حلقة جديدة من كتاب "عشرة أعوام مع حافظ الأسد" :تفاهم نيسان
سـتـاليـنـغراد و القـنـيـطـرة
في منتصف كانون الأول 1995، قدم وارن كريستوفر إلى دمشق بعد أن زار بيريز في تل أبيب، و كان يحمل برنامجاً من عشر نقاط من رئيس الوزراء الإسرائيلي. كانت النقطة الأولى هي أن جوهر أية صفقة سورية - إسرائيلية " يجب أن يكون أهم من أي إطار زمني للانسحاب من الجولان، و تضمنت النقاط الأخرى حقوق المياه، و محطات الإنذار المبكر، و الدبلوماسية العلنية، و حدود الانسحاب، و المناطق المعزولة السلاح، و بالطبع الحدود اللبنانية - السورية، و علاقة سورية بحزب الله". لم تكن معظم النقاط جديدة، إذ كان إسحاق رابين قد أثارها من قبل، بطريقة أو بأخرى. الجديد هو أنها الآن آتية من خَلفِه. و حاول وارن كريستوفر – الذي كان قد عاد قريباً من البلقان، حيث كان الأمريكيون في ذروة صنعهم للسلام في تلك المنطقة
- أن يقنع الأسد بالرد إيجابياً على تلهّف بيريز، و طلب مرة أخرى عقد لقاء قمة سورية - إسرائيلية، بل في الواقع توسل إليه أن يقبل ذلك. حين رفض الأسد الفكرة ( للمرة المليون منذ مدريد ).
سأله كريستوفر: "هل بإمكانكم يا سيادة الرئيس التفكير بمكان مناسب لمثل هذا الاجتماع؟". نظرتُ إلى الرئيس الأسد لأرى إن كان هناك ما يدل على شعوره بالضجر أو الإحباط بسبب هذا الاقتراح، لكنه بدا هادئاً كما هو دائماً.
" يمكني التفكير، نعم، و لكن هذا لا يعني أنني سأذهب إلى اجتماع من هذا القبيل أبداً إلا إذا أُعيدت هضبة الجولان بكاملها إلى سورية ". ثم أضاف: " أخبروا بيريز أننا مستعدون، و أننا بذلنا جهداً كبيراً لإحلال السلام في الشرق الأوسط، لكننا حتى الآن وجدنا أن الأبواب جميعها ما تزال مغلقة ".
ثم اقترح كريستوفر حضورة خبيرة اقتصادية من وزارة الخارجية الأمريكية للقيام بزيارتين متعاقبتين إلى سورية و إسرائيل من أجل تقديم المشورة لكلا الحكومتين حول كيفية إعداد الاقتصاد في البلدين للسلام و للتجارة الثنائية بعد أن يتم التوقيع على اتفاقية.
وجد الأسد هذا الاقتراح غريباً، و سأل: " ما الفائدة من قدومها إن لم يتحقق حتى الآن أي شيء ملموس بشأن أسس السلام؟ نحن لم نقترب بعد من توقيع اتفاقية مع إسرائيل، إذ إننا لم نتفق على الحدود التي سينسحبون إليها" . و أضاف الأسد الذي انزعج إلى حدّ ما من الاقتراح: " إنني أتفاوض في السلام لأنني اؤمن، و ليس لأنني بحاجة إلى مال لدولتي أو لأني أسعى إلى مساعدة اقتصادية من الولايات المتحدة" و أضاف قائلاً: " إن سورية دولة ذات اكتفاء ذاتي لا تحتاج إلى أستثمارات أجنبية للتطوير الزراعي أو الاقتصادي.
و أشار إلى قول للكاتب العربي جبران خليل جبران في أوائلالقرن العشرين: " ويل لأمة تأكل مما لا تزرع و تلبس مما لا تصنع "، و أردف بقوله: " إن المساعدة الأجنبية مشروطة، مشيراً إلى حال مصر منذ عام 1978، و هي التي فقدت بسبب المساعدة الأمريكية لها صوتها المستقل لا في الصراع العربي - الإسرائيلي فحسب، بل ضمن الأسرة العربية كلها أيضاً" ثم تابع الأسد حديثه:
" تماماً قبل أن ينسحب الإسرائيليون من القنيطرة، و هي البلدة الرئيسية في هضبة الجولان، دمروها بأكملها. كان هذا نادراً في عالم السياسة، إذ يتم تدمير مدينة محتلة بعد الاستيلاء عليها، ليس تدميراً بفعل الحرب، بل تدميراً منهجياً. عاد إليّ (هنري) كيسنجر آنذاك، بعد اتفاقية فصل القوات لعام 1974، بعرض لإعادة بناء القنيطرة : 100 دولارأمريكي.قلت له إن القُنيطرة لم تُدمَّر أثناء حرب 1967 ، بل دمرت أثناء انسحاب الإسرائيليين منها بعد حرب تشرين الأول عام 1973.
لقد نهبوا المدينة ثم أضرموا النار فيها، و دمروه بوعي كامل لما يفعلونه و بدم بارد، ما أراده كيسنجر حقاً لم يكن مساعدة سورية في إعادة بناء القنيطرة. كان ذلك آخر همومه. ما اراده هو أن يمحو من الذاكرة ما قام به الإسرائيليون بمتفجراتهم و جرافاتهم.
أنا أعرف كيف تبدو المدينة التي شهدت حرباً، فقد زرت ستالينغراد أثناء إحدى زياراتي لروسيا. كانت هناك رموز للحرب في كل مكان: رصاص، شظايا... كلّ الذكريات القاسية و الجراح التي كان من الصعب على الروس أن ينسوها بسهولة. من الواضح أن ستالينغراد تعرضت الحرب، لكن بقيت أبنيتها صامدة و بقيت بنيتها التحتية سليمة. و لم تكن تلك حال القنيطرة ، فقد دمرها الإسرائيليون دماراً يفوق الخيال بطريقة قاسية جداً و لا إنسانية بتاتاً قررنا ألا نعيد بناء القنيطرة، كي يستطيع كل طفل سوري أن يشاهد مافعله الإسرائيليون بأرضه ليس أثناء الحرب، بل أثناء ما يفترض أنه هدنة أو وقف لإطلاق النار. كلا يا سيد كريستوفر لن اقبل المساعدة المالية أو الاقتصادية الأمريكية من أجل السلام الشيء الوحيد الذي سترحب به هو أن تتوقف الولايات المتحدة عن استفزازنا و تلطيخ صورتنا ضمن المجتمع الدولي بعقوبات و حرب إعلامية مستمرة. حين يتوقف ذلك، صدقني أن الاقتصاد السوري سيزدهر من تلقاء نفسه، فهو اقتصاد نأشئ ، و لا يحتاج إلى استثمار أجنبي".1
**تـفـاهـم نـيـسـان
تغيرت الحالة السائدة في الشرق الأوسط تغيراً مفاجئاً و مثيراً حين اهتزّت إسرائيل بسبب أربع هجمات جرت في غضون تسعة أيام في شباط/ فبراير 1996، فقتلت كثيرأ من المدنيين و دمرت سمعة شمعون بيريز في عيون الجمهور الإسرائيلي إلى حدّ لا يمكن إصلاحه. و لمّا كانت الهجمات المتعددة جاءت بعد ثلاثة أشهر من اغتيال رابين، فقد أظهرت بيريز قائداً ضعيفاً، و ربما لا لون له، لديه نقاط ضعف رابين جميعها،و لكن من دون أي من جوانب قوته.
عمل شمعون بيريز في شبابه مساعداً لديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، و ساعده على تأسيس وزارة الدفاع الإسرائيلية من الصفر. و لكن في عام 1996 اعتبره الشباب في إسرائيل متساهلا في شؤون الأمن. و قد وضعت الهجمات الفلسطينية المتكررة بيريز في موقف حرج تجاه أي سلام مع سورية، و خصوصاً لأن حركة حماس الفلسطينية التي كانت مكاتبها السياسية في دمشق اعلنت المسؤولية عن ثلاث من الهجمات، على حين تبنّت الهجمة الرابعة حركة الجهاد الإسلامي، التي كان مركزها في دمشق أيضاً. و لكي يعود بيريز إلى طاولة المفاوضات، كان عليه أن يلمّع مؤهلاته الوطنية و العسكرية في الداخل، و أن يحدث شيئاً مفاجئاً و قوياً في الشرق الأوسط لإنقاذ عملية السلام السورية الإسرائيلية.
جاء طوق النجاة لشمعون بيريز من البيت الأبيض، من الرئيس كلينتون نفسه. ففي أواخر شباط/فبراير، اقترح دنيس روس دعوة قادة العالم الى مؤتمر سلام، يجلس فيه الرؤساء و الملوك العرب وجهاً لوجه مع رئيس وزراء إسرائيل. و كان الاقتراح هو أن يرأس الرئيس كلينتون نفسه ذلك الاجتماع، و أن يدين هؤلاء القادةُ جماعياً حوادث التفجير داخل إسرائيل و يصيغوا خطة عمل لمحاربة الإرهاب. إنّ هذا سيمنح بيريز قوة داخل إسرائيل، و يعطي السلام دفعة قوية، و بحسب قول روس، سيوضح للجمهور الإسرائيلي أن السعي إلى السلام يحدث تحولا في المنطقة، و أن إسرائيل ليست وحدها في مكافحة الإرهابيين.
رحّب الوزير كريستوفر بالفكرة، مع أن جورج ستيفانوبولوس، كبير مستشاري كلينتون، رفضها فقد قال الأخير إن رئيس الولايات المتحدة سيبدو سخيفاً أمام الشعبين الأمريكي و الإسرائيلي إذا حدث هجوم فلسطيني آخر أثناء انعقاد القمة أو بعد انتهائها مباشرة. و ادّعى ستيفانوبولوس أنه بدلا من مساعدة بيريز، سيدمر كلينتون مصداقيته ( أي مصداقية بيريز ) في الداخل اكثر مما هي مدمرة إذا قرر الفلسطينيون تصعيد هجماتهم. كان هذا احتمالا وارداً، على اعتبار أن قدرة عرفات على دعم أوسلو كانت تتضاءل، في حين اًصبح المتشدّدون، مثل الجهاد الإسلامي و حماس، أصحاب اليد العليا في المناطق الفلسطينية.
لا شك في أنها كانت مجازفة كبيرة و فرص نجاحها ضئيلة. لكن الرئيس كلينتون،و هو المتفائل الفعال دائماً، قرر المضي قدماً في موضوع القمة، التي حدد لها أن تعقد في شرم الشيخ، و هي منتجع ساحلي على البحر الأحمر، في آذار 1996. و تعهد الرئيس المصري حسني مبارك بإستضافة " قمة صانعي السلام "، كما أكد سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي حضور دولته، مع أنها لا ترتبط بعلاقات دبلوماسيةمع إسرائيل .
وفي النهاية، توجه تسعة وعشرون زعيماً عالمياً إلى شرم الشيخ، منهم أربعة عشر رئيساً و أميرأ من الوطن العربي. لكن الرئيس الأسد رفض الحضور، مكررأ قوله بشأن مدريد في عام 1991، إنه لن يجلس وجهاً لوجه مع قائد إسرائيلي " ما دامت هضبة الجولان لم تُعَد كاملة إلى سورية ". و قد تعجب جداً من الدعوة، و قال لنا:
" إنه من الغريب حقاً أنهم لم يفهموا الرسالة حتى الآن ".
ففي ما يتعلق بالرئيس السوري، لم يكن المؤتمر بأكمله أكثر من لحظة التقاط للصور، أُعِدَ لغرض واحد فقط، هو تحفيز التكاتف الدولي مع إسرائيل، و لم تكن لدى حافظ الأسد رغبة في أن يكون ضمن الصورة الفوتوغرافية. و كانت حجته أنه لا فائدة من حضور القمة، ما دامت عملية السلام في عالم النسيان، و الأراضي العربية ما زالت محتلة، و عدة دول ذات وزن إقليمي ثقيل (العراق، ليبيا، إيران) لم تتلق دعوة إلى الانضمام إلى " قمة صانعي السلام ".
و قد رفض الرئيس اللبناني إلياس الهراوي المشاركة أيضاً، ليتحاشى التوقيع على بيان يدين المقاومة الفلسطينية و اللبنانية.
منذ اغتيال رابين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، أخذنا نشعر في سورية أن الراعي الأمريكي يطلب منا باستمرار القيام بأشياء لا نرغب فيها، و الغرض الوحيد من ذلك هو مساعدة شمعون بيريز على اكتساب مصداقية و شرعية.
بدأ الأمر بالطلب من الأسد ان يقابل بيريز في كانون الأول، و تبع ذلك اقتراح أمريكي أن يرسل الأسد برقية تعزية إلى ليا رابين، أرملة إسحاق رابين. و الآن تطلب الولايات المتحدة منا حضور قمة مع بيريز، لكي يكتسب صورة جيدة في أعين المجتمع الدولي و أعين ناخبيه داخل إسرائيل.
و في منتصف عام 1996، و مع أنه لم تكن لنا يد في اغتيال رابين، بدأنا نشعر أننا كنا ندفع ثمن موته حين يُطلب منا باستمرار أن نخطو الخطوة الإضافية أو نقوم بالإيماءة الإضافية للوصول إلى السلام و دعم إرث رابين.2
**حـرب نـيـسـان 1996 .. / 1 / .
تسارع الضغط خلال الأشهر القليلة الأولى من عام 1996، و وصل إلى علوٍّ جديد في نيسان أثناء الحرب اللبنانية ـ الإسرائيلية، التي عرفها الغرب بالتسمية الإسرائيلية: " عملية عناقيد الغضب ". لكن العرب يفضلون تسميتها باسمها العربي:
حرب نيسان، الذي أطلقه عليها أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، وقد زُعِم أن الإسرائيليين شنوا الحملة التي استمرت ستة عشر يوماً لوقف هجمات حزب الله الصاروخية الموجهة إلى شمال إسرائيل.
و قد اشتملت الحرب على 1100 غارة جوية فوق الاراضي اللبنانية، و وابل من 132•25 قذيفة سقطت على المنازل و المزارع و المدنيين في لبنان. و ارتكب الجيش الإسرائيلي عملاً مشيناً بضرب مبنى للأمم المتحدة في قرية قانا أثناء المعركة، بخمس قذائف مدفعية عيار 155 مم، و قتل 118 مدنياً. و قد أطلق في ما بعد على هذا العمل الإجرامي اسم ( مذبحة قانا الأولى )، ( إذ حدثت الثانية أثناء حرب عام 2006 ).
و ترتجف أوصال جيل كامل من الشباب العرب - الذين هم في سن ابنتيّ - حين يتذكرون تلك المجزرة، فقد كانت إحدى أكثر الهجمات وحشية في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، و ستبقى مطبوعة في أذهان أجيال كثيرة من العرب سنوات و سنوات، لكن مارتن إنديك ذكر المذبحة في مذكراته على أنها " غير مقصودة "، مدعياً أن الجيش الإسرائيلي رصد صواريخ لحزب الله في الموقع، الأمر الذي لم يترك له خياراً سوى أن يهاجم. و يجب الانتباه هنا إلى أنّ إنديك كان في ذلك الوقت سفير بيل كلينتون في إسرائيل، و من المدهش جداً أن وارن كريستوفر لا يأتي على ذكر مذبحة قانا على الإطلاق في مذكراته فرص في العمر لا تتكرر، كما أنه لا يشير إلى المفاوضات الماراثونية التي قادها لإنهاء الأزمة، و التي أصبحت تعرف باسم " تفاهم نيسان ".
أما دنيس روس، فهو حتماً يقر بخطورة قانا، و يعترف: " لقد كتمنا نقدنا للفعل الإسرائيلي، جاهدين بدلاً من ذلك، ببذل جهد ملحوظ للتوصل إلى وقف لإطلاق النار ". و تباطأت إسرائيل كثيراً في التعبير عن أسفها لوفاة الأبرياء. في البداية، قال نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ماتان فيلاني إن الصواريخ أصابت مبنى الامم المتحدة، ليس لأنها أخطأت هدفها، بل لأن الخرائط الموجودة لدى الجيش قديمة، و لأن إحداثيات الأهداف تغيرت جغرافياً. و قال بيريز نفسه: " لم نكن نعرف أن عدة مئات من الأشخاص مجتمعون في ذلك المخيم. و كان ذلك مفاجأة مُرّة لنا ".
و أضاف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أمنون شاماك: " لا أرى أي خطأ في التقدير. لقد حاربنا حزب الله هناك في قانا، و حين يطلقون النار علينا نطلق نحن النار عليهم للدفاع عن أنفسنا. و لا أعرف أية قواعد أخرى للعبة، في ما يخص الجيش، و في ما يخص المدنيين ". و صرح نيكولاس بيرنز، الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أن "حزب الله يستعمل المدنيين غطاء. و فِعلُ ذلك شيء مفيت، شيء شرير ".
أما بالقدر الذي يعنينا في دمشق، فقد كانت مذبحة قانا و طريقة ردّ فعل كل من الولايات المتحدة و إسرائيل مأساة إنسانية و كارثة دبلوماسية في ما يتعلق بعملية السلام. فليس بوسع أي إنسان ذي عقل سليم أن يجري محادثات مع رئيس وزراء إسرائيلي ملطخة يداه بكل هذه الدماء اللبنانية. لقد برهنت مجزرة قانا أن شمعون بيريز لا يختلف عن آرييل شارون أو مناحم بيغن أو إسحاق رابين. و في الواقع، كان الرئيس الأسد يقول دائماً :" إن الدم العربي ( مقدس )، سواء أكان لبنانياً أم مصرياً أم سورياً ".
**حـرب نـيـسـان 1996 .. / 2/ .
منذ غزو جنوب لبنان عام 1978، لم يتمتع الإسرائيليون بيوم راحة على الحدود اللبنانية، و كان الفضل في هذا، بالطبع، للشعب اللبناني الصامد، إضافة إلى عناصر مختلفة من المقاومة اللبنانية التي بدأت بالحزب السوري القومي الاجتماعي، و حركة أمل، و الحزب الشيوعي اللبناني، و من ثمّ حزب الله الذي ظهر بعد احتلال بيروت عام 1982.
و في عام 1985 ، أنشأ الجيش الإسرائيلي ما أطلق عليه اسم " المنطقة عازلة أمنية " في جنوب لبنان. و بعد ثمانية أعوام، في آب 1993، شنّت إسرائيل هجوماً كبيراً ـ أطلقت عليه اسم عملية المحاسبة ـ هدفه كسر شوكة حزب الله، لكنها لم توفق في ذلك. انتهت الحملة بوقف إطلاق النار، و اتفاق شفوي بأن يتوقف الطرفان عن استهداف المدنيين، وأن تبقى عين سورية ساهرة على مراقبة الأمور. و قد خرقت تل أبيب هذه الاتفاقية أيضاً في نيسان 1996 بحملة عسكرية أخرى تهدف إلى إخضاع حزب الله.
بدأت المعركة الجديدة يوم 30 آذار حين قتلت مروحية تابعة للجيش الإسرائيلي رجلين أثناء عملهما فوق برج مائي في ياطر في لبنان.
و بعد ذلك انفجرت قنبلة على جانب الطريق في الجنوب، و قتلت فتى في الرابعة عشرة من العمر في قرية برعشيت، كما جرحت ثلاثة مدنيين، و ردّ حزب الله بإطلاق عشرين صاروخاً على شمال إسرائيل في التاسع من نيسان. و بعد يومين، أي في 11 نيسان، بدأت إسرائيل عملية عناقيد الغضب، زاعمة أنها رد على صواريخ حزب الله التي جرحت ستة مدنيين إسرائيليين. لكن صاروخ حزب الله الشهير، الكاتيوشا، ليس سلاحاً فتاكاً، و الأمريكيون و الإسرائيليون خير من يعرف ذلك.
في الصباح الباكر من يوم 11 نيسان، بدأت الطائرات و المدفعية الإسرائيلية قصفاً مكثفاً على جنوب لبنان، و كذلك على أهداف في منطقة بيروت و وادي البقاع. و كان الهدف المعلن لهذه الهجمات هو الضغط على رئيس الوزراء رفيق الحريري لاتخاذ موقف صارم ضد هجمات حزب الله الحدودية، و قامت إسرائيل بغارة جوية على أهداف منها قواعد إطلاق الكاتيوشا و منشآت حزب الله، و المدارس، و سيارات الإسعاف، و أهداف مدنية أخرى. و في إحدى المرات قصف الجيش الإسرائيلى بناء من طابقين في قرية النبطية جنوب لبنان، و قتل تسعة مدنيين أثناء نومهم. و أُرغم ما لا يقل عن نصف مليون شخص من القاطنين في جنوب لبنان على الهروب من بيوتهم بسبب الهجمات الإسرائيلية، و قد أثارت قافلة اللاجئين غضباً عالمياً، لكن هذا الغضب لم يوقف العدوان الإسرائيلي على الإطلاق، و في 12 نيسان، هاجمت الطائرات الإسرائيلية مركزاً سورياً، و قتلت جندياً، و أصابت اثني عشر جندياً آخرين، و بحلول يوم 13 نيسان كان الجيش الإسرائيلي قد حاصر موانئ بيروت و صيدا و صور .
و في 14 هاجم محطات الطاقة في حي الجمهور في بيروت، و بذلك قطع الإمدادات الكهربائية، و أدخل بيروت في ظلام دامس.
قُتِل حوالي 170 لبنانياً في حرب نيسان، منهم 106 من المدنيين، و جُرح 350 شخصاً. ومع أنّ ذلك العدد كان صغيراً بالمقارنة بما حدث عام 2006 ، فقد كان مؤكداً أنه أكبر من عدد المدنيين الإسرائيليين البالغ اثنين و ستين شخصاً قتلتهم صوأريخ حزب الله، و كانت الأضرار التي أصابت البنية التحتية اللبنانية كبيرة، إذ تم تدمير جسور رئيسية و محطات طاقة. و استناداً إلى ما ذكره مرصد حقوق الإنسان، تعرض 2018 منزلا و بناء في جنوب لبنان إما للتدمير الكامل، و إما لأضرار جسيمة جراء القصف. و قُدِّرَت الأضرار الاقتصادية بمجملها في لبنان بمبلغ 500 مليون دولار بحسب المركز اللبناني للدراسات السياسية.4
1- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص192
2- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص 197
3- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص 198
4- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 / ص200
إضافة تعليق جديد