عصر جديد من الإمبريالية الكهرمائية
الجمل- غاريكاي شينجو - ترجمة: د. مالك سلمان:
يمثل الماء في القرن الواحد والعشرين ما كان يمثله النفط في القرن العشرين: السلعة التي تحدد ثروة الأمم واستقرارها.
أولئك الذين يعتقدون أن التدخلات الغربية في العراق وليبيا وسوريا تتعلق بالنفط فقط مخطؤون. فبشكل عام، يتحول الاهتمام الغربي بالشرق الأوسط بشكل متسارع إلى سلعة أغلى من النفط، ألا وهي الماء.
تبعاً ل "مركز السلامة العامة" الأمريكي، تجني البلدان الغربية حوالي 1 تريليون $ من خصخصة وتنقية وتوزيع الماء في منطقة يتجاوز فيها سعرُ المياه سعرَ النفط.
على الرغم من أن ثلثي كوكبنا مكون من الماء، إلا أننا نواجه نقصاً حاداً. تشكل هذه الندرة صفعة على وجه افتراضاتنا الطبيعية. فالمشكلة هي أن 97% من المياه مالحة. جيدة للأسماك، وليس للبشر. واحد بالمئة فقط من المياه العذبة في العالم صالح للشرب، بينما يبقى الثلثان الآخران محبوسين في الأنهار الجليدية والثلج.
بكلام آخر: إذا مثلنا كل المياه الموجودة على الأرض في إبريق يتسع 11 ليتراً، فإن المياه العذبة تملأ كأساً واحداً فقط، وليس بمقدورنا سوى أن نبحث عن النقطة الأخيرة.
قررت الطبيعة أن الموارد المائية ثابتة؛ لكن الطلب يتزايد مع تزايد سكان العالم وتوسع ثرواتهم. بحلول العام 2030 سوف يؤدي التغير المناخي، زالنمو السكاني، والتلوث، والتوسع المديني، إلى تجاوز الطلب على المياه للنسبة للكميات المتوفرة بنسبة 40%.
لكي يكون الماء مفيداً، يجب تعدينه، ومعالجته، وتعبئته، ونقله، تماماً على غرار الذهب، أو الفحم، أو الغاز، أو النفط. وعلى عكس النفط، ليست هناك بدائل، أو خيارات، أو مواد مؤقتة بالنسبة إلى المياه.
كانت هناك ثلاث موجات من الإمبريالية المدفوعة بالبحث عن الموارد في العصر الحديث.
أذكى البحث عن الذهب الموجة الأولى. ركب الكولونياليون التقليديون، بدون أي حياء أو خجل، أحصنتهم وسيطروا بوحشية على الأراضي الأمريكية، وأرسلوا الحكام المزينين بريش النعام، وصكوا النقود التي تحمل صورة الملكة، وحدقوا بفخر في السكان المحليين وهم يكدحون في المناجم. تبعت ذلك عمليات اختطاف غير مسبوقة لملايين الأفارقة لتشغيلهم مكان الأمريكيين الأصليين الذين تعرضوا للإبادة على يد الغزاة الأوروبيين. وقد تزامن ذلك مع الغزو الوحشي لطلائع المستعمرين البيض لأفريقيا الجنوبية، بحثاً عن الذهب أيضاً.
الموجة الثانية من الإمبريالية كانت مدفوعة بعطش ما بعد– صناعي لا يرتوي إلى النفط.
إن الإمبريالية النفطية الحديثة، التي يميزها تحول الجيش الأمريكي إلى قوة مسلحة لحماية النفط العالمي، ترتدي قناعَ الديمقراطية، وتؤكد على حرية البحار (أو أنابيب النفط والغاز)، وتسعى إلى تأمين وحماية وحفر ونقل النفط، وليس إلى إدارة القضايا اليومية. ومع ذلك، فإن الوسيلة التي تستخدمها الولايات المتحدة في تمركز سياستها الخارجية حول النفط ليست جديدة في جوهرها، مع أنها غير مسبوقة في نطاقها.
الموجة الثالثة من الحروب الإمبريالية تدور رحاها الآن حول السلعة الطبيعية الأكثر قيمة: المياه. قبل غزو العراق في سنة 2003، أشار محللو "سي آي إيه" إلى مسرح حربي جديد متوقع: الحرب الكهرمائية، حيث تصبح "الأنهار والبحيرات والمياه الباطنية أحد أصول الأمن القومي التي يجب القتال من أجلها، أو السيطرة عليها." وسرعان ما تحققت هذه التوقعات بشكل متتابع، بدأ بالحروب الأخيرة في العراق وليبيا وسوريا. من الجلي الآن أن عصر الإمبريالية الكهرمائية يخيم علينا.
في 17 نيسان/إبريل 2003، في العراق، تلقت الشركة الأمريكية "بيكتيل" عقداً غير تنافسي لإعادة الإعمار من "وكالة التنمية الدولية" الأمريكية بقيمة 100 مليار $؛ وقد كان عقد إعادة الإعمار الأضخم في العراق. ولذلك لم يتم استخدام عقد إعادة الإعمار الأكثر ربحاً في العراق لتصليح المنشآت النفطية، أو بناء المدارس والمشافي، أو لترميم البنى التحتية التي تعرضت للقصف: تم استخدامه للبحث عن مصادر المياه وتعبئتها وتوزيعها.
مما يزيد من سوء هذه الطبيعة السرية القاتمة وغير التنافسية لعملية منح عقد المياه هذا حقيقة لا يمكن تصديقها. فشلت "بيكتيل" في العديد من المشاريع السابقة التي أشرفت عليها.
في كاليفورنيا، قامت "بيكتيل" بتركيب أحد مفاعلات الطاقة النووية بالعكس. وفي بوسطن، أصبح مشروع "بيغ ديغ" سيء السمعة، الذي كان مقدراً له أن يكلف 2.5 مليار $، المشروعَ الأكثر كلفة في التاريخ الأمريكي بكلفة 14.6 مليار $. كما وجهت اتهامات بسوء الإنجاز، والفساد، والاعتقالات الجنائية، وأربع وفيات.
في بوليفيا، يتميز سجل "بيكتيل" بخصخصة المياه عبر تضخيم الأسعار بنسبة 35%. وقد سبب هذا التضخم الكثير من أعمال الشغب التي راح ضحيتها عدة أشخاص. تم طرد "بيكتيل" من البلاد وحاولت مقاضاة الحكومة البوليفية لإلغاء عقدها.
منذ نهاية القرن الماضي، كانت العراق الضحية الأولى للإمبريالية الكهرمائية، وكان العقيد القذافي الضحية الثانية. إن ليبيا تقبع فوق مصدر طبيعي يفوق النفط في قيمته: الصخور الرملية المائية النوبية، التي تشكل احتياطياً باطنياً هائلاً للمياه العذبة، يُقدَر أنه الأضخم في العالم. كان القذافي قد استثمر 25 مليار $ في هذا المكمن المائي الكفيل بتحويل بلد 95% منه صحراء إلى واحة قابلة للزراعة. أما الآن، فإن الشركات الفرنسية المائية العالمية الضخمة ("السويس"، و "أونديو"، و "سور") تسيطر على حوالي نصف سوق الماء العالمي بقيمة 400 مليار $.
كان القذافي قد قرر أن يتم تصميم الخطة من قبل الليبيين، وبناء المشروع من قبل الليبيين، وأن يفيدَ الشعب الليبي من ثمار هذا المشروع. أما الآن فيعيد التصميم رجال ونساء فرنسيون بكلف متضخمة، ويشرف المقاولون الفرنسيون على البناء، ولفائدة المساهمين الفرنسيين. ومما لاشك فيه أن دافعي الضرائب الليبيين سوف يدفعون الفواتير بالإضافة إلى فواتير الماء الباهظة.
آخر مثال على الإمبريالية الكهرمائية يتمثل في الحرب في سوريا. تقود إسرائيل حملة غربية لدعم المتمردين السوريين ؛ لأن قادتها يؤكدون أن الرئيس السوري بشار الأسد يشكل خطراً وجودياً على إسرائيل فيما يتعلق بالمياه. فقد تعهد الرئيس الأسد باستعادة "مرتفعات الجولان" – وهي ارض احتلتها إسرائيل في حرب الستة أيام سنة 1976. تؤمن "مرتفعات الجولان" حوالي 40% من المياه العذبة الإسرائيلية.
قال ميئير داغان، رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق، مرة: "إن السيطرة السورية على نصف مياهنا يشكل خطراً أكبرَ من الخطر الذي تشكله قنبلة إيرانية واحدة."
كما أن الرئيس الأسد رفض خصخصة الصناعة المائية بهدف حماية شعبه من الأسعار الضخمة، مانعاً بذلك الغرب من الإفادة من مصدر دخل يقدر بملايين المليارات من الدولارات.
إن رفض الرئيس الأسد التنازل بشأن خصخصة المياه، وقراره باستعادة "مرتفعات الجولان"، يفيدان بأن الرئيس السوري – على غرار صدام حسين والعقيد القذافي، من قبله – يشكل عقبة أمام أجندة الإمبريالية الكهرمائية الغربية.
إن السيطرة على السلعة الأغلى والأكثر قيمة سوف تحدد، بالنسبة إلى أي بلد، الفرق بين العظمة والانحطاط. كان صدام حسين والعقيد القذافي يعرفان ذلك جيداً، كما يعرفه تمام المعرفة الرئيس الأسد الصامد الآن.
http://www.counterpunch.org/2014/05/27/us-water-wars-in-the-middle-east/
تُرجم عن ("كاونتربنتش"، 27 ايار/مايو 2014)
الجمل
إضافة تعليق جديد