تسارع الهدر الوطني وجفاف المستقبل العربي

01-10-2021

تسارع الهدر الوطني وجفاف المستقبل العربي

 

1 

 

البلاد العربية خزان مثقوب يهدر من طاقاته بقدر ما يُصب فيه، لهذا فإن حالها اليوم على ما كانت عليه بالأمس. وأكبر هدر لدى الفرد العربي هو عدم استخدامه كامل طاقاته العقلية ومواهبه الكامنة فيه، إذ تحتوي المقابر الكثير من المواهب التي اندثرت من دون تفعيل أو استثمار. وهو هدر مزدوج تساهم فيه الأمية الاقتصادية والأنظمة الاستبدادية التي تعمل مؤسساتها على تطويع الفرد وتأطيره ضمن مربعاتها الدينية ومستطيلاتها السياسية، فتعطل تطور موهبته أو تسفحها مجاناً في حال عدم انضوائها ضمن الخطوط العامة لسياساتها، الأمر الذي يتسبب في هجرات العقول والمهارات والخبرات من بلدانها المُثبّطة لها إلى دول أكثر رحابة في احتضانها وتنميتها لتساهم في ارتقاء أنظمتها بينما تخسرها البلدان التي أنتجتها.

أول خطوة في التنمية تكون بمعرفة مواطن الهدر ومعالجتها، حيث تتشعب أنواع الهدر في البلدان العربية، من الهدر السياسي والعلمي إلى الهدر الزراعي والغذائي والمائي والصحي والديني، والأسوأ هو هدر الزمن حيث مرت البلدان العربية في حالة فوات تاريخي خلال الحقب الاستعمارية، حسب نظرية المفكر السوري ياسين الحافظ. وحتى بعد الاستقلال استمرت الدول العربية - رغم علمانية وحداثة بعضها شكلاً - في اجترار ماضيها وتكرار أخطائها دون أن تتقدم كثيرا في الزمن، وبالتالي لم تنجح فيها أي تجارب ديمقراطية بعد، حتى لبنان الذي كان أكثر انفتاحاً وحريةً مازال يعيد انقسامه في ظل ديمقراطية شرعنت حكم الطوائف، حيث حدث التغيير بالشكل لا المضمون. وفي غزة ومصر وتونس والسودان أوصلت الديمقراطية أكبر أعدائها إلى الحكم: الإخونج ! ليبقى السؤال: كيف وصلنا إلى محطة الماضي بينما كنا نظن أننا نسافر إلى المستقبل؟

لدينا مفكرين معاصرين في المجالات السياسية والدينية والاجتماعية، ولدينا سلطات وشعوب سلفية نقلية ترفض الاستماع لجديدهم، بل وتهدر موجاتهم التي تتشكل في كل عقد يمر، منذ الأربعينات إلى اليوم. فقد كانت السلطات حريصة على عدم قبول أي تجديد في الفكر الديني السلفي بغية استمرار استثمار المؤسسة الدينية التي تطوع الناس وتروضهم وتدعو للسلطان في الصلوات، ذلك أن اي إصلاح ديني سوف يتبعه إصلاح سياسي سيخرب عليهم ثقافة الطاعة المتوارثة، منذ حكومة بني أمية إلى اليوم. وعلى الرغم من استيعاب الأنظمة للمؤسسات الدينية واستثمارها فإن ذلك لم يمنع خروج قسم من أعضائها على السلطات، حيث شكل (طالبان) العلم الشرعي نواة التنظيمات الإسلامية المتطرفة في البلدان العربية وخارجها ضمن برنامج استعادة الماضي والعيش في قوقعته، فكانت الثورات الإسلامية أسوأ من الحكومات التي خرجت عليها، حتى بات خيار الأقل سوءاً هو المتاح، واستقر الناس على أن الأنظمة الظالمة أفضل من فوضى الحروب الأهلية وإرهاب الجماعات الإسلاموية التي تهدر حياة المواطنين ضمن تصنيف مؤمن وكافر الذي انتهى العمل به في المجتمعات المتحضرة باعتبار أن الرب هو من يحاسب على الكفر والإيمان وليس الكهنة.  

 

2 

 

أرحام النساء هي مصانع الأوطان الأولى، فكيف رعت واستثمرت الحكومات العربية أفضل مصانعها؟ إن قوانين الأحوال الشخصية المكبلة بالشرائع الدينية تظهر أنها مصانع مؤممة لصالح الرجال وللنظام الذكوري الطاغي، وبالتالي مازالت حقوقها ناقصة في أفضل البلدان العربية، وهذا أسوأ أنواع الهدر (هدر النسوية) خصوصاً في الدول التي لديها برلمانات ودساتير شكلية تقول أن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات! فمازال نضال المرأة العربية، منذ بدايات القرن الماضي، يتركز على تحسين الحقوق النسوية المهدورة على يد القسم الذكري الذي أنتجته مصانع النساء، وهذي سقطة في الظلام، إذ كيف لمن يظلم رحمه أن ينتج عدالة اجتماعية أو سياسية؟

ذلك أن المرأة العربية هي ملكية للأسرة والطائفة يتم إنهاء حياتها وهدرها في حال خالفت أو رفضت أعرافها ومحرماتها. كما أن مواهبها مهدورة، إما لأن الأسرة لا تسمح بخروجها من بيتها والانخراط بالعالم، أو لأن الحكومات العربية لا توفر فرصاً كاملة لاستيعاب النساء الحرّات في العمل، حيث نجد أعداداً كبيرة من الحائزات على الشهادات الجامعية من دون عمل، وأما العاملات منهن فيصطدمن بالسقف المحدد لجنسهن والذي يحد من طموحهن للارتقاء والعطاء. 

ففي حين حققت البلدان العربية بعض التقدّم في مجال معرفة القراءة والكتابة والتعليم العالي بالنسبة إلى النساء، فإن ثمة تخلّفاً في جوانب أخرى من التنمية الإنسانية تعيق النقلة المطلوبة من النمو. 

وبحسب تقارير الأمم المتحدة ارتفع معدّل معرفة القراءة والكتابة في صفوف النساء البالغات في العالم العربي من نحو 41% في العام 1990 إلى 69% لعام 2010 ثم تراجعت هذه النسبة بعد حروب الربيع العربي في سورية واليمن وليبيا. ورغم تفوّق الإناث على الذكور عددياً في أغلب البلدان العربية، لازالت مشاركة النساء في القوى العاملة هي الأدنى بين دول العالم، إذ لا تتجاوز نسبة 22% مقارنةً مع المعدل العالمي الذي يبلغ 50% أما مشاركة المرأة السياسية في البلدان العربية فهي الأدنى أيضا.

إن تنمية النسوية وتخفيف نسبة هدرها يتطلب المساواة السياسية والاقتصادية والشخصية والاجتماعية بين الجنسين في تأمين العمل، والمساواة في الأجور، وشغل مناصب عامة، وحق الملكية، والتعليم، والمشاركة في العقود، والحصول على حقوق متساوية في الزواج، وإجازة الأمومة، وحماية النساء والفتيات من الإغتصاب والتحرش الجنسي والعنف الأسري، وعدم التشدد في معايير اللباس الأنثوي والأنشطة البدنية. وكل ذلك سيساهم في قوة البلدان العربية ورفعتها، ذلك أن حالة النساء في أي مجتمع هو مقياس ازدهار بلدانها أوانحطاطها.

 

3 

 

لازالت الحكومات العربية المتعاقبة تميل إلى التعامل مع الأجيال الشابة من المواطنين بوصفهم تهديداً أمنياً أكثر منهم ثروة يمكن استثمارها، فاخترعت لهم أنشطة ومنظمات ووزارات خلبية لتفريغ طاقاتهم، في الوقت الذي كانت تعرقل أنشطتهم في المجال العام، فأضعفت انتماءهم الوطني، ثم جاء من يغذي عصبياتهم المتوارثة، فما كان أمام بعضهم سوى الانضمام إلى مجموعات متطرفة تستغل غضبهم وتستثمره سياسيا، وإما الهرب من الوطن الذي رباهم وعلمهم، و الابتعاد عن أهلهم وجذورهم، لتفعيل مواهبهم واستثمار طاقاتهم المحبوسة مهما كانت الأخطار التي سيواجهونها.

ففي شهر آب الماضي أعلنت المنظمة الدولية للهجرة أن وفيات المهاجرين عبر المحيط الأطلسي من غرب إفريقيا إلى جزر الكناري وصلت إلى مستوى قياسي، حيث توفي 379 مهاجراً. وتعد هذه الوفيات نحو نصف العدد الإجمالي للضحايا في 2021 بالكامل وفقا لمشروع "مهاجرون مفقودون" بالمنظمة. فقد وصل أكثر من 9300 شخص إلى جزر الكناري عبر المحيط في أول 8 أشهر من 2021، وهي زيادة واضحة مقارنة بعام 2020 إذ وصلت 3933 شخصا. ويعد طريق الأطلسي أحد أخطر مسارات العبور البحرية إلى أوروبا، ورغم ذلك تزداد أعداد المغامرين بعبوره.. أما المبالغة في تصور أن المهاجرين يشكلون عبئاً أو تهديدا للبلدان التي يقصدونها، فهو عكس الواقع تماما، حيث يقول خبراء الأمم المتحدة أن العديد من دول العالم اليوم، خصوصا دول أوروبا، تحتاج إلى استيراد جزء من قوتها العاملة، بسبب تركيبتها السكانية، وإذا أرادت تلك الدول الحفاظ على معاييرها الاقتصادية الحالية واستمرار نمو اقتصاداتها، فسيتعين عليها استقبال عمال أجانب مدربين جيداً لتلبية متطلبات سوق العمل.

إن المجتمعات العربية هي مجتمعات نافية لأبنائها المميزين إلى أحضان الغرب، حيث تجاوز عدد المهاجرين العرب في العالم 70 مليونا من بين  /281/ مليون مهاجر من جنسيات أخرى. وبالطبع فإن غالبية المهاجرين هم من أصحاب الخبرات التي كلفت بلدانها الأصلية ملايين الدولارات المهدورة تقطفها الدول الغنية مجانا لتزيد من غناها وقوتها وطغيانها على البلدان المولدة لهذه الخبرات..

فالعالم العربي رغم الاستقلال مازال يعاني العجز والقصور في ميادين الحريات السياسية، والتعليم، وتمكين المرأة، وانضمّت إليها تحديات جديدة لا يبدو أن الحكومات العربية جادة في مواجهتها.

 

4 

 

موت أي شخص قادر على العطاء يصنف ضمن الهدر الديمغرافي، وقد يموت الأفراد الفاعلون بسبب الكوارث كالزلازل والأوبئة أو الحروب والمجاعات وانعدام الأمن والاضطرابات السياسية. حيث ينعكس الهدر البشري على رفاهية الناس وتقدمهم داخل بلدانهم كما ينعكس تأثيره على باقي العالم، بحسب نظرية الأواني المستطرقة. ففي عام 1032م قتل الجدري 4000 طفل بالموصل وفي عام 1048 م سجلت 300 ألف وفاة بالطاعون في الموصل والجزيرة وبغداد، وكان يصلى على 400 جنازة باليوم. وفي عام 1349م مات نصف الناس بالطاعون حسب رواية ابن أبي حجلة (أحمد بن يحي التلمساني)، وقد شملت النخبة الحاكمة والعالمة والمنتجة، وانعكس ذلك على البنى الاقتصادية والسياسية والعلمية. فقد اجتاح الدولة الإسلامية 46 طاعونا في عشرة قرون وكان للشام الحصة الأكبر، بينما لم تصل أوروبا سوى 11 موجة طاعون الأمر الذي رجح في ميزان قوتها وتقدمها على المشرق العربي في القرون اللاحقة، حيث كان مستوى الهدر البشري العربي يعادل أربعة أضعاف الأوروبي. وقد يفسر هذا جزءاً من نظرية الفوات التاريخي للبلدان العربية.

وخلال العقود الأخيرة خسرت البلدان العربية الكثير من مواطنيها في الحروب الداخلية والخارجية: فقد قدر عدد ضحايا الحرب اللبنانية الداخلية بـ 150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعوق و17 ألف مفقود، فضلا عن هجرة أكثر من مليون شخص، وخسائر مادية فاقت 100 مليار. وفي الجزائر ارتكب الإسلاميون الغاضبون 16 مذبحة جماعية خلال عشرة سنوات، وقدر عدد ضحايا الحرب 200 ألف قتيل. وفي العراق تسببت الحرب العراقية - الإيرانية بمقتل مليون شخص، فضلا عن خسائر مالية وصلت إلى 350 مليار دولار، أما الغزو الأمريكي فتسبب بمقتل أكثر من 700 ألف عراقي مدني. وتسببت الحرب السعودية ـ اليمنية بنصف مليون قتيل يمني وربع مليون من التحالف السعودي ولمّا تنته الحرب بعد. أما الحرب الليبية فلا يوجد إحصاء رسمي لمجمل عدد ضحاياها غير أن عام 2011 فقط قتل فيه 50 ألف ليبي. وفي الحرب السورية تجاوز عدد الضحايا 400 ألف يضاف إليهم مئة ألف من المقاتلين الإسلاميين القادمين من خارج سورية. كما لا يوجد إحصاء رسمي لضحايا داعش في سورية والعراق. يضاف إلى كل ذلك ما يسجله عداد القتل الإسرائيلي للفلسطينيين والعرب منذ سنة 1948

وبالطبع فإن الحروب هي المسبب الأول للهجرة القسرية. ففي مدينة الموصل مثلا تم إخلاءها من سكانها المسيحيين والذين كانوا أفضل حالاً من الأيزيدين والشبك والمندائيين والشيعة والتركمان، الذين تعقّبهم تنظيم الدولة الإسلامية وقتلهم.

أما وباء كوفيد فهو يفتك بالسكان العرب بوتيرة متصاعدة منذ بداية انتشاره ويعرقل حركة الإقتصاد متسببا بالخسائر في سائر البلدان العربية، إضافة إلى أنه يضاعف من هيمنة السلطات على نشاط الأفراد ويحد من حريتهم وإنتاجهم.

وقد لا يكون للعرب يد في الهدر السكاني الذي يتسبب به غزو الدول الأخرى لها غير أنهم مسؤولون عن حروبهم الدينية والسياسية الداخلية، والتي فشلت جامعتهم العربية ومؤسساتها في احتوائها ومعالجة أسبابها حتى اليوم، حيث الأمن العربي يمر بأسوأ حالاته منذ الاستقلال.

 

5 

 

تهدر البلدان العربية 30% من الأطعمة في حاويات النفايات بسبب العادات والتقاليد الاجتماعية التي تُرهق ميزانيات الأسر وتتحكم في أنماط الاستهلاك عند إقامة الولائم والعزومات في البيوت والمجالس والديوانيات والخيم والفنادق خصوصا في شهر رمضان الذي يقبل فيه المسلمون على قراءة القرآن الذي يحرم الإسراف! إذ تُنتج البلدان النفطية كميات هائلة من هذه النفايات، وتتجاوز مملكة البحرين وحدها الـ (600) طن في اليوم الواحد، بينما بلغت كمية الهدر الغذائي في السعودية نحو (4.066.000) طن سنوياً ، وقد بلغت القيمة الإجمالية للهدر في بند الاستهلاك الإنفاقي في المملكة نحو 40 مليارا و480 مليون ريال سنوياً، فيما تبلغ نسبة الغذاء المهدور أكثر من 18%، في الوقت الذي بينت تقديرات نسبة الفقر في السعودية وفقاً لعدد المستفيدين من برامج وكالة الضمان الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية في عام 2017م نحو 2,57 مليون مواطن، ذلك أن المملكة لا تنشر أية إحصاءات حول معدل الفقر فيها كما لا تسمح للمنظمات الدولية القيام بذلك.

أما دولة الإمارات فإن «حجم الهدر والإسراف في الطعام سنوياً يتجاوز الـ10 مليارات درهم، (30% منها في شهر رمضان فقط).

وفي مصر تزداد احتياجات الغذاء نتيجة زيادة أعداد السكان من ناحية والاستهلاك المفرط من ناحية أخرى. وقدرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) هدر الغذاء في مصر بنحو 50 كيلوجراما لكل شخص في السنة. وتشير الفاو إلى أن هذا الفقدان ينذر بالخطر بالنسبة لدولة تواجه مستويات مرتفعة من سوء التغذية. وتقول المنظمة: مقابل كل 1000 كيلوجرام من البندورة المنتجة والموزعة في مصر، يضيع 560 كيلوجراما أو يهدر، وينطبق هذا الأمر على العنب كذلك، فمصر برغم أنها تعد منتجا رئيسا للبندورة والعنب إلا أن الكثير من هذا الطعام لا يصل أبداً إلى الأسواق أو المستهلكين. وقُدر الفاقد والهدر من الخضروات والفاكهة قرابة نصف الإنتاج السنوي، وذلك في مراحل الإنتاج وأسواق التجزئة والجملة إلى جانب الخسارة الكبيرة في مستوى جودة المنتج. وقد قامت تجربة مميزة ومحدودة تمثلت في تجربة بنك الطعام المصري للقضاء على هدر الطعام في مصر وتوزيع الفائض على الفئات الأكثر احتياجاً في كل من المدارس ودور الأيتام وكذلك الاسر الاكثر احتياجا، ولكنها مازالت تجربة دعائية محدودة.

وفي الدول المتقدمة تفرض عقوبات على إهدار الطعام بوضع تشريع التخلص من الطعام غير المباع من المتاجر الأخرى علاوة على معاقبة المخالفين، الأمر الذي قد يصل إلى السجن. وفي فرنسا تفرض على المتاجر التي تزيد مساحتها على 400 متر مربع توقيع عقود للتبرع بالطعام غير المباع والصالح للاستهلاك إلى المؤسسات الخيرية أو لاستخدامه في إطعام الحيوانات أو كسماد زراعي. وفي اليابان سوف يغرمك المطعم بالطعام الذي طلبته ولم تأكله كله، ذلك أن امتلاكك للمال لايعطيك حق هدر تعب المزارعين والناقلين والطباخين. وعندما يموت طفل بسبب الجوع فإن هدرك يجعلك مساهما في موته؛ إنها ثقافة التشاركية في خيرات هذا الكوكب.

ويقع العالم العربي بمعظمه في منطقة صحراوية جافة، ويتلقى كمية قليلة من الأمطار على معظم أراضيه بسبب سيطرة ضغط جوي لفترة طويلة من السنة، ما يمنع تساقط الأمطار بكميات كبيرة عليه باستثناء السواحل الشرقية للبحر المتوسط، لا سيما لبنان وسوريا في أجزائها الساحلية والجبلية المواجهة للرياح الغربية الرطبة، حيث تتلقى هذه المناطق كمية مقبولة مقارنة مع باقي دول العالم العربي، وتكثر فيها الينابيع والأنهار التي تهدر جزءا من مياهها في البحر بالإضافة إلى مجارير الصرف الصحي التي تحول إليها.

 وعلى الرغم من مشكلة الجفاف التي يعاني منها العالم العربي، نلاحظ أنه يشهد أيضا هدراً كبيراً في المياه المتساقطة عليه، فضلاً عن التلوث الذي يطال الثروة المائية رغم أن معظم دوله تحت خط الفقر المائي الشديد أي أقل من 1000م3 للفرد سنوياً. ومن المتوقع أن يتناقص نصيب الفرد فيه إلى أقل من 500 م3 سنوياً بحلول عام 2025 بحسب تقارير الأمم المتحدة.

وتقول الإحصاءات أن 10% من حصة الفرد من مياه الشرب يومياً تهدر في الصنبور الذي يسرب نحو 7 غالونات يومياً على الأقل. أما استعمال البانيو بدل الدوش فيهدر 120 ليتراً زيادة عن الحاجة.  واستخدام الصنبور مفتوحاً أثناء تنظيف الأسنان يهدر كمية لا تقل عن عشرة غالونات. واستخدام خرطوم المياه لغسل السيارة بدلاً من الإناء يهدر 300 ليتر في كل مرة.  غسيل أرض منزل بمساحة 100 م2 بواسطة الخرطوم يحتاج 90 ليتراً على الأقل، بينما بواسطة المسح العادي يحتاج 18 ليتراً. كما توفر أساليب الري بالتنقيط 30% من مياه سقاية المزروعات حيث يهدر ثلثها في طرق الري القديمة. وكل هذا الهدر يأتي من الإهمال وضعف الثقافة التشاركية، حيث تجف البلاد وتتراجع فيها الحياة رويداً ..

ويتوقع الخبراء أن حروب المنطقة القادمة سوف تكون على المياه، إذ نلاحظ اليوم تهديد حقوق مصر في نهر النيل وحقوق سورية والعراق في نهري دجلة والفرات. كما تفتقر البلدان العربية إلى المزيد من السدود التخزينية حيث تضيع أغلب مياه أمطارها وأنهارها في البحر، في الوقت الذي تسعى فيه بعض دولها لمعالجة وتحلية مياه البحر!

 

6

 

بعد عصر النهضة الأوروبي وتراجع دور الكنيسة، طورت المؤسسات الكنسية الغربية بنية تفكيرها الديني من خلال قراءة مجمل ما كتبه الفلاسفة والملحدون في نقد الدين المسيحي، وقاموا بمناقشته بمنطق غير عدواني بغية تلافي نقاط ضعفها وتراجع إقبال الناس عليها، كما طورت نشاطها الخدمي والإجتماعي. وقد استعادت الكنيسة بذلك حضورها في الواقع بعدما وسعت فهمها للمجتمعات العلمانية الحديثة، بحيث باتت ترعى العديد من الأحزاب المسيحية العلمانية التي تتقبل النقاش بكل المحظورات الدينية بهدف اكتساب المزيد من المؤيدين. بينما على الجانب الآخر من العالم الشرقي استمرت المؤسسة الدينية فيما كانت عليه قبل وصول الحياة الحديثة إلى مجتمعاتها، وظلت تعتبر سيرة القعقاع وأبي الدرداء وأبي محجن ومحفوظات شيوخ السلفية المثال الذي يجب أن تسير طوائفها عليه، بينما يتحدث خطباؤها كما لو أنهم أشرطة تسجيل مستعادة من الزمن الغابر. حيث تسعى مؤسسات الديانات الإبراهيمية الثلاث تحزيب أتباعها.. ورغم محاولات بعض مشايخ عصر النهضة مقاربة متغيرات الحياة الاجتماعية في التأويل والتفسير، إلا أن الإكليروس السلفي وعامة المحافظين من المسلمين قمعوا كل محاولة للإصلاح والتحديث، منذ أيام الشيخ علي عبد الرزاق إلى أيام الشيخ نصر حامد أبو زيد، حيث وصل التهديد والأذى إلى بناتهم ونسائهم. وهدرت كل محاولات تحديث المعرفة الدينية، بينما كانت المؤسسات السياسية تنحاز إلى شيوخ النقل في المؤسسة الدينية، حيث تتبادل المنافع معها، تاركين عامة المسلمين نهبة لأفكار المتطرفين الذين يهدرون مكتسبات الحداثة وثقافتها وأدواتها بغية إعادة مجتمعاتهم إلى زمن ما قبل الحداثة، في الصومال والسودان ومصر والأردن والعراق وسورية واليمن وليبيا وتونس والجزائر، بينما لم تتعرض الممالك والإمارات العربية إلى مثل هذا التمرد لأنها بالأصل تتبنى السلفية الدينية، والويل لمن يفكر أو يجتهد ويتكلم بالدين من خارج المؤسسة الرسمية النقلية..

ذلك أن الدول العربية العلمانية ونقيضتها الدينية تميل جميعها إلى كسب الجمهور وليس إلى تطويره والإفادة من طاقاته الخلاقة خارج مصالحها السلطوية. لهذا فإن ارتقاء السياسات العربية مرهون بارتقاء الثقافة الدينية، وهي متاحة في الدراسات والكتب التي أصدرها المفكرون العرب من خارج المؤسسة الدينية خلال نصف قرن مضى، وقد ذكرنا في مراجعاتنا السابقة عشرات المؤلفات التي تخوض في ذلك..

وتبقى المفارقة لدى المسلمين الملتزمين الذين يعيشون في الغرب المسيحي إصرار بعضهم على سلفيتهم وعدائهم للمجتمعات التي تحتضنهم، حيث يستغلهم القادة الدينيون ليبيعوا أصواتهم للمرشحين (الكفار) ببراغماتية قلَّ نظيرها في التاريخ الحديث. لهذا مازالت الجاليات الإسلامية الملتزمة شبيهة بطالبان أفغانستان، حيث ارتقاء هؤلاء مرتبط بارتقاء الفكر الديني ومؤسساته في بلدانهم الأصلية (بلاد الإيمان).

والواقع أن تاريخ المؤسسة الدينية العربية يحمل الكثير من الهدر في الزمن والمعرفة، حيث يكرر خطيب اليوم ماقاله الذين سبقوه في الحقب الغابرة، دون أن يواكب تغير حاجات الناس وتطور معارفهم العلمية، بحيث أن هؤلاء الخطباء مازالوا يوردون في أحاديثهم الكثير من المسائل التي أثبت العلم خطلها وعدم صوابها.

 كما تتسابق المؤسسات الدينية على بناء المزيد من المعابد وهدر مواد البناء والعقارات ومال التبرعات والأوقاف على مجمعات غير منتجة ماديا، طالما أن الناس قادرون على الصلاة في أي مكان، وأن الإيمان ليس مرتبطا بذهابهم إلى دور العبادة، حيث يهدر زمن الذهاب إليها والعودة منها للإستماع إلى ما يعرفونه سلفا ؟! فضلا عن أن دور العبادة استخدمت تاريخيا للدعوة للسلطان أوللخروج عليه، وهي مازالت كذلك إلى يومنا هذا بحيث أن السياسة تكسب منها أكثر مما يكسبه الرب القدير الذي يقال أنها بيوته !؟

يوجد لدينا اليوم مئات آلاف بيوت العبادة والتي تضاهي قصور السلاطين في البناء والمساحة والخدمات، ويمكن استغلالها تنمويا بما يرضي الله وينفع عباده بدلا من كونها مكان للتحزيب السياسي والتفريق بين المواطنين بحسب انتماءاتهم الدينية والطائفية، ذلك أن قلب المؤمن هو بيت الله الحي ومادونه بيوت من حجر.

 

7

 

ينطبق على حال العرب اليوم توصيف الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي  لإيطاليا وأوروبا بعد الحرب العالمية الأولى في أن "الأزمة تتجلّى تحديداً في أن القديم آيلٌ إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة التريث هذه، يبرز عدد كبير من الأعراض المَرَضية".

أما أعراضنا المرضية لما بعد حروب الألفية الثالثة، من مشرق البلاد العربية إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها، فهي أقرب إلى توصيف عالِم الاجتماع الفرنسيّ جيل ليبوفتسكي في كتابه حول "الفردانيّة المُعاصِرة وتحوّلات ما بعد الحداثة" لظاهرة الفراغ أو الخواء الإيديولوجيّ المُتمثّل باندثار القضايا الكبرى عند الإنسان وسقوط الأوهام الثوريّة وموت الإيديولوجيّات والسرديّات الكبرى. هذا الفراغ المُلازِم لمرحلة ما بعد الحداثة نتجت عنه مجموعة من التحوّلات العميقة على مستوى الفرِد والمُجتمع مثل جموح الفردانيّة والتمركُز حول الذّات والانشغال بها عمّا سواها والبحث عن المصلحة الذاتيّة أوّلاً وأخيراً، والانسحاب تدريجيّاً من السياسة ومن الفضاء العمومي بشكلٍ عامّ (ظاهرة العياء الديمقراطي المتجلّي مثلاً في تراجُع أعداد المُنخرطين في الأحزاب السياسيّة والنقابات وتدنّي نِسب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابيّة)، وإحلال البحث عن المُتعة مكان النضال السياسي والسعي نحو الثروة محلّ حلم إنجاز الثورة.

ونحن اليوم في بلداننا ندفع ضريبة الحداثة العالمية التي لم نحصلها، حيث الخلاص بات فردياً، حتى بين أتباع الأحزاب العلمانية والجماعات الإسلامية، إذ شهدنا كيف يبيع الحزبيون أوطانهم ومبادئهم، وكيف يتخلى المتدينون عن وصايا ربهم، فيدلسون وينافقون ويخونون ويقتلون إخوتهم من أجل حفنة من الدولارات.. فالناس باتوا متعجلين لتحقيق رفاهيتهم الشخصية حيث تعرقل المبادئ والأخلاق والوصايا طموحهم هذا. وعندما تضعف الأخلاق وترتخي سراويل القوانين يضعف النظام والدولة معاً، وتفوِّت الانتفاع بالطاقات البشرية الجيدة والواعدة، ويتراكم الهدر الوطني عاماً بعد عام، خصوصا في الوصايا الأخلاقية حيث باتت المنفعة هي القيمة العليا، على مبدأ ماهو شرّ بالنسبة للأرنب خيرٌ بالنسبة للصقر، وكل الناس يريدون أن يكونوا صقوراً !؟

 

8

 

يستخدم اليايانيون استراتيجيات "كايزن وكايكاكو" للتحسين والتطوير المستمر في كافة جوانب العمل الهندسية والتطبيقية والإدارية والتعليمية والتربوية، من أجل تقليل الهدر في الموارد والعمل والوقت لرفع نسب الفائدة والربح والجودة وتخفيض سعر المنتج.

حيث يرى الخبراء أن دور الموظف في الإدارة التقليدية يقتصر على التنفيذ فقط مما يجعل عمله روتينيا لا يتغير. بينما تمنح الإدارة بالكايزن الموظف صلاحية التغيير في مجال عمله، وتكافئه عند نجاحه في تخفيض الهدر. حيث تم تحديد ثلاثة أنواع من الهدر:

مودا: أي هدر يحدث في الوقت أو المال.

مورا: الهدر بسبب التضارب في الصلاحيات أو في الأعمال .

موري: وهو الهدر الناتج عن زيادة الإجهاد البدني للموظفين.

كما يؤخذ بعين الإعتبار الهدر في زيادة الإنتاج مع قلة الطلب، والهدر في الوقت الضائع في الانتظار، والهدر في النقليات، والهدر بسبب العيوب المصنعية.

وهناك أربع خطوات لتطبيق الكايزن في التطوير والتحسين وهي التخطيط ثم التنفيذ ثم التأكد من النتائج، وبعدها يتكرر تحسين العملية من جديد.

عمليا يمكن اعتبار اليابان هي الأكثر نجاحا في تقليص نسب الهدر الوطني، وهي بالدرجة الأولى ناتجة عن الثقافة التشاركية، والتنظيم، والأخلاق العامة التي يلتزم بها اليابانيون، دون أن يكون للدين أي تأثير على أعمال الناس.

 

نبيل صالح

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...