المصريون يستعيدون ملكهم الألباني
لو أن الملك فاروق الذي حكم مصر ما بين عامي 1936 و1952، يُبعَث حياً بمعجزة هذه الأيام، فإنه حتما سـ"يموت" مرةً ثانية، لكنْ فرحاً، وهو يشاهد احتفاء بشخصه لم يحدث حتى إبان جلوسه على عرش مصر! ففي الأسبوع الماضي صدرت كل الصحف المصرية بدون استثناء، في ما عدا الحكومية منها، تتضمن ملاحق خاصة عن الملك الراحل وأسرته، بمقالات لكبار الكتّاب المصريين، غالبيتها تعيد إليه الاعتبار، وتدافع عما وصفته "الإنجازات السياسية لفترة حكمه"، وتقارن بين الظروف التى تعيشها مصر حاليا، والفترة الملكية ما قبل تموز 1952، عندما أطاح ضباط الجيش عرش فاروق. ليس هذا فحسب، فهناك أيضا عشرات المواقع ومنتديات الانترنت، تشهد نقاشات واسعة بين مصريين من كل الأجيال، حول الظلم التاريخي الذي تعرض له الملك السابق، وأسرته، وخصّص بعض المصريين المقيمين خارج البلاد مواقع الكترونية تحمل اسم الملك الرحل، وتمتلئ بصور نادرة له. وتزامن ذلك كله مع عرض مسلسل عن سيرته الذاتية على القنوات الفضائية.
يحدث هذا بعد خمسة وخمسين عاما من نفي الملك فاروق خارج البلاد، وإسدال الستار التاريخي على فترة حكمه. ففي تمام الساعة السادسة وعشرين دقيقة مساء يوم 26 تموز عام 1952، أجبر ضباط الجيش الملك على مغادرة مصر مع عائلته، الى أوروبا على متن يخته الخاص "المحروسة". ومنذ ذلك الحين دأبت كتب التاريخ الرسمية، وصحف الجمهورية التى أعلنها الضباط، على وصف سنوات حكم فاروق بـ"العهد البائد" في مقابل "العهد الجديد" الذي يمثلونه، وتعلم الأطفال في المدارس أن الملك السابق كان فاسدا سياسيا وأخلاقيا، مدمناً الخمر والنساء والقمار. ومُنع الملك من الظهور في حياة المصريين ولو رمزيا، حتى أن الأفلام السينمائية التى أنتجت قبل الثورة، وكانت صور الملك تظهر في بعض مشاهدها، إما جرى إعدامها بقرار من السلطة، وإما حُذفت صوره منها. حتى أن الملك المخلوع كان أوصى قبيل وفاته عام 1965 بأن يُدفَن في مصر، لكن الرئيس جمال عبد الناصر رفض تنفيذ وصيته، ووافق خلفه الرئيس أنور السادات بعد سنوات على طلب أفراد العائلة الملكية بأن يُدفَن فاروق في مصر، ونقل الرفات ليلا الى مسجد الرفاعي الأثري في قلعة صلاح الدين، تحت حراسة أمنية مشددة. كما سمح الرئيس السادات أيضا لبنات الملك الراحل بزيارة مصر بعد منعهن من ذلك سنوات طويلة في منفاهنّ الإجباري بأوروبا، ما اعتبره المحللون ومعارضو الرئيس السادات، أحد مظاهر الردة على سياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. برغم ذلك، ظل فاروق رمزا للفساد المطلق لدى المصريين الذين كانوا يلمسون حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي منجزات ثورة تموز الاجتماعية. لكن الحال تغيرت كليا منتصف أعوام التسعينات، حيث ظهرت كتابات تهدف الى إعادة الاعتبار الى الملك الراحل، إما من طريق كتب تاريخية وجدت لها صدى شعبياً واسعاً، وإما من خلال مذكرات شخصية لأفراد حاشية فاروق ومستشاريه. وفي عام 1998 كتبت لميس جابر قصة مسلسل يحكي حياة الملك السابق، اعتمدت فيه على تلك الكتابات، وقدمت صورة مغايرة تماما للملك عن تلك المتجذرة في أذهان المصريين، لكن الرقابة في التلفزيون المصري رفضت العمل، فما كان من الكاتبة إلاّ أن حاولت تسويقه لدى الفضائيات. وبالفعل وافقت فضائية "أم. بي. سي" على إنتاجه، وعُرض المسلسل في شهر رمضان من هذه السنة، ولاقى قبولا جماهيريا واسعا.
تقول لميس جابر إن دافعها الى كتابة المسلسل، وتقديم صورة مختلفة للملك السابق، هو "الجرم الذي ارتكب في حق الشعب المصري، بإلغاء فترة من تاريخه الوطني وتشويهها وتلويثها"، قاصدة ما فعله ثوار تموز بتاريخ الملك.
غير أن المسلسل لم يكن هو شكل الاحتفاء الوحيد بالملك المخلوع، فقد شهدت المحال المتخصصة في بيع المقتنيات النادرة في القاهرة إقبالا واسعا على شراء صور الملك، وكل ما يتعلق بفترته التاريخية، على ما أكد تاجر "الأنتيكات" عبد المحسن صالح قائلاً لي: "طبعنا صورة شعبية للملك فاروق رخيصة الثمن لتلبية الطلبات، أما الأثرياء فيطلبون شراء صور أصلية للملك من تلك المطبوعة في الأربعينات".
أما الكاتب الشاب المتخصص في التأريخ لفترة ما قبل ثورة تموز، ومحرر دورية "أيام مصرية" التي تهتم بالتاريخ أحمد كمالي فتلقى هو أيضا عروضا كثيرة، لإعداد ملاحق خاصة عن الملك فاروق في العديد من الصحف، لامتلاكه أطناناً من الوثائق والصور عنه.
السؤال: ما السر في الاهتمام المفاجئ بالملك الراحل، وحياته، ومن جانب أجيال عاشت حياتها في ظل مصر الجمهورية، وتعلمت من كتب التاريخ أن الفترة الملكية هي الأسوأ في التاريخ المصري على الإطلاق؟
أستاذ علم الاجتماع المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم، أحد أبرز معارضي الرئيس المصري حسني مبارك، يرى أن السبب هو الحنين الى "عصر ليبيرالي ازدهرت فيه الحريات والآداب والفنون. كانت فيه خصومات وصراعات، لكنها لم تتحول الى عداوات وتصفيات"، على ما كتب في يومية "المصري اليوم" منذ أيام، مضيفا: "طبعاً، معظم الذين عاشوا تلك الحقبة لم يكونوا يعتبرونها زمنا جميلاً في الضرورة، وأنا منهم. لكن جمال ذلك الزمن تحقق "بأثر رجعي". فما رأيناه بعد ذلك من قبح وانحطاط، من استغلال وانحلال، جعل الناس تترحم ليس فقط على زمن الملك فاروق والنحاس في مصر، بل أيضاً على زمن الملك فيصل ونوري السعيد في العراق، والملك إدريس السنوسي ومصطفى بن حليم في ليبيا. فرحمة الله عليهم، ولعنة الله على من خلفهم من مستبدين".
أما أستاذ علم النفس السياسي الدكتور قدري حفني، فيؤكد أن هذا الاهتمام المتأخر بالملك الراحل، كان رد فعل على مسلسل "فاروق" الذي عرض في شهر رمضان، على ما قال لي: "لم يسبق المسلسل أي حديث عن الملك فاروق بهذا الشكل المكثف الذي نشهده هذه الأيام، ولا أظن أن الحديث عنه، يعني الحنين الى الماضي بشكل مطلق، ذلك أن الحنين دائما انتقائي، والحنين الى ما قبل ثورة تموز 1952، ليس حنينا الى الإقطاع والظلم الاجتماعي، وإنما الى الهامش الليبيرالي، والحرية النسبية التي كان ينعم بها المصريون"، مضيفاً "أن لاهتمام الذي استثاره المسلسل، هو نوع من أنواع التعرف الى الذات، والى التاريخ، لدى الأجيال التي لم تعايش الفترة الملكية، وقرأت عنها فقط، وهو أيضا خطاب الى المستقبل. مستقبل فيه قدر من الحرية لا يتوافر الآن. فالرسالة التى يلتقطها المتابع لهذا الاهتمام بالملك السابق وفترة حكمه، أن التاريخ ليس فيه أبيض وأسود، باستمرار فيه ألوان عديدة، والمشكلة أن هناك ميلا عربيا الى "الشيطنة" عند كتابة تاريخ بعض الأشخاص، فهم إما شياطين يخلون من كل خير، وإما ملائكة ليس فيهم أي شر".
يحيى وجدي
المصدر: النهار
إقرأ أيضاً:
حاتم علي يعيد بناء التاريخ السياسي المعاصر في مصر
حاتم علي يزعزع القناعات المسبقة في «الملك فاروق»
مسلسل «الملك فاروق» قراءة للتاريخ من وجهة نظر الباشوات والإقطاعيين
هل تصحّح الدراما التاريخ المكتوب؟
- تيم الحسن: لا تلتفتوا إلى التصريحات فالشعب المصري محب وطيب
- تيم الحسن يخطف الأضواء ونجوم مصر نادمون
- حسين فهمي يطالب بعودة الأنظمة الملكية والجمهوريون يهاجمونه
إضافة تعليق جديد