زيارة الأسد إلى تركيا: الأهمية والمغزى
الجمل: ترتبط السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية، ولكن طريقة الارتباط تختلف بين بلد وآخر، ولما كانت السياسة الخارجية السورية ترتبط بالسياسة الداخلية القائمة على ثوابت "الاستقرار" و"السلام" و"التنمية"، فقد كانت السياسة الخارجية التركية خلال مرحلة ما قبل حزب العدالة والتنمية، أكثر ارتباطاً بالسياسة الخارجية الأمريكية، الأمر الذي ترتب عليه أن تأخذ تركيا وصفاً إقليمياً شاذاً يقوم على التبعية، وعدم الانسجام مع مصالح بيئتها الإقليمية والشرق أوسطية، على النحو الذي جعل من تركيا عاملاً من عوامل عدم الاستقرار في الشرقين الأوسط والأدنى.
* زيارة الرئيس الأسد إلى تركيا: المغزى الجيوبوليتيكي:
تأتي زيارة الرئيس السوري إلى تركيا ضمن توقيت يعكس مدى دقة الإدراك السوري في التعامل مع المتغيرات الشرق أوسطية الجيو–سياسية، وتؤكد ذلك خارطة الأحداث والوقائع الجارية حالياً في منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص خلال هذه الفترة التي وجدت فيها تركيا نفسها في مواجهة:
• تحدي الحركات الانفصالية الكردية المتمركزة في شمال العراق.
• الانقلاب الجديد في السياسة الخارجية الأمريكية إزاءها، والذي تمثل في لجوء الولايات المتحدة إلى التخلي عن دعمها والتعاون معها ، واعتماد الضغط وأساليب الإكراه، لإرغامها وإذلال القيادة التركية الجديدة لكي تتخلى عن توجهاتها الوطنية، وقد ظهرت أولى معالم التوجهات الأمريكية الجديدة هذه في قيام مجلس النواب الأمريكي بالتصويت لصالح قرار الاعتراف بمذابح الأرمن، والذي سبقه قيام الإدارة الأمريكية بالتواطؤ مع الحركات الانفصالية الكردية ودعمها بالمال والسلاح والعتاد وتوفير غطاء الحماية الأمنية والسياسية لها.
• استخدام آلية قطع المساعدات الأمريكية العسكرية والاقتصادية كوسيلة ابتزاز من أجل الضغط على القيادة التركية الجديدة.
• محاولة اختراق البنية السياسية والأمنية التركية، عن طريق العمل من أجل دفع الجيش التركي للقيام بعمليات قطع الطريق أمام نمو وتصاعد التوجهات الشعبية التركية الجديدة الهادفة إلى إدماج تركيا ضمن بيئتها الشرق أوسطية.
• محاولة التأثير على القيادة التركية، وعلى الرأي العام التركي، عن طريق قيام حلفاء أمريكا الأوروبيين، مثل الرئيس الفرنسي «ساركوزي» (الذي ظل طوال الفترة السابقة من المعارضين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي)، والمستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» (التي ظلت أيضاً معارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي) بتغيير مواقفهم بشكل مفاجئ وإطلاق التصريحات التي تهدف إلى تضليل القيادة التركية الجديدة بالوعود المتعلقة بإمكانية ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
* زيارة الرئيس السوري على ضوء المعايرة الإستراتيجية:
العلاقات السورية - التركية، ليست علاقات وليدة اللحظة أو المرحلة، بل هي علاقات وليدة الحتمية الجيو-سياسية، الضاربة القدم في جذورها التاريخية، والوثيقة الارتباط على ضوء خصوصية روابط جغرافية الجوار الإقليمي...
زيارة الرئيس السوري على خلفية قيام الحكومة التركية الجديدة بعملية تصحيح توجهات السياسة الخارجية التركية، هي زيارة تعكس مدى إدراك القيادة السورية للانسجام الذي حدث في المسرح الإقليمي الشرق أوسطي، وبالذات في الاعتبارات المتعلقة بالحسابات الإستراتيجية للـ "فرص" والـ"مخاطر"، وبكلمات أخرى، فإن "فرص" التعاون المشترك بين سوريا وتركيا أصبحت تتيح المزايا التي تتوقف على "مخاطر" عدم التعاون، وأيضاً أصبحت "مخاطر" تدخل القوات الأجنبية المتمثلة في إسرائيل والولايات المتحدة في ملفات المنطقة السياسية والأمنية والعسكرية تتوقف على الـ "فرص" الناتجة من السماح لهذه الأطراف بالتدخل، وعلى ما يبدو فقد أصبح الأتراك أكثر إدراكاً من غيرهم بأن إفساح المجال أمام الإدارة الأمريكية وحلفاءها يجلب من الأضرار والمفاسد ما يطغى على الفوائد..
* العلاقات السورية – التركية: نحو توازن استراتيجي جديد في المنطقة:
العلاقات السياسية، وعلى وجه الخصوص، تلك العلاقات التي تتميز بخاصية الجوار الإقليمي، لا بد أن تلتزم بتحقيق التوازن، ولما كانت العلاقات السورية – التركية خلال فترة ما قبل صعود حزب العدالة والتنمية، تفتقر إلى التوازن المطلوب بسبب العامل الإسرائيلي والعامل الأمريكي، وتدخلهما السافر في توجيه دفة السياسة الخارجية التركية، فقد أصبح من الضروري الآن إعادة إنتاج هذا التوازن، على النحو الذي يعيد الاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط على الأقل... وقد أصبح الوقت الآن مهيّأً للقيادتين السورية والتركية، للعمل من أجل التفاعلات الإقليمية، عن طريق القيام بتعزيز أسس الأمن والاستقرار ودرء مخاطر التدخل الخارجي، الذي أصبح يعمل بشكل سافر من أجل خدمة المشروع الإسرائيلي، وهو مشروع، برغم استهدافه المعلن للبلدان العربية، فإن استهدافه غير المعلن ضد تركيا هو أشد ضرراً وأكثر فعالية في إلحاق الأذى بمستقبل تركيا الاقتصادي والاجتماعي..
وحالياً، تركز إسرائيل كل جهدها من أجل الاستيلاء على الفرص المتاحة أمام الاقتصاد التركي من جراء المشروعات التركية الجديدة الهادفة إلى الاستفادة من مزايا قيام تركيا بدور الممر الرئيسي لصادرات نفط بحر قزوين وآسيا الوسطى وروسيا وإيران والعراق.. وتتمثل الجهود الإسرائيلية الهادفة إلى "سرقة" هذا المشروع التركي الاستراتيجي، من خلال محاولات إسرائيل الساعية إلى تمديد خطوط أنابيب النفط تحت مياه البحر المتوسط إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي، والذي تخطط إسرائيل بالتواطؤ مع الشركات النفطية الأمريكية والإدارة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، إلى جعله يقوم بدور ميناء تصدير النفط الرئيسي، وبالتالي تفوت على تركيا "فرصة" الاستفادة من المزايا الهامة التي يتيحها موقعها تركيا الاستراتيجي... وعلى ما يبدو فإن القيادة التركية الجديدة، قد أدركت تماماً مدى الخطر المحدق بالمصالح الحيوية التركية من جراء دخول إسرائيل طرفاً في مشروع تمديد أنابيب النفط..
وعموماً، سوف لن يطول أمد النفوذ الإسرائيلي – الأمريكي على تركيا، طالما أن الإدارة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل ما تزال أكثر إصراراً على التمادي في التوجهات السياسية التي تقوم على "العجرفة" في التعامل مع تركيا، إضافة إلى التقليل من شأن الوزن الجيوبوليتيكي الكبير للقيادة التركية الجديدة..
ردود الأفعال الإسرائيلية – الأمريكية إزاء التوجهات التركية الجديدة في السياسة الخارجية، عبرت جميعها عن عدم قدرة الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، على إدراك وفهم خصوصية العلاقة بين الواقع الاجتماعي التركي والسمات النوعية التي تميز القيادة التركية الجديدة عن سابقتها... وتشير التوقعات إلى أن النموذج الاستراتيجي الخاص بالتعاون الإقليمي السوري – التركي، سوف يكون الأكثر فعالية في تعزيز قدرة الوصول إلى البيئة الأمنية المستقرة الجديدة في الشرق الأوسط، والتي بالضرورة سوف تكون بيئة مختلفة عن بيئة السلام الجديد الذي ظلت تروج له إسرائيل ومن وراءها الإدارة الأمريكية منذ أكثر من خمسة سنوات...
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد