دعوات التقريب المذهبي بين المسلمين ... من الشقاق إلى الفتنة
ظهرت دعوة التقريب المذهبي منذ أكثر من نصف قرن في مركز الإسلام السني في القاهرة، وكتب الكثير في الدعوة التقريبية منذ ذلك التاريخ، وخصوصاً من قبل شيوخ الشيعة ومتنوريهم الذين تعود إليهم فكرة التقريب أساساً (فكرة إنشاء «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» التي طرحها السيد محمد تقي القمي سنة 1364ﻫ)، ورغم ذلك يبلغ اليوم الاقتتال الطائفي أوجه في بلدان مثل العراق وباكستان وأهواز إيران، وتستثار الغرائز الطائفية في بلدان يكاد ينعدم فيها الوجود الشيعي أساساً، وإذا كان من فاعلية يجب أن تظهر لدعوة التقريب، فلم لم تظهر في هذه الأزمة الطاحنة؟ أليس هذا مؤشر على عدم فاعليتها في هذا الامتحان الطائفي الذي تمر فيه الأمة؟
الواقع أن أطروحة التقريب المذهبي - التي تشبه إلى حد بعيد أطروحة «التعددية الدينية» (انظر مقالنا عن هذه الأطروحة في صحيفة الحياة 9 شباط 2008) - يعتمد على جملة من الأسس تسعى إلى رأب الشقاق الذي يصيب عادة أتباع الأديان والطوائف المنشقة عنها، و«الشقاق» هنا مفهوم ذو أبعاد اجتماعية ودينية أكثر منه سياسية أو عقدية، هذه الأسس تتركز في فكرة البحث في المشترك (الذي يصغر في بعض الأحيان إلى حدود الخلاف اللفظي)، وفكرة الحوار العقدي الفكري (عادة ما يتم التأكيد على ضرورة أن يكون علنياً)، وفكرة التعرف على الآخر وإزالة الأوهام والتصورات المغلوطة عنه (كما لو أن كل من الطرفين يجهل الآخر)، والوحدة الإسلامية (القائمة على تصورات مشتركة للدين) والتي لا يتضح فيها المعنى العقدي من المعنى السياسي.
ومن الواضح أن هذه الأفكار في مجموعها تمثل مدخلاً عقدياً لحل معضلة الشقاق وتحقيق التقارب «المأمول»، لكن أكثر المتحمسين للتقارب المذهبي وهم أصحاب الفكرة كانوا ذاتهم طائفيين، ولاعجب في ذلك، فالمدخل العقدي للتقارب في الواقع يعزز الطائفية ويعمق الشقاق بدل أن يؤسس للتقارب، فالعقائد بطبيعتها أحادية وتقوم على حقيقة تكذب ما عداها، كيف يمكن للتقارب أن ينشأ من مدخل ذي طبيعة إقصائية؟! بالتأكيد إن مدخلاً كهذا يفرض لغة حوارية منافقة تستمد مفرداتها من معجم المجاملات وادعاء التقارب الطبيعي والتاريخي الذي لا ينقصه سوى مزيد من الجهود لنشر فكرة التقارب! (على حد تعبير محمد علي التسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب).
ما زال كثيرون ينظرون بريبة لهذه الدعوة من كلا الطرفين، هنا نفهم سر التخوف من أن تكون دعوة التقارب المذهبي دعوة في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، بمعنى أنها في حقيقتها دعوة لأغراض تبشيرية (كما ألمح الشيخ القرضاوي والدكتور البوطي)، فقد يكون من حق الأقلية الدينية أن تدعو للحوار، ومن الطبيعي أن تبحث عن مشروعية وجودها داخل الأكثرية الطاردة لها، لكن بالتأكيد - بحسب هؤلاء - أن دعوة من هذا القبيل تحمل في طياتها عقد الأقلية ذاتها، فمعنى الحوار والتقارب ليس الاعتراف بمشروعيتها العقدية. قد يكون هذا التصور انعكاساً لحالة الحساسية التي أصابت الشرق الأوسط بعد احتلال العراق وتزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، لكنه في كل الأحوال يمثل وجهة نظر قائمة وربما أصبحت سائدة.
فكرة البحث في المشترك بين السنة والشيعة الذي يصغر في بعض الأحيان إلى حدود الخلاف اللفظي، تعكس نمطين من التفكير، أولهما تفكير الهروب إلى الأمام، واتباع سياسة غض النظر عن الخلافات العميقة والجوهرية ربما بين أتباع الطائفتين، ونتيجة هذا النمط من التفكير - وهو النمط السائد لدى معظم دعاة التقريب - هو تأجيل مواطن الخلاف، وسياسة التأجيل لا تعني سوى بقاء الوضع (الشقاق) على ما هو عليه، وإغماض العينين عن حقيقته وخطورته، إلى أن يأتي الوقت الذي تنفجر فيه هذه الخلافات دفعة واحدة وبشكل دموي عندما يتاح لها البروز في ظرف من الظروف، بالتأكيد المثال العراقي شاهد لا يحتاج للتوضيح.
نمط آخر من التفكير في موضوع «البحث في المشترك» يسود لدى بعض المتحمسين لفكرة التقريب، يتحدث عن مشاريع علمية وفكرية تُنقِّي التراث من الخلافات الطائفية وتقدمه للأجيال القادمة، بدلاً من إعادة تدريسها وتلقينها الخلاف الذي يحفل فيه التراث! من جهة يبدو هذا التفكير ضد مبدأ الاعتراف بالخلاف والاختلاف وهو يدافع في الوقت ذاته عن الاختلاف بين الطائفتين! كما أنه إذا كتب له أن ينجز مشروعاً كهذا - وهذا تفكير أسطوري لا يمت إلى الواقع بصلة - فإنه أقصى ما يمكنه أن يفعل هو تكوين مذهب جديد أو طائفة جديدة منشقة على غرار الطائفتين (السنة والشيعة).
إن الإلحاح على «التعرف على الآخر» على الرغم من أهميتها لا تبدو أنها تمثل أساساً قوياً للتقارب، فكل منهما يعرف الآخر في شكل جيد، لا بل إنه في بعض الأحيان يعرفه أكثر من اللزوم، ومعرفة الآخر تفقد أهميتها بالنظر إلى المعرفة المتحققة فعلاً، وإن شابها بعض الأوهام، لكنها في الجملة صحيحة، إن المعرفة «الصحيحة» عن الآخر هي شرط للحوار وليست شرطاً للتقارب، فالواقع أن الشقاق أساساً ناجم عن معرفة المختلف أكثر من الجهل به.
في ما يتعلق بفكرة الحوار علينا أن نسأل أي معنى للحوار هو الذي يمكن أي يؤدي للتقارب؟ إن الإلحاح على الحوار العقدي بين العلماء (الذي يشترط عادة علنيته) في الواقع إلحاح لا معنى له سوى التبشير الديني، إذ أن معنى «الوصول إلى الحق» هو أن يتخلى أحد الطرفين عن اعتقاداته علانية لصالح الحق (الذي لدى الطرف الآخر طبعاً)، هذا النوع من الحوار (لو حصل) فإنه سيزرع بذور الفتنة، ولنا في كتاب «المراجعات» المنتحل مثال وأي مثال، فقد كان هذا الكتاب الأداة التبشيرية الأولى في النصف الثاني من القرن العشرين!
واقع دعوة التقريب ونتائجها عكست أن هذه الدعوة بدأت من المدخل الخطأ، وأنها في سلسلة عمليات المجاملة وغض النظر والتبشير أدت إلى الفتنة، ومن المستغرب حقاً أن يذهب البعض إلى أن «قد برهنت هذه التجربة [دعوة التقريب]، على إمكان تحقيق فكرة التقارب بين المذاهب الإسلامية، والتقدم الفعلي والعملي في هذا السبيل، وكيف أن هذه الفكرة ليست بعيدة المنال، أو من غير الممكن إنجازها والعمل على تحقيقها»، لا أعرف إن كان ما نشهده من اقتتال طائفي هو نعمة وتقارب!
من حق الطوائف المحتلفة أن تنعم بالسلام والأمن، وأن تمارس عقائدها وشعائرها الدينية بكامل الحرية، ومن حق كل إنسان أن يملك الخيار في اعتقاداته والتنقل بين اعتقادات مختلفة، لكن المدخل العقدي الإقصائي هو أسوأ مدخل يمكن للمرء أن يرى فيه سبيلاً لرأب التصدعات الطائفية، فخطورة هذا المدخل أنه ينقل الخلاف الديني إلى الصراع والاقتتال، أو على الأقل لا يستطيع التقليل من مخاطره.
لا شك أن الفتنة الطائفية ولدت في سياق سياسي، وبالتالي الدخول إلى التقارب المذهبي من غير الباب السياسي هو دخول خاطئ، فالاقتتال الطائفي في الشرق الأوسط يعود في جذوره إلى تحلل الرابطة الوطنية لعوامل مختلفة، وظهور الرابطة الدينية كأساس للتجمع والفعل السياسي، وليس بسبب جهل الآخر ولا بسبب التركيز على الخلاف، كل هذه الأشياء في الواقع تستثمر غريزياً لأغراض سياسية، ومن الواجب إلغاء التقارب المذهبي المحشو بالطائفية لصالح التسامح الديني، بوصفه توافقاً عقلانياً سياسياً وأخلاقياً وقانونياً لحرية الآخر والمسالمة معه، إن العمل من هذا المدخل (أعني: نزع الفتنة) بوصفه مدخلاً سياسياً اجتماعياً من شأنه أن يرمم الرابطة الوطنية المنحلة، ويحقق الأمن والسلام في بلداننا.
عبد الرحمن الحاج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد