بغداد ـ الرياض ـ بيروت: ماذا تريد دمشق؟
الجمل ـ سعاد جروس : بعد موجة التفاؤل من التوتر العالي التي أشاعها التواصل السعودي الإيراني وإعلان الولايات المتحدة الأميركية عزمها على حضور المؤتمر الدولي حول العراق بمشاركة كل من إيران وسوريا, وبعد إرسال السعودية دعوة للرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة العربية وكذلك الرئيس اللبناني اميل لحود, جاءت نتائج القمة السعودية الإيرانية لتكبح هذا التفاؤل. وبحسب التسريبات التي تلت القمة, فإن العقدة تكمن في الموقف السوري من إقامة المحكمة الدولية بخصوص اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وليُثبت مجدداً أن ملفات المنطقة مترابطة, ولا يمكن تجزئة الحل, كما لا يمكن عزل سوريا عن أي حل ممكن, أو يظهر في الأفق, ولا في حال فرض حلول لا تراعي مصالحها. ويبدو مؤتمر بغداد في العاشر من الشهر الحالي اختبارا سيحدد نتائج مؤتمر القمة العربية المنعقد في الرياض نهاية الشهر, فماذا تريد سوريا من هذين المؤتمرين وبأي نيات مسبقة تشارك فيهما؟
زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى المملكة العربية السعودية اعادت تسوية «لاغالب ولا مغلوب» إلى خانة «المراوحة في المكان», وفق وصف أطلقه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل على ملف الأزمة اللبنانية بعد فرملة الآمال التي علقت على القمة السعودية الإيرانية, ويمكن سحب هذا الوصف على الملفات الأخرى المتأزمة في المنطقة من العراق إلى فلسطين مروراً بلبنان.
الواضح من التسريبات عن نتائج القمة الثنائية, أن الدولتين لم تتفقا إلا على خط عريض جداً وهو «منع انتشار النزاع السني الشيعي في المنطقة», كتلخيص لهذه النتائج. بعدما كان متوقعاً أن يتم حسم ملف الأزمة في لبنان, ولو باتفاق شبيه بـ«اتفاق مكة» الذي أعاد جمع الفلسطينيين حول طاولة تشكيل حكومة وحدة وطنية, بدل المواجهات في الشارع. لكن ما توصل إليه العاهل السعودي والرئيس الإيراني, لم يتجاوز إعلان هدنة للمخاوف المتبادلة, والدخول في مرحلة تأسيس للثقة يدعمها تبادل المشاريع الاستثمارية بين البلدين.
وبينما تُرك نجاح الفلسطينيين في تنفيذ اتفاق مكة رهناً بالقرار الأميركي والإسرائيلي, والذي عبر عن رفض أي حكومة وحدة وطنية ما لم تعترف «حماس» بإسرائيل, بقي الملف اللبناني معلقاً في مهب التجاذبات الإقليمية والدولية والنزاعات الداخلية على السلطة, والخلاف حول إنشاء المحكمة الدولية, إذ لم تفلح السعودية بإقناع إيران في دفع سوريا للقبول بقرار المحكمة من دون تعديل أو تبديل, كما لم يحدث ما راهنت عليه أميركا وأطراف عدة في المنطقة من فك التلازم الإيراني السوري جراء التواصل السعودي الإيراني, وبذلك يكون كل شيء قد بقي على حاله, فيما الزمن يتقدم نحو عقد مؤتمر بغداد والذي تريده أميركا «جس نبض» لما قد تقدمه إيران وسوريا في العراق, والملف اللبناني الذي تراهن عليه بكل دعمها في أن تجعله سبباً لإضعاف سوريا ووسيلة لعزلها وتهيئتها لفرض مطالب عليها. ما جعل هذا الملف عقدة أمام أي حل في العراق تقبل كل من إيران وسوريا المشاركة فيه, وأصبح شرطاً أولوياً لسوريا كي تتعاون في العراق, لذلك شدد الإيرانيون على نظرائهم السعوديين والمصريين على ضرورة «التعامل بعقلانية» مع أحداث المنطقة ومع سوريا.
لا يرى السوريون من طرفهم شيئاً من المنطق في القبول بإنشاء محكمة دولية مطلوب موافقتهم عليها, في الوقت الذي تستبعد عن الدخول في مباحثات حولها, وفي الوقت الذي لا يخفى فيه أهداف هذه المحكمة للضغط على سوريا بوضع رقبتها تحت سيف التهديد ولو مع وقف التنفيذ. ومع أن الرئيس السوري وضح موقف دمشق من المحكمة لرئيس الوزراء اللبناني السابق سليم الحص بأنها «ليست ضد مبدأ تشكيل المحكمة, بل أنها ضد تسييسها», وتعارض في إقرارها قبل انتهاء التحقيق الذي لا يزال مكرساً لتثبيت الاتهام عليها, وتنظر إليه على أنه سبب كاف لرفض صيغة مشروع إقرار المحكمة والمطالبة بتعديله لضمان عدم التسييس. وفي حديث مع جريدة «اللوموند» الفرنسية الأسبوع الماضي, قال نائب الرئيس السوري فاروق الشرع: «مسألة المحكمة خارج الموضوع, لأن التحقيق لم ينته بعد, والأمم المتحدة لم تبلغنا بشأن مشروع المحكمة, كما انها لم تستشرنا. إنها مسألة لبنانية بحتة». وعاد وزير الخارجية السوري وليد المعلم ليؤكد الموقف السوري من المحكمة خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره البلجيكي الذي كان في زيارة إلى دمشق بالقول: «إن سوريا لم تكن طرفاً في مداولات قانونية لوضع النظام الأساسي لهذه المحكمة». وذكَّر بأنها حددت موقفها برسالة إلى مجلس الأمن. وأضاف ان نظام المحكمة يجب أن يُبنى على القانون السوري «إذا أرادت الأمم المتحدة شيئا من سوريا». بينما اعتبر الوزير البلجيكي, موقف دمشق تجاه المحكمة مناقضاً للقانون الدولي, وقال إن دمشق ترفض تسليم متهمين سوريين مفترضين للمحكمة الدولية, وتؤكد أنهم سيحاكمون في بلدهم. ولعل هذا التصريح كاف لزيادة قلق السوريين من الإصرار الدولي على تمرير مشروع المحكمة, وهو قلق قوبل برفع درجة الغليان في لبنان, إذ تمت العودة بتوقيت مدروس إلى لغة اتهام لسوريا بتهريب السلاح عبر حدودها إلى لبنان, والحديث عن ضرورة نشر قوات دولية على الحدود السورية, وذلك مع اقتراب موعد تسليم المبعوث الأممي المكلف بمتابعة تنفيذ القرار 1701 تقريره للأمين العام للأمم المتحدة, وكذلك اقتراب موعد تقديم المحقق الدولي سيرج براميرتز تقريره لمجلس الأمن. ما فسره مراقبون بأنه استعراض قوة لإجبار السوريين على دخول مؤتمر بغداد بأقل قدر من المطالب, والقبول بمناقشة الملف العراقي فقط بمعزل عن الملف اللبناني. إلا أن لسوريا أوراقها أيضاً لإبطال مفعول هذا الاستعراض عبر التلويح بإغلاق حدودها مع لبنان, وقد أوضحها وزير الخارجية وليد المعلم؛ في حال نُشرت قوات دولية بين البلدين. نافياً اتهامات تهريب أسلحة إلى «حزب الله» عبر الحدود, واعتبرها «شائعات غير صحيحة». مشيراً إلى أن «فرض رقابة دولية على الحدود بين سوريا ولبنان مؤشر على أن هناك توجها غربيا لدفع البلدين إلى حالة حرب».
وبحسب مصادر سورية مطلعة, لن يحول الموقف السوري من الملف اللبناني من دون موافقة سوريا مبدئياً على الاكتفاء بمناقشة الملف العراقي في مؤتمر بغداد, خصوصا أنه سيكون مناسبة لإعادة فتح حوار مباشر مع الأميركيين مع اختبار مباشر للنيات, بعدما اقتنعت إدارة بوش أن لا إمكانية لإيجاد مخرج لها من المأزق العراقي من دون مساعدة دول الجوار وفي مقدمتها سوريا وإيران, على الرغم مما تبديه هذه الإدارة من تعنت في مواقفها تجاه هذين البلدين, عبرت عنها تصريحات لمسؤولين في الإدارة نبهوا إلى أن الولايات المتحدة لن تدخل في حوار مباشر معهما, حتى لو اجتمعوا معاً على طاولة واحدة في بغداد. إلا أن الصحافة الأميركية تحدثت عن تغير واضح في سياسة إدارة بوش, وحسب صحيفة «واشنطن بوست» إن رايس التي قسمت دول منطقة الشرق الأوسط إلى معتدلين €مصر والسعودية€ ومتطرفين €سوريا وإيران€ في العام الماضي, ودعت ليس فقط إلى عدم التعامل مع الدولتين المتطرفتين, بل إلى زيادة عزلهما عن محيطهما الإقليمي, تعلن الآن مشاركة الولايات المتحدة في مؤتمر بغداد بحضور وفدي سوريا وإيران. وأضافت الجريدة أن شون مكروماك المتحدث باسم وزارة الخارجية ألمح إلى إمكان عقد محادثات ثنائية بين وفد الولايات المتحدة ووفدي كل من سوريا وإيران, معتبرا أن هذا النوع من المحادثات سيركز على مستقبل العراق. وفسرت الـ«واشنطن بوست» تناقض تصريحات المسؤولين الأميركيين حول الحوار مع سوريا وإيران بأن إدارة بوش لا تريد أن تعطي انطباعاً بأنها تريد «التطبيع مع دمشق وطهران, بعدما قام معظم الخطاب السياسي لهذه الإدارة على معاداة سوريا وإيران, وعلى فرض العقوبات والعزلة عليهما. لذلك فإن أي تغيير في الموقف الأميركي سيأتي تدريجاً ولن يحصل دفعة واحدة». وأكدت الصحيفة على أنه في المؤتمر الإقليمي, لن يكون في إمكان البيت الأبيض حصر المناقشة مع سوريا وإيران في جانب واحد من قضية لم تعد تخفى امتداداتها الإقليمية, وحتى الدولية. ولكن يبدو أن الولايات المتحدة وصلت إلى النقطة التي لا يمكن معها إن تستمر في تجاهل مدى تأثير العاملين السوري والإيراني في الساحة العراقية, فرأت أن حسابات الحوار أفضل من حسابات العزلة.
وبما أن سوريا تجيد لعبة الانتظار, لن تمانع في اتصالات تدريجية مع أميركا تبدأ من مشكلة متفرعة كمشكلة اللاجئين العراقيين التي سيلتقي قريباً لأجلها مسؤولون أميركيون وسوريون في أول لقاء لهم منذ ثلاث سنوات, وهي المشكلة ذات الصلة المباشرة بالوضع السياسي والأمني, ما سيجعل الحوار يتجاوز الوضع الإنساني.
وسوريا التي تستعد بأعصاب باردة للمشاركة في مؤتمر بغداد, وبالتالي في عمليات إعادة فتح مسارب للحوار مع واشنطن, لن تكون كذلك في القمة العربية المرتقبة, خصوصا أنها اعتبرتها فرصة لإعادة الدفء لعلاقاتها مع المملكة العربية السعودية, مهدت له بدعم إتمام «اتفاق مكة» بين «فتح» و«حماس», ما أتاح للسعودية انتزاع الملف الفلسطيني من مصر, وإزعاج واشنطن وإسرائيل من إعادة اللحمة للصف الفلسطيني من دون ضمان اعتراف «حماس» بإسرائيل كشرط لحكومة الوحدة. ومن المنتظر أن تبادل السعودية سوريا بالمثل في الملف اللبناني, من خلال إقناع الأطراف اللبنانية التي تؤثر فيها والأطراف الدولية بتعديل صياغة مشروع إقامة المحكمة الدولية, حيث تأمل سوريا أن تأتي «نتائج القمة موزونة » بحسب تصريح الشرع أي «تأخذ بالاعتبار كل وجهات النظر», معتبراً أن الأمر سيكون سهلا بالنسبة الى الموضوع الفلسطيني لأن الفلسطينيين موحدون, أما بالنسبة إلى لبنان, فهناك فصائل مختلفة وتدخلٌ أجنبي, يحول دون التوافق, لأن الضغط على لبنان يأتي من قبل عناصر تخضع لتأثير الولايات المتحدة وفرنسا. إلا أن السعودية رمت الكرة في الملعب السوري وطلبت عبر طهران إجابة سورية واضحة حول موضوع المحكمة, ليبقى الأمر معلقاً من دون أن يمثل ذلك على الرغم من أهميته مؤشراً على فشل القمة, كونه تم الاتفاق خلال الاجتماع التحضيري لقمة الرياض على كثير من القضايا أهمها مبادرة السلام العربية, وتأكيد ضرورة إعادة الأراضي العربية المحتلة كافة ومنها الجولان السوري, ما يعني أن هناك بوادر لحلحلة جزئية في المنطقة, يدعمها التوجه نحو الطرق الدبلوماسية لاجتراح حلول من قلب المنطقة, لكن إذا لم تهتم الولايات المتحدة الأميركية باغتنام هذه الفرصة لايجاد حلول متكاملة تراعي مصالح الأطراف كافة وأصرت على سياستها بالحصول على كل شيء مقابل بعض الشيء أو لا شيء, فإنها ستدفع المنطقة نحو الاحتمالات الأكثر سوءاً, خصوصا أن بوادر تصادم مع موسكو بدأت تلوح في الأفق القريب على وقع سباق تسلح في المنطقة يرعاه الجانبان.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد