عكا و الملوك: رواية وقائع تاريخية تكرر نفسها
الجمل ـ د. ثائر دوري : (( قد يجد قارئ هذا الكلام صعوبة في التفريق بين ما هو روائي وبين ما هو تاريخي، ولكن باستطاعته أن يقرأ الكلام على وجهيه، فكلاهما في نهاية الأمر صحيح. هنا، التاريخ والرواية يتبادلان المواقع ليقول كلٌ منهما ما لم يقله الآخر، أو، ليتكاملا لقول ما تم السكوت عنه))
هذا ما يصدر به الروائي أحمد رفيق عوض،و هو من عرب فلسطين 1948 و يبدو أنه ما زال يسكن عكا، روايته " عكا و الملوك " الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب "دمشق – 2005" حسماً للجدل الذي يثيره هذا النوع من الروايات التي تستلهم التاريخ ،و يدورحول مدى انطباق التاريخ المكتوب مع الحدث الروائي . لكن هناك اختلاط آخر و هو الأهم برأيي ،بل إن اللعبة الروائية التي يلعبها الروائي أحمد رفيق عوض تستند عليه، و هو صعوبة التفريق بين ما هو حاضر و بين ما هو ماضي في الرواية فكلاهما في نهاية الأمر صحيح، فالحاضر و الماضي يتبادلان المواقع .لأن الوقائع تكرر نفسها بين الماضي و الحاضر : فلسطين ، غزوات الفرنجة،استخدام الدين لأغراض سياسية استيطانية من قبل الغرب،تفاهة حكام العرب و المسلمين و صراعاتهم و تشتت كلمتهم،يقول قاضي صلاح الدين :
(( سقطت عسقلان،المدينة العروس،كما سماها نبينا عليه السلام، لأن قائد الجيش الفاطمي الذي يدعى بهذا الاسم الرنان كثير الحروف،ركن الدين المظفر أبو المنصور عباس بن تميم، ياله من اسم فخم لا يعني شيئاً، هذا الرجل الفاجر الداعر،و بعد أن خرج من القاهرة يريد عسقلان ليرد عنها كيد الفرنجة،وصل بلبيس،حيث تلتقي القوات البرية بالقوات البحرية، في ذلك البلد الذي تختلط فيه كل الوجوه واللهجات والمسكوكات، تذكر ذلك الفاجر ملذات القاهرة ونساءها ومجالس الشرق فيها، فكره أن يواصل السير للحرب ...))
و يقول :
((والمدن لا تسقط من خارجها، المدن تسقط من داخلها، المدن كالثمار، إذا لم تغذى الجذور فإنها تجف وتسقط.
كان مولاي وسيدي يبدو غريباً بين الأمراء والحكام بهذا التصرف، فمن عرفنا منهم كان على استعداد لأن يصانع الفرنجة الذين في بلادنا أو الفرنجة الذين يأتون من جزائرهم وراء البحار.
وقد عملت مع وزراء أشبه بالصبية الصغار، يهدرون كرامة الأمة من أجل أمة أو بدرة مال أو قصر منيف.......))
و يقول في مكان آخر :
((الملك التافه هو ملته التافهة، والملك العظيم هو ملته العظيمة، والملك العظيم والقوي والحكيم من يختار رجالاً عظماء وأقوياء وحكماء، لأنه يتقوى بهم، ويزيد عليهم بغلبته وسلطانه، أما الملك الضعيف فيختار ضعفاء تافهين حتى لا يغلبوه أو يسلبوه، وقد رأيت أميراً يستشير غلاماً لـه يلوط به، وقد اشتهر أمرهما في أنحاء طبرستان وما جاورها، ولن أذكر اسمه تعففاً))
و يصف حاكماً آخر :
(( ..........ورأيت شاور مذلولاً وهو يذعن للفرنجة ويتعهد بدفع ألف ألف دينار لـهم حتى يفكوا الحصار عن القاهرة..................
ورأيت شاور وسمعته وهو يحاور أموري من اليمين ويحاور السلطان نور الدين زنكي رحمه الله من اليسار، فيبعث هذا معه جيشاً يقوده عم مولانا السلطان، أسد الدين شيركوه، وسمعت شاور يقول لـه عن أهل مصر "يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا".
الوزير الفقاعة يصف من يحكمهم بأنهم كالذباب، أهل مصر الكرام الطيبون الماهرون أصحاب الصنائع وأهل البدائع، يصفهم هذا التافه بأنهم مجرد ذباب يتكالبون على الحلوى ويتفرقون لمجرد الهش باليد.
وقد كتبت ذات مرة لسيدي ومولاي صلاح الدين أن لا يصف مصر بما وصفها...))
كل لحظات الماضي تتناسل في الحاضر ، فالمهجرون من أبناء فلسطين، و أولئك الأشخاص الذين دفعتهم ظروف الاحتلال إلى التواجد بين المعسكرين : المسلمين من جهة و الفرنجة من جهة ، و محاولة الفرنجة محو هويتهم الحضارية و مقاومتهم لذلك بانحيازهم لأبناء جلدتهم ، كل هؤلاء يمثلهم عمر الزين الذي يقول عن نفسه :
((أمَّا أنا، عمر الزين، من قرية بيت فوريك شرقي نابلس العامرة، المحتلة من الإفرنجي منذ ما يزيد على ثمانين عاماً، فقد ولدت لأبوين أجلاهما الإفرنجي من قريتهما كفر مالك القريبة من قلعة الإفرنجي ريمون السنجيلي، التي يسميها فلاحو تلك النواحي سنجل، استسهالا واستساغة للاسم الغريب.
وقد أجلي أهل كفر مالك بناءً على أمر الرهبان من كنيسة القيامة في بيت المقدس، إذ رفض هؤلاء الرهبان أن يتسلموا أرض القرية بسكانها، بل رغبوا بها خالية حتّى يزرعوها كما يحلوا لـهم، هذا ما ذكره لي والدي كان قاضياً للأنكحة في تلك النواحي.
وقال لي والدي أن فرسان الفرنجة أخرجوا الأهلين من بيوتهم صبيحة يوم عيد الفطر حتّى أنهم منعوهم من الصلاة، ومنعوهم كذلك من أخذ متاعهم أو أحذيتهم، بل ساقوهم عنوة إلى قرية بيت فوريك، وهناك وجدوا أهل بيسان الذي أخرجوهم أيضاً من مدينتهم بذات الطريقة.
قال لي والدي أن ذلك كان أول عهد الفرنجة بهذه البلاد، كانوا يقتلون الناس، أو يحرقون مدنهم وقراهم أو يطردونهم من حيث هم. وفي بيت فوريك، وعلى تلك الهضاب الناعمة المعتدلة، ولدت، لأرى أول ما أرى محتسب الفرنجة يأتي كل عام يحيط به فرسانه ليحصّل من الأهلين غلّة الحقول من الثمار والحب والزيت والأعسال. كان أهلي يعملون أُجَرَاءْ في أراضيهم، وكانوا مجبرين على تقديم الحصص الأفضل لمحتسب الفرنجة الذي يدعى بلغتهم فيسكونت، أو شيئاً من هذا القبيل. ))
و يجد عمر الزين نفسه في معسكر الفرنجة " طلب الفيسكونت من النجار البيساني البكاء الذهاب معه، رفض هذا بعناد عجيب مدعياً المرض الشديد، فيما كان يتحدث دون أن ينظر إلى وجه الفيسكونت، فقد قال مراراً أن النظر إلى وجه الإفرنجي يسبب البثور وربما الجذام المستعصي. فاضطر الفيسكونت عندئذ إلى سؤالي بالذهاب معه رغم صغر سني وقلة خبرتي، وما أن سمعت أمي الخبر حتى هبت من جلستها المعتادة في فناء الدار المتواضعة، خرجت كالعاصفة دون أن تستأذن أبي ودون اعتبار لمكانة زوجها أو مكانتها، وصارت تصرخ بوجه الأفرنجي الذي كان يركب فرسا قصيرة غليظة الكفل والقوائم، ولكنه لم يفهم حرفاً ممَّا قالت، فلما نقل إليه الوكيل ما تقول الوالدة، رطن في وجه الناظر شيئاً ما ترجمه هذا لأمي بالقول أنني لن أغيب طويلاً، وأنني سأعمل في نابلس القريبة من القرية. في تلك اللحظة كان والدي قد جاء يرفع أذيال عباءته وقد أنهكه الجري من المسجد، وما أن شاهد أمي حتّى امتقع لونه، فجذبها من يدها جذبة شديدة لا تليق بقاض، وقبل أن يغيب نظر إليَّ بعنف وصاح بغضب لم يستطع كتمانه: كن رجلاً دائماً. حافظ على دينك دائما."
حافظ على دينك دائماً ، فالدين صار وعاءاً للحضارة و حافظاً لها من الضياع . فيصر عمر الزين على التمسك به . يقول :
((سطع في صدري القرار؛ أن أظهر ما لا أبطن، وأن أختلف عن الأجنبي المحتل السارق الفاسق، أن أحتفظ في صدري بشيء لا يستطيع هذا الأجنبي أن يصل إليه أو أن يدمره أو أن يمتلكه، للغالب سطوة، ولكن سطوته ليست قدراً.))
، الجهاد ، المقاومة ، العمليات الاستشهادية ، حرب العصابات .......الخ .
(( قال سيدي ومولاي إن الأمة التي تواجه في هذه اللحظات ملوك الغرب جميعاً، عليها أن تتخلى عن أوهام كثيرة، قال سيدي ومولاي ها قد مضت أكثر من ثمانين سنة والفرنجة بين ظهرانينا، فلم ينفع معهم التفاوض، ولم ينفع معهم الحوار، ولا حتى مصانعتهم، فقد هاجموا حليفهم أتابك دمشق ذات مرة، قال سيدي ومولاي إن الحوار والتفاوض لا يكون في حالة أن تغزى بيتك ودارك، ولا يكون مع من لا يراك، ولا يعترف بك، ولا يعطيك حق الحياة والوجود.
قال سيدي ومولاي إن القوة التي تشكمها وتهذبها الحكمة هي الطريق الأسلم والأحزم والأكرم، للتعامل مع الفرنجة أو من هم في حكمهم. قال سيدي ومولاي إن الفرنجة هؤلاء يريدون الأرض دون أصحابها، ويتوهمون أنهم الأحق والأقوى والأكثر خلقاً. لا يمكن الكلام معهم هكذا. ولا يمكن حوارهم هكذا، يصبح القتال هو الوسيلة الوحيدة لإثبات الحق، ولإثبات الحضور، ولإثبات الشرعية. هذا هو المفهوم الحقيقي للجهاد، والجهاد ليس حرباً فقط، بل هو قيمة حضارية تعني البقاء والحضور وفرض الهيبة ))
يختار أحمد رفيق عوض لحظة من حياة صلاح الدين لم يسلط التاريخ الضوء عليها كثيراً ، فيلتقط صورة له و هو مهزوم في عكا ، عكا التي استردها من الفرنجة و عاد ليخسرها أمامهم بعد أربع سنوات بعد أن اجتمع ثمانية و ثلاثون ملكاً و أميراً على حصارها . و عكا بحد ذاتها مدينة محملة بالرموز التاريخية يكفي أن تذكر اسمها حتى تتذكر حروب الفرنجة و تصفية ممالكهم على الساحل السوري على اعتبار أنها آخر هذه الممالك، و تتداعى الذاكرة التاريخية لتصل إلى نابليون و مشروعه الذي تكسر على أسوارها وصولاً إلى الغزوة الفرنجية الصهيونية المعاصرة التي أتت من بحر يافا و حيفا و عكا .
يقسم الكاتب الرواية إلى تسعة فصول يسميها بأسماء شخصيات روايته و هم : ابن جبير ، قراقوش ، ابن شداد ، جوانا ، سيف الدين المشطوب ، عمر الزين ، راشد الدين سنان ، الملك ريتشارد ، متجددات القاضي الفاضل . و يبقى فصلاً عاشراً لصلاح الدين لم يفرد له المؤلف مساحة خاصة به إنما وزعه على مساحة الرواية ، فصلاح الدين حاضر في كل التفاصيل على مدار الرواية .
تبدأ الرواية مع ابن جبير و منه نستمع لأخبار مغرب العالم الإسلامي في مراكش و الأندلس ، التي تخوض صراعا مع الفرنجة تحت سلطان المرابطين مثله كمثل مشرق العالم الإسلامي و من خلال لسان ابن جبير نطل على أحوال العالم الإسلامي من الأندلس إلى فلسطين إلى صقلية التي خسرها المسلمون و بدأوا يتعرضون للطرد و الإبادة . ثم ننتقل إلى قراقوش فيرسم له الروائي صورة مغايرة عن تلك التي حفظها التاريخ له بسبب النوادر و الغرائب التي ألفها أهل مصر عنه. فنراه في الرواية قائداً عسكرياً فذاً لا تهين عزيمته فهو قائد عكا المحاصرة من الفرنجة براً و بحراً يقاتل حتى آخر لحظة . كما أن إخلاصه لصلاح الدين لا حدود له . و تتالى الفصول على لسان الشخصيات كل واحد منهم يرسم صورة لنفسه و لصلاح الدين ، من ابن شداد مؤرخ صلاح الدين الذي يروي لنا ما جرى من قبل و ما يجري في هذا الحصار الطويل حيث الفرنجة يحاصرون عكا براً و بحراً و صلاح الدين يقاتلهم على أسوارها من الخارج و قراقوش من الداخل . و يختار من معسكر الفرنجة شخصية جوانا ليعرفنا على جزيرة صقلية، فهي زوجة ملك صقلية المتوفي و ابنة ملك إنكلترا ، و معروف أن ملوك صقلية بعد أن احتلوها من المسلمين كانوا متسامحين فقربوا علماء المسلمين و أشهرهم الإدريسي لذلك ظل المسلمون يمارسون حياتهم الاعتيادية كأبناء لهذه الجزيرة حتى صارت الجزيرة معبراً هاماً لمرور الحضارة العربية إلى أوربا . لكن في فصل جوانا نكتشف أن رياح التعصب بدأت تعصف بالمسلمين في هذه الجزيرة لا سيما بعد أن استرد صلاح الدين بيت المقدس . تأتي جوانا مع أخيها ريتشارد إلى سواحل عكا و تقترح على أخيها أن يزوجها الملك العادل حقناً للدماء .
يتابع الروائي رسم الشخصيات ليكتمل جو الرواية مع الملك ريتشارد و اتفاقية استسلام عكا بعد أن انهارت مقاومتها و تكاثر عليها ملوك الفرنجة و لم يعد صلاح الدين بقادر على إمدادها بالمؤن و الرجال . لكن هذا الاتفاق الذي ضمنه ملوك الفرنجة ينقضونه في نهاية الرواية ليصبح مشهد المجزرة المروعة التي ارتكبها الملك ريتشارد على أسوار عكا هو مشهد الختام في الرواية .
(( بعد ذلك بيوم واحد، وكان يوم الثلاثاء العشرين من آب من عام 1191، وبين صلاة الظهر وصلاة العصر، خرج ملك الإنكتار الذي يسمونه عندنا بالملك ريشار ويطلق عليه أهل ملته ريتشارد، خرج بمن معه من الخيالة والرجالة وضار بي الطبول والأبواق، يرافقه عدد كبير من الملوك والأمراء ومن معهم من الجند، خرجوا جميعاً من عكا، وقطعوا المسافة مابين تل المصلبين وبين تل كيسان، ثم وصلوا تل العياضية حيث كان مولاي يرابط في خيمته لمدة عامين متتالين، الملك ريشار ومن معه من الجند كانوا يجرون وراءهم ثلاثة آلاف أسير مسلم، قضوا سنتين من أعمارهم المباركة يدافعون عن عكا، كانوا يرسفون في أغلال من الليف والزرد.
وما إن وصل ريشار إلى تل العياضية، حتى اصطف العسكر صفوفاً صفوفاً، ثم وضعوا الأسرى أمامهم، ثم تحدث راهب ما، ثم انطلق جنودهم إلى الأسرى، كل جندي استفرد بأسير، اشتدت ضربات الطبول واشتد نعير الأبواق، وبإشارة واحدة من الملك ريشار، هوت السيوف على رقاب الأسرى، دفعة واحدة، ثلاثة آلاف رأس من على أكتافها إلى الأرض، دفعة واحدة، هوت الأجساد إلى التراب، ترتجف ارتجافاً عظيماً، صارت الأجساد التي بلا رؤوس تنتفض وتتقلص وكأنها تتشبث بآخر خيط من هواء عكا.
الدم الذي كان يشخب من الرقاب، غطى التراب، كان كثيفاً وقانياً وله لمعان، وفاحت في الجو رائحة تبعث على الدوار.
الملك ريشار، ملك الإنكتار، رفع يده فتوقفت الطبول والأبواق، نظر حواليه رأى الجند والأعلام والخيول والتلال ومدينة عكا يحضنا البحر، نظر إلى الدماء التي غطت تل العياضية، شد هواء عكا إلى صدره وقال:
ـ الآن أستطيع القول إننا انتصرنا!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!))
و هذا المشهد الذي اختاره الروائي ليكون خاتمة لعمله ينفتح على الحاضر . و كأن الصرخة التي تنطلق من ريتشارد بعد أن نفذ مجزرة الأسرى و هو يشد هواء عكا إلى صدره ، كأن هذه الصرخة ما زال صداها يتردد على أودية و سهول و جبال بلاد الشام و العراق .
الجمل
إضافة تعليق جديد