقات الحشد «الجهادي» في سوريا، والتي تطورت فيما بعد إلى شكل «معسكرات جهادية».
أما في المناطق الخاضعة لسيطرة الوحدات الكردية، والتي تقيم «إدارة ذاتية» في الشمال والشمال الشرقي من سوريا، فقد أصدرت «هيئة التربية» التابعة للإدارة الذاتية الكردية في سوريا، مناهج تعليميّة جديدة باللغة الكردية، وقامت بفرضها على المدارس الواقعة تحت سيطرتها.
«سوداويّة» المشهد التعليمي السوري وتراجع سوريا من المرتبة 21 إلى المرتبة 135 من أصل 136 دولة لناحية معدَّل الالتحاق بالتعليم، (وفق تقرير «هدر الإنسانية» الذي أجراه المركز السوري لبحوث السياسات، بالتعاون مع الأمم المتحدة)، لا يمثّل الخطر الوحيد الذي يهدّد «جيل الحرب»، بل الخطر الأكبر هو بفقدان الطلاب السوريين لهوية تعليمية واحدة، وحالة التشرذم بين مذاهب فكريّة مختلفة، الأمر الذي سينشئ جيلاً فاقداً لهويته، أمياً بحضارته، مشتتاً، ضائعاً بين لغات وثقافات عديدة تفرضها القوى المسيطرة في الداخل، أو تلك التي يتوجب عليه تعلمها في دول اللجوء.
خسائر قطاع التعليم السوري
على الرغم من عدم توافر أرقام دقيقة من جهات بحثية محايدة، إلا أن الأرقام التي تقدمها الأطراف المعارضة لخسائر قطاع التعليم تتقاطع بشكل كبير مع الأرقام التي تقدمها الحكومة، والتي تفيد بـ «كارثة في قطاع التعليم السوري».
وتشير المصادر الحكومية إلى أن خسائر قطاع التعليم فاقت المئة مليار ليرة سورية (حوالي 312 مليون دولار).
ووفق تصريحات وزير التربية السوري هزوان الوز فقد خسر قطاع التعليم جراء الحرب حوالي خمسة آلاف مدرسة خرجت عن الخدمة، كذلك سجلت وزارة التربية مقتل نحو 500 من كوادرها، في حين شهدت المدارس مقتل نحو 500 طالب خلال فترات الدراسة، سواء داخل المدارس جراء القصف أو على أبوابها جراء التفجيرات الانتحارية.
وفي هذا السياق، يفيد تقرير «هدر الإنسانية» الصادر عن «المركز السوري لبحوث السياسات» أن تراجعاً طرأ على مستوى التنمية البشرية في سوريا، فتراجع أربعة عقود إلى الوراء، إذ بلغ دليل التنمية البشرية 0.472 مع نهاية العام 2013 مقارنة بـ 0.646 في العام 2010، لتنتقل سوريا، قبل الازمة، من مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة إلى مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المنخفضة، ما يعكس التدهور الحاد في أداء التعليم والصحة والدخل. وبحسب التقرير فإن محافظات حلب والرقة ودير الزور وريف دمشق تعتبر أكثر المحافظات التي شهدت تخلف الأطفال عن المدارس، حيث وصلت نسبة الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الأساسي في حلب والرقة حوالي 90 في المئة، علماً أن هذه الدراسة أجريت على سنوات الحرب الثلاث الأولى، قبل سقوط محافظة إدلب بيد تنظيم «جبهة النصرة»، فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا.
من مقاعد الدراسة.. إلى «معسكرات الجهاد»!
الانهيار الكبير الذي أصاب القطاع التعليمي السوري جراء الحرب المستعرة، ساهم بشكل كبير في تنمية دور «التنظيمات المتطرفة»، التي عملت منذ بداية الأحداث على استغلال هذه الظاهرة لتنمية «جيل جهادي»، وذلك عن طريق تفعيل وتنمية دور المساجد.
ففي مدينة حلب وحدها أنشأت الفصائل المسلحة أكثر من 500 مركز لتعليم الدين في المساجد والأحياء الخارجة عن سيطرة الحكومة، بتمويل ودعم من جمعيات خليجية، أو تحت إشراف مباشر من الفصائل المتشددة.
وتضج سوريا في الوقت الحالي بآلاف «الحلقات العلمية» التي يتم فيها تلقين الأطفال تعاليم «السلفية الجهادية» على امتداد الأرض السورية، تبعا للفصائل المسيطرة في كل منطقة. ففي مدينة الرقة الخاضعة لسيطرة «داعش»، على سبيل المثال، انشأ التنظيم عددا كبيرا من «الحلقات العلمية»، اتبعها بـ «خيم دعوية»، لتنتهي سلسلة تنشئة الأطفال بنحو سبعة معسكرات «جهادية» خاصة بالأطفال.
حال «داعش» يمكن أن ينسحب على حال جميع الفصائل المتشددة في سوريا، فـ «جيش الإسلام»، الذي يصنف كـ «معتدل»، قام بإنشاء أربعة معسكرات خاصة بتدريب الأطفال وفق مصدر معارض. كذلك أنشأ عشرات المراكز والمساجد الخاصة بتعليم الأطفال تحت شعار «تحفيظ القرآن». وهي ذات الخطى التي تسير عليها «حركة أحرار الشام» المرتبطة بـ «القاعدة»، وحليفتها «جبهة النصرة»، الفرع «القاعدي» المباشر في سوريا.
مصدر «جهادي»، و أكد أن «الجماعات الجهادية ترى في الأطفال مستقبلاً يجب العمل عليه، إضافة إلى أن ولاء الأطفال يكون كبيراً، ويمكن توجيهه وتغذيته، كما يمكن تجهيز الكثير من الانتحاريين من هذه العجينة السهلة التشكيل». واعتبر أن «الجهاديين لا ينظرون إلى هؤلاء على أنهم أطفال، وإنما مكلفون شرعاً بكل فرائض الإسلام، بما فيها الجهاد، لذلك لا يرون أنه من الخطأ دفع الأطفال إلى ساحات المعارك والاشتباكات، وهو ما يجعل التهديد الذي يحيق بالأطفال في مناطق سيطرتهم مضاعفاً، لأن له مبررا شرعيا».
ولا يقتصر نشاط هذه الجماعات على المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة في سوريا، بل يتجاوزها إلى مخيمات اللجوء في دول الجوار، حيث تشكل كل من تركيا والأردن معقلا لنشاط هذه الجماعات، والتي تستفيد من عوامل الفقر والجهل، وتقوم بتقديم معونات بشكل متواتر، وتنشئ «حلقات علمية» متوالية تجذب من خلالها الأطفال والقصر للقتال، تحت ضغط «الدين، الجهل، الفقر، الانتقام»، الأمر الذي يوفر بدوره مصدراً مهماً للموارد البشرية لهذه الجماعات.
الطلاب الفلسطينيون ضحايا للحرب
في سوريا، تقدم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تعليماً أساسياً ابتدائياً وإعدادياً لما مجموعه 65479 طفلا فلسطينيا، وذلك عبر 118 مدرسة تعمل جميعها وفق نظام الفترتين. وتتبع تلك المدارس المنهاج المعتمد من قبل وزارة التربية والتعليم السورية.
لكن النزاع الدائر في سوريا أثر تأثيرا خطيرا على عمليات «الأونروا» التربوية في البلاد، حيث إن معظم مخيمات اللاجئين التي فيها المدارس موجودة في أماكن عانت من عنف شديد؛ فيما أصبح سكانها الذين هربوا منها مشردين داخل سوريا وخارجها.
وذكرت «الاونروا» انه «بدعم من وزارة التربية والتعليم، استطعنا الوصول إلى 26 ألف طالب في سوريا. ووفرت الوزارة 28 بناية مدرسية في دمشق ودرعا، حيث أصبح بإمكاننا إدارة فترة مسائية فيها. كما أن البرنامج يقوم أيضا باستخدام 20 مبنى مدرسيا حكوميا آخر في الأماكن التي نزح إليها لاجئو فلسطين، وتم استيعاب حوالي 10 آلاف طالب، غالبيتهم من المشردين من مخيم اليرموك حيث تم إغلاق 29 مدرسة تابعة للأونروا. وهناك ألفا طالب اضطروا للبقاء في اليرموك، وقدمنا الدعم لمؤسسات المجتمع المحلي من أجل تمكينهم من الاستمرار بالتعلم، فيما يقوم برنامجنا بمتابعة شؤون عملية التعلم والامتحانات».
وأوضحت انه «على الرغم من هذه الجهود، فإن العديد من طلبتنا لا يزالون بعيدين عن متناول موظفينا. ومراعاة لوضعهم قمنا بإطلاق مشروع المواد ذاتية التعلم والذي نأمل أن يكون بإمكان كل الطلاب الوصول إليه قريبا، وقد تم تدريب عدد من العاملين على استخدام هذه المواد، ونحن نضطلع بعملية مستمرة من المراجعة والتطوير لكل موضوع من الموضوعات. وإضافة لذلك، بدأنا برنامج تعليم صيفيا لما فيه منفعة حوالي خمسة آلاف طالب ممن لم يكن بمقدورهم الوصول إلى مدارسهم. وأيضا من خلال العمل مع موظفي الطوارئ لدى الأونروا والهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب والهيئات المحلية الأخرى، استطعنا تدبر قيام 161 طالبا، ممن هم في الصف التاسع، وقيام 151 طالبا من الصف الثاني عشر من اليرموك بالخضوع لامتحاناتهم الحكومية».
علاء حلبي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد