مسلسل «الملك فاروق» قراءة للتاريخ من وجهة نظر الباشوات والإقطاعيين
من حق الفن أن يلعب خارج السياسية إذا شاء، لكن عندما تركب سياسية معينة ظهر الفن، وتقوده في الاتجاه الذي ترغب، فلا بد عندئذ من مناقشة الناتج الفني، باعتباره حصاداً سياسياً جيداً كان أم رديئاً!
وفي مسلسل (الملك فاروق) الذي أخرجه مخرجنا المتميز (حاتم علي) كان يفترض أن ننتظر حتى نشاهده كاملاً، ثم نحكم عليه، لكن رغبة الشبكة المنتجة في التمهيد له بقوة، جعلنا نناقش ما قيل حول المسلسل، وما عرض تمهيداً له، وما أثير فيه من اتهامات لثورة 23 يوليو القومية الاشتراكية وقائدها الراحل جمال عبد الناصر.
مساء الخميس 6 أيلول، أفردت إحدى قنوات المحطة المنتجة للمسلسل سهرتها لعرض فيلم (قدر أميرة)، حيث قدمت لنا ابنة الملك فاروق (فريال)، بوصفها (صاحبة السمو الملكي)، لتروي لنا كيف أُجبر والدها الملك على التنازل عن العرش، ومغادرة أرض مصر، ولتبرر ذلك بالقول (كان يحب بلده مصر، ولم يكن يريد أن تسيل نقطة دم مصرية)، ولهذا السبب تنازل وغادر. وهو لم يكن مسؤولاً عن الهزيمة في حرب فلسطين، لأن قضية فلسطين لم تحل حتى الآن، ولأنه حصلت نكسات إلى أن جاء الرئيس السادات، فتعامل مع القضية بعقل وواقعية!..
ثم نكتشف من خلال حديث الأميرة السابقة، أن الملك فاروق كان فقيراً معدماً! وأنهم غادروا مصر بملابس الصيف فقط، وأن كل ما قيل عن الملك وحاشيته، وما وُجه له من اتهامات كان (زبالة)، هكذا قالت!.. وأن اتهامات ثورة يوليو له كانت ظالمة وفاسدة ولا تقوم على أساس، ولولا أسرة ملكية عربية أخرى، لما تمكن الملك وأسرته من العيش.
ثم تعود الأميرة «السابقة» تحت ضغط المذيع، لتؤكد أن الملك كان فقيراً (!)، ولم يكن لديه ثروات أو حسابات في المصارف. وأن كل ما قيل عن الثروات التي نقلها معه كانت أكاذيب بأكاذيب!.. وأنه كان وطنياً، وأدى واجبه بإخلاص، وكان (عربياً قومياً) عمل على تأسيس الجامعة العربية، ثم يوجه المذيع المدعو (ريكاردو كرم) سؤالاً اتهامياً يقول: (هل مات مسموماً؟)، هل سممته ثورة 23 يوليو في روما؟. فترد الأميرة السابقة بالقول: (أنا أصدق ذلك، لأنه لم يكن هناك سبب لموته).
ثم يعقب المذيع بجملة فاجرة واتهامية، فيقول: (باسم الاشتراكية عاشت أسرة الملك في فقر، وعاشت أسرة الرئيس عبد الناصر برفاهية؟!). وبغض النظر عما تثيره هذه الأكاذيب والافتراءات من استفزاز لجماهير مصر والأمة، فإننا لن نتوقف عندها، لأنها لا تستحق الرد، ولأننا سنناقش ما تلاها.
عقب انتهاء عرض فيلم (قدر أميرة) استكملت السهرة، ودغم الفيلم بمسلسل (الملك فاروق)، وجلست المذيعة بين (حاتم علي) في الأستوديو، وشاهدا زور في القاهرة، هما لميس جابر كاتبة المسلسل، وأحمد مسلماني الذي يدعي أنه من المؤرخين الجدد. وهنا بدأ تحميل مسلسل (الملك فاروق) معانيه السياسية بحضور مخرج العمل وأمامه وعلى مسمعه.
وحتى لا نطيل على القارئ نلخص ما أورده الثلاثة بمن فيهم مخرجنا المتميز. تبدأ لميس جابر فتزعم أن هناك تاريخاً كاملاً غير حقيقي، وكله إساءات أخلاقية، وهذا التاريخ يبدأ من ثورة يوليو. وأن حياة الملك الشخصية تم تزويرها، وتذهب لميس إلى حد القول: إن أكبر إساءة وجهت لمصر وشعبها هو ما كتب ونشر عن الملك فاروق، وعن علاقاته الجنسية ونهمه للطعام والملذات. وأن الذين كتبوا عن الملك أساؤوا لمصر (كأن الملك ومصر كيان واحد!).
أحمد مسلماني يبدأ بتحية الشبكة المنتجة للمسلسل، لأنهم يزيلون ما علق بأسرة محمد علي وآخر ملوكها فاروق من ظلم!.. ثم يصرخ: إن ثورة يوليو أهالت التراب على وجه فاروق وأسرة محمد علي، وكأن تاريخ مصر يبدأ فقط من عام 1952، وقد ظل الملك بعد انتزاع العرش منه مغموراً ومجهولاً، ولم يعرف المصريون عنه إلا كل ما هو سيئ.
وهنا ـ بحسب السياق ـ تعلق المذيعة مخاطبة لميس بالقول: أنت تقولين إن الملك لم يكن عميلاً، وهذا ما يقوله المسلسل، ويأخذ الكلام أحمد مسلماني ليؤكد ـ بحرارة المرتد ـ إن فاروق كان وطنياً تماماً، وكان ملكاً مقبولاً، ولم يكن ماجناً. بل يذهب مسلماني خطوة أبعد ليؤكد أن الملك كان يملك خلقاً نفسياً سوياً وروحانياً، وأنه كان زاهداً في الحياة، ولهذا فإن الإساءة إليه هي إساءة لوطن كامل (!).
ثم ينفي المسلماني تهمة الديكتاتورية والفساد عن الملك الفاسد، ويعتبر أنه نجح في امتحان السلطة، وخاض حرب فلسطين، وأنه لم تكن هناك أسلحة فاسدة!.. ثم يعلن مسلماني ـ دون أية معارضة أو تحفظ من حاتم علي ـ إن مسلسل (الملك فاروق) سيجعل الناس يكتشفون أن من جاء بعد فاروق ليس بأفضل من فاروق! بل إن عداً تنازلياً بدأ منذ عام 1952، ثم يختتم هذا المؤرخ الدعي بالقول: إن الثورة المصرية سممت الملك، وأنها لو كانت تحظى بشرعية حقيقية لما تصرفت بهذه القسوة مع الملك!.
المخرج حاتم علي بدأ حديثه بأن واحدة من المغريات بالنسبة له: أن فتى بعمر السادسة عشرة يجد نفسه فجأة ملكاً على بلد كبير، وعليه أن يتعامل مع السياسيين الكبار. لقد وجدت في ذلك مرحلة شديدة الإغراء، ثم يتحدث حاتم عن فاروق فيصفه بأنه كان خجولاً (!) ويهرب من بعض المشكلات، إلى أن استطاع أن يبني شخصيته.
ثم يدلي حاتم بتحليله السياسي فيقول: (استفزني أن يستخدم سلوك الملك سياسياً ولأسباب عقائدية، وأن يتم استبعاد التجربة التاريخية السابقة، ثم يعرب عن ظنه بأن تاريخ فاروق قد استخدم سياسياً لتشويه صورة الملك الشخصية).
وفي رده على سؤال المذيعة: كيف قفزتم عن الصورة الراسخة في أذهان الناس عن الملك فاروق؟ يرد حاتم علي فيقول: أنا أعتقد أن واحدة من فضائل العمل التاريخي أن يعيد رسم صورة لعصر وملك، لنكتشف أن وصم عصر فاروق بالفساد، هو أمر في غاية الظلم.
هكذا ينتهي الحوار، الذي تداخلت فيه مقاطع من فيلم (قدر أميرة) ومشاهد من مسلسل (الملك فاروق)، لنكتشف ببساطة أن هذا المسلسل ليس مصرياً (!)، لأنه صوّر في مصر، وليس سورياً لأن مخرجه وبطله سوريان، وإنما هو مسلسل، طلبته، وطلبت كتابته، وأنتجته ومولته شبكة تلفزيونية غير مصرية وغير سورية، ولنكتشف أن الهدف من هذا المسلسل، هو إعادة الاعتبار للأسر الملكية الحاكمة التي أسقطها الشعب العربي في مصر وبغداد في ذروة انتفاضة ومد حركة التحرر العربي. وأنه يهدف إلى نزع الشرعية عن الثورات الوطنية والقومية العربية، التي عبرت عن آمال وأحلام الجماهير العربية. وليس بعيداً أن تتبرع الشبكة التلفزيونية ومموليها بإنتاج مسلسل عن ملك العراق (فيصل) لتقول لنا: إن هذا الحكم الملكي انخرط في حلف بغداد، وتآمر على كل الأمة العربية، من أجل مستقبل العرب وكرامتهم. أو ربما تعمل على إنتاج مسلسل عن ملك اليمن لتقول لنا: إنه كان يعمل على إنارة اليمن بالحضارة، وإسعاد شعبها بالرخاء.
ربما كان هؤلاء يحملون حقداً قديماً على ثورة يوليو العربية، وربما أزعجهم أن كل الأفلام والمسلسلات التي أنتجت عن ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، قد استقبلت بحماسة وترحاب من الجماهير العربية. لذا أرادوا أن يقدموا النقيض، لعل وعسى!..
إنها محاولة لإعادة إنتاج الملك فاروق تلفزيونياً بحيث يقدم لنا كمصري ووطني، بل و(عربي مخلص) أسهم في تأسيس الجامعة العربية! ولم يكن مسؤولاً عن الفساد والخراب والإقطاع الذي كان كارثة على مصر وفقرائها. وبقدر ما يحاول هذا المسلسل رد الاعتبار لملك عاش خارج آمال الشعب المصري وتفرغ لملذاته ومغامراته، فإنه يحاول النيل تلقائياً من ثورة يوليو، والحكم عليها بالسوء، لأنها ظلمت الملك المخلص المسكين؟!
وهكذا يكون اللعب بالدراما التلفزيونية لعباً في التاريخ، وتزويراً للحقائق، كي يوظف سياسياً في عملية حقد وثأر لا يزال البعض يحملها ضد ثورة يوليو المصرية، والفقراء الأشراف الذين قادوها لصالح شعب مصر وحريته واستقلاله، وتحريره من الفقر والعبودية والإقطاع والحرمان.
عمار أبو عابد
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد