"النور المقدس" أعجوبة الفصح لدى الأرثوذكس
من دون شك، "النور الهابط من السماء" الى قبر المسيح في القدس "اعجوبة" بالنسبة الى كثر من الارثوذكس. في "سبت النور"، يتحول المقام المقدس محجّا لآلاف، ليعاينوا نور القيامة حسيا، واقعيا. ازاء هذا الايمان الارثوذكسي، تثار اسئلة عن حقيقة النور: هل ينبعث بالفعل؟ لماذا لا يؤكده الكاثوليك والبروتستانت؟ لماذا يدخل البطريرك الأورشليمي الارثوذكسي القبر وحده؟ هل ثمة خدعة في الامر؟ وهل للعلم كلمة يقولها في هذا الخصوص؟
في بحث علمي روسي حديث لتفسير انبثاق النور، حاول رئيس معهد الطاقة الذريّة في موسكو الدكتور أندري فولكوف قياس إشارات بالبث الإذاعي ذات الذبذبات المنخفضة والموجات الطويلة في كنيسة القيامة العام 2008، وقت حلول النور المقدّس. ولاحظ أن "العجيبة المطلقة هي الفرق ما بين الإشارات التي تلقّاها يوم حلول النور واليوم الذي سبقه"، مشيرا الى أن "التحاليل التي أجريت على الشقّ الذي في العمود إلى مدخل الكنيسة تبين أن الشقّ لا يمكن أن ينتج عن تسريب كهربائي". وخلص قائلا: "إذا سألتموني ما إذا كانت هناك أعجوبة أم لا، أقول لكم لا أعرف". وقد توصل أحد منافسيه العالِم المتفوق في ميكانيك التدمير يفغيني موروزوف إلى النتائج نفسها. (وكالة "انترفاكس" الروسية-17 شباط 2009)
تفتيش واختام وصلاة
ما النور المقدس؟ وماذا يقول التقليد الارثوذكسي عنه؟ "انه اعجوبة يشهدها القبر المقدس في القدس كل سنة، وتحديدا في "سبت النور" لعيد الفصح الشرقي الارثوذكسي، في الزمان والمكان نفسيهما، اذ لا يزال النور "ينبعث او يفيض"، على ما يؤمن به كثر، من القبر في كنيسة القيامة حيث صلب المسيح ودفن، في ظاهرة متجددة منذ القرن الميلادي الاول.
صباح السبت، يبدأ التحضير "لاستقبال النور". تبدأ مراسمه بتفتيش القبر بدقة في العاشرة قبل الظهر، للتأكد من عدم وجود اي مادة او اداة يمكن ان تستخدم لاشعال النار. وبعد ختم السلطات المسؤولة القبر بالشمع الاحمر والعسل، تعمد الجهات المشتركة في المسؤولية عن القبر الى طبع خاتمها الخاص على مزيج الشمع والعسل.
في الثانية عشرة ظهرا، تبدأ الرتبة الدينية الخاصة بفيض النور. ووفق التقليد الارثوذكسي، يدخل بطريرك الروم الارثوذكس الاورشليمي كنيسة القيامة من مدخل داخلي لكنيسة القديس يعقوب، في تطواف يضم المتقدمين في الكهنة والكهنة والشمامسة. وبعد ان يجلس على العرش البطريركي، يبدأ التطواف ثلاث مرات حول القبر. وفي ختامه، يُزال الختم عن القبر، فيما ينزع البطريرك ملابسه الاسقفية ما عدا قميصه الابيض ("الاستيخارة").
وبعد تفتيشه امام الجميع للتأكد من انه لا يحمل شيئا تشعل به النار في الداخل، تطفأ كل الانوار في الكنيسة، ويدخل البطريرك القبر، حاملا رزمة شمع تضم 33 شمعة غير مضاءة. يركع ويصلي، تاليا طلبات خاصة تلتمس من السيد المسيح ان يرسل نوره المقدس "نعمة تقديس للمؤمنين".
ووفق شهادات بعضهم، "يُسمَعُ أزيز. وفي الحال تقريبا، تتدفق شهب زرقاء وبيضاء من كل مكان، لتشعل عجائبيا آنية زيت وشموعا مطفأة، كما تشتعل شموع البطريرك تلقائيا. وتتصاعد هتافات المؤمنين فرحا". وفي خبر اوردته وكالة "رويترز" في 3 نيسان 2010، ان آلاف المسيحيين احتشدوا في الكنيسة... ودخل البطريرك ثيوفيلوس الثالث القبر. ونحو الثانية بعد الظهر بتوقيت القدس، سطع ما يعتقد انه شعاع شمس عبر النافذة في سقف الكنيسة واضاء مصباحا في القبر. واضاء البطريرك بعض الشموع بالنار المقدسة ومررها على المصلين في الكنيسة، الذين تناقلوها في سائر الانحاء".
النور المقدس الفائض من قبر المسيح هو "سابقة الانباء بنهار القيامة المضيء، ويؤكد ان المسيح اشرق بنوره على الذين هم في الجحيم، وانار الظلمات، وسطع نوره الالهي على المؤمنين"، يشرح احد منظمي "رحلة شعلة النور المقدس" الى لبنان كاهن رعية مار الياس الارثوذكسية في بيت مري الاب الحارث ابرهيم في حديث الى "النهار". ويقول: "من يؤمنون بان المسيح نور من نور هم الذين يعاينون فعليا نور القيامة. لذلك يقول القديس يوحنا الدمشقي "اذ قد رأينا قيامة المسيح". لكن ما الذي رأيناه في القيامة؟ لقد وجدنا القبر فارغا، وكانت الدلالة الاولى الى ان المسيح قام بالجسد. ويصف القديس يوحنا الدمشقي في كتاب المعزي، ان بطرس لما وافى القبر مسرعا، رأى النور فيه فدهش منذهلا...".
مشاهدات وكتابات تؤكد
يبرز الارثوذكس، في تأكيدهم انبعاث النور المقدس، جملة كتابات ومراجع، ابرزها ترجع الى اوائل القرن الرابع. ويشير بعضها، لا سيما للقديسين غريغوريوس النيصي ويوحنا الدمشقي، الى انبثاق النور في اوائل القرن الميلادي الاول، وتروي كيف ان الرسول بطرس رأى النور المقدس بعد سنة من قيامة المسيح (34 م).
وفي شهادة اخرى من القرن الرابع، تروي الرحالة الاسبانية اثيريا التي سافرت نحو العام 335 الى فلسطين ما شاهدته في القبر المقدس. "في هذا الاحتفال، خرج نور من الكنيسة الصغيرة التي تضم القبر". اما بطريرك اورشليم الارثوذكسي ثيوذوروس فيصف ما يحصل عادة: "أركع امام الحجر الذي وضع عليه جسد المسيح الطاهر بتقوى، وأواصل الصلاة بخوف وتقوى، وهي صلاة كانت ولا تزال تتلى، وعندها تحدث اعجوبة انبثاق النور المقدس من داخل الحجر المقدس".
ويصف ايضا رئيس دير روسي الارشمندريت دانيال في مذكراته (1106- 1107) بدقة ما شاهده: "يدخل البطريرك الارثوذكسي الكنيسة، حاملا شمعتين، فيركع امام الحجر الذي وضع عليه جسد المسيح المقدس، ثم يبدأ الصلاة بكل تقوى وحرارة، فينبثق النور المقدس من داخل الحجر بطيف ازرق، ويضيء شمعتيه، ثم القناديل وشموع المؤمنين".
ويدل ايضا الارثوذكس الى "العمود الذي انشق من الوسط في الكنيسة"، ويرجع الى القرن الثاني عشر، اثباتا لانبعاث النور. "هذه الاعجوبة حصلت العام 1579 على اثر منع السلطان العثماني مراد بطريرك اورشليم صوفرونيوس من دخول القبر، "فوقف البطريرك حزينا في الخارج قرب العمود يصلي ساجداً، وفجأة خرج النور المقدس من العمود وانشق من الوسط". ولا يزال العمود شاهدا للامر حتى اليوم، ويقبله المؤمنون لدى دخولهم الموقع.
وفي شهادة حديثة، يقول الطبيب اليوناني الاب أنطونيوس ستيلياناكيس الذي تمكن العام 1994 من التقاط صور للنور المقدس على الكاميرا ووضع كتابا عنه: "رأيت سيلاً من البروق المضيئة ظننتها في البداية "فلاشات" آلات تصوير، لكنّني استدركت للحال أنّه لا يمكن أن تعمل مئات الفلاشات في لحظة واحدة معًا. وفي الوقت نفسه، عمّت هذه البروق الكنيسة وأخذ النّور يتراقص على الجدران والسقف. ثم تمكّنتُ من معاينة كرة ناريّة برتقاليّة تخرج من عن يسار القبر إلى موقعي. ثم رأيت شعلة تتوجه إلى الأعلى بتؤدة، كأنّها سفينة فضائيّة، قبل أن تنطفئ فوق عليّة النّساء، حيث كان الناس يحملون شموعًا اشتعلت وحدها".
من صفات النور ان "لونه ازرق ثم يتغير الى الوان عدة. وهذا امر لا يمكن تفسيره في حدود العلم البشري، لان انبثاقه يكون مثل خروج الغيم من البحيرة، يظهر كأنه غيمة رطبة، لكنه نور مقدس"، يقول البطريرك ثيوذوروس. ويشير ايضا الى ان "من اهم صفاته انه لا يحرق، وقد تسلمته 16 عاما، ولم يحرق لحيتي. فهو يظهر كعمود منير، ومنه تضاء الشموع التي احملها ".
بدوره، يلفت الاب ابرهيم الى ان "النور قد يكتسب اشكالا منوعة. فقد يكون شِلَلَ نار تمرّ على أكتاف الناس، او طابة نار، او شرارات. وهو لا يحرق اي جزء من الجسم اذا وقع عليه"، مما يدل، وفق الارثوذكس، الى "ألوهية المصدر وانه له صفات فوق الطبيعة". ويشرح ان "أيّاً كان يمكن ان يمس النور ونار الشموع ولا يحترق في الدقائق الاولى لانبعاثه. وقد تمر 30 دقيقة قبل ان يصير اللهب عاديا".
شكوك وسخرية... وخدعة؟
اذا كان عدد كبير من الارثوذكس يؤمنون بالنور المقدس ويحملونه مسافات طويلة الى بلدانهم البعيدة والقريبة، فالحال مغايرة عند مسيحيين آخرين. يقول الاب ابرهيم: "البروتستانت يخضعون العجائب للمنطق، واي شيء في الانجيل خارق للطبيعة يخضعونه للطبيعة ويفسرونه في شكل طبيعي وعلمي. وبالنسبة الى الكاثوليك، لا اعرف اذا صاروا يشكون بعدما غيّروا تقويمهم، او اذا كانت لديهم شكوك من قبل".
لكن لماذا لا يفيض النّور إلا في عيد الفصح الشرقيّ الأرثوذكسيّ؟ يجيب: "المسألة ليست في حصريّة انبثاقه قبل الفصح الشرقيّ الأرثوذكسيّ، لأنّ قاعدة التعييد للفصح مسيحيّة عموما، وضعها آباء الكنيسة الجامعة في المجمع المسكونيّ الأول المنعقد في نيقية العام 325، يوم كانت الكنيسة واحدة. وقد رتّبوا حسابها لتكون متماشيةً مع واقعٍ تاريخيّ، وآخر ليتورجيّ، فتستند أولاً إلى اكتمال البدر في الشهر القمريّ أبيب (وفق كتاب الخروج الإصحاح 12) الذي في موعده يتمّ الفصح النّاموسيّ اليهوديّ، والذي كان رمزًا للفصح الحقيقيّ، يسوع المسيح... ولكن ما حصل هو تغيير البابا غريغوريوس الرزنامة العام 1582، من دون أن يراعي الحَدَث التاريخي والنّاموسيّ الكتابيّ لصلب المسيح، فصار بموجب الحساب الغريغوري الجديد يقع يوم القيامة قبل الفصح النّاموسي أحيانًا... وهنا نرى تحييدًا للحقيقة التاريخيّة والكتابيّة. فكيف نعيّد لغلبته على الموت وهو وفق الترتيب النّاموسيّ لم يُصلب بعد؟".
والسؤال عن السبب الذي يجعل البطريرك الارثوذكسي يدخل وحده القبر يجيب عنه ابرهيم "باننا نعتبر دخوله هذا خدمة سر".
"شكوك"، "سخرية" يبديها آخرون تجاه النور المقدس. ففي القرون الاولى، كتب مؤرخون مسلمون عن "نزول نار من السماء على النصارى، فيسرج هناك الشمع وتشتعل القناديل..."، عازين الامر الى خدعة يقومون بها عبر "خيط حديد يطلونه بدهن البلسان ويشعلونه وينتقل من القناديل، فيشعل الكل...". ويحكى اليوم عن "تجنب الكاثوليك والبروتستانت طقس النار المقدسة وابداء زوار غربيين سخرية من هذا الطقس الاحتفالي" (وكالة "رويترز"- 3 نيسان 2010).
على اقوال مؤرخين مسلمين، يأتي الرد بما اخبره "مؤرخ معروف عندهم يدعى "البيروني" ان حاكماً مسلماً وضع فتائل مصنوعة من النحاس لافشال المعجزة، لكن عند انبثاق النور المقدس، اضيئت اسلاك النحاس مجداً للثالوث القدوس. ووصف ايضا المؤرخ الانجليزي جوتير فينوسيف ما حصل عام 1187 "يوم احب السلطان صلاح الدين ان يحضر الاحتفال الديني، مع انه غير مسيحي. وفي ذلك الوقت، نزل النور المقدس من الاعلى على حين غفلة. لكن مساعدي صلاح الدين "القائد المسلم" قالوا بان النور نزل بواسطة اصطناعية. عندها اطفأ صلاح الدين القنديل، لكنه اضيء ثانية. وعندما اطفأه مجددا، اضيء من تلقائه. عندها صرخ قائلا: نعم، سأموت قريبا، او سأخسر القدس".
(من موقع www.holyfire.org)
بالنسبة الى الاب ابرهيم، يكون الرد على هذه الشكوك او السخرية "باهازيج الفرح المتعالية من الناس حتى قبل خروج البطريرك من القبر، واشتعال شموع وقناديل من تلقائها، في وقت اطفئت الاضواء في الكنيسة، وبشهادات مؤمنين كانوا هناك". ويقول: "في كلّ القضايا، يُطرَحُ موضوع الإيمان، أي أن تُصدّق أو لا تُصدّق... كثر آمنوا بيسوع ولم يروه، وأخذوا بشهادة الرسل فقط... أنا لم أرَ انبثاق النّور ولم أتشرّف بزيارة الأماكن المقدّسة بعد، لكننّي أصدّق من رأوا وشهدوا لحقيقته ولحرارة حجر القبر المقدّس، حتّى بعد ساعات من انبثاق النّور. أمّا حقيقة انبثاق النّور المقدّس من قبر السيّد المسيح، فلا أنا إذا آمنتُ بها أُعتبر مخالفًا لإيمان الكنيسة عند من يشكّكون فيها، ولا يكون مَن يُشكّك فيها مخالفًا لإيمان الكنيسة عندي. والمهمّ أنّنا كلنا نؤمن بالثالوث الأقدس وبطبيعتَي المسيح، الركنين الأساسيين لإيمان الكنيسة المسيحيّة. وأدعو المشكّكين إلى تبسيط الموضوع وعدم جعله قضيّة عقائديّة، لأنّه ليس كذلك".
هالة حمصي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد