قناطر معهد العالم العربي تصل بين الشرق والغرب

10-12-2008

قناطر معهد العالم العربي تصل بين الشرق والغرب

لما كان كل عمل عربي مشترك محكوما بالتماوت أو بالحياة خجلا, سيكون من دواعي السرور العربي أن يستعيد معهد العالم العربي في باريس عافيته المالية, ليستأنف نشاطاته بما يحقق الأهداف المرجوة منه كواجهة للعالم العربي في باريس بلد النور والثقافة, وبحسب المثقفين الأميركيين لا تكتمل ثقافة المبدع اذا لم يزر باريس, ومعهد العالم العربي الذي تتقاسم نفقاته الدول العربية قاطبة مع فرنسا , عانى الأمرّين خلال عشرين عاما من عمره, بسبب تخلف بعض الدول عن دفع مستحقاتها, وتردد بعضها الآخر, اذ كان وربما ما زال في آخر سلم اهتمامات الأنظمة العربية, المشغولة بتثبيت أركانها الثابتة. ومعاناة معهد العالم العربي كما فهمنا من كلام رئيس المعهد دومينيك بوديس خلال مؤتمر صحفي عقده في باريس ليس فقط شح الموارد المالية التي تتكفل بها 21 دولة عربية من جانب وفرنسا من جانب آخر!!, وانما أيضا من سوء الادارة السابقة, التي ترك أمرها للقضاء.
وقد كان نبأ سعيد فعلاً اعلان السيد بوديس ان المعهد سيشهد في العام 2009 ثالث سنة على التوالي لا تسجل فيها ميزانيته عجزا وأن ليبيا والعراق باشرا تسديد مساهماتهما المتخلفة والمقدرة بـ15 مليون يورو ودفعت ليبيا أخيراً مليوني يورو وتعهدت بدفع ثمانية ملايين اضافة مليونين لتمويل معرض للتراث الليبي, وكما سيسعى العراق الى اتفاق مماثل وقد سدد مليون يورو, وبدوره اليمن تعهد تسديد مساهماته, وعبر بوديس عن أمله وأملنا أيضا أن تكون جميع الدول المؤسسة لمعهد العالم العربي قد سددت دينها في غضون سنتين أو ثلاث سنوات.
الزائر العربي للمعهد الكائن في المنطقة الخامسة وسط باريس, يذهله ضخامة هذا الصرح المعماري, بكامل مفرداته الحداثوية المطعمة بالتشكيل العربي الشرقي, بالقدر ذاته الذي يذهله اهمال العرب لهذه المنارة الثقافية, وبدل أن تعاني فائض المال وتحتار ادارتها بالأنشطة التي يجب اقامتها لتقديم الثقافة العربية للأوروبيين, نراها تعاني العوز والفاقة وتبحث عن طرق تمكنها من تأمين تمويل ذاتي, تمد في عمر المعهد, في الوقت ذاته الذي تشهد جماهير المثقفين العرب من المحيط الى الخليج عمليات تبديد الأموال العربية على فضائيات وصحف ومجلات وشركات فنية اقل ما يقال فيها أنها انشئت عن سابق اصرار وتصميم لتدمير العقل العربي, ولتسخيف الفعل الثقافي وتخريب الذائقة العامة.
ومع أن كلامنا هذا لا يهدف الى تضخيم أهمية معهد العالم العربي في باريس ودوره, وانما فقط للتوقف عند هذه المفارقة الفاقعة مع توخي الحذر من الحديث عن مؤامرة ينم عنها التعاطي السوريالي مع الشأن الثقافي العربي, والذي يثير مزيداً من الدهشة والتعجب أن العرب الذين يتعاملون مع الثقافة كسقط متاع, مهمومين بالبحث عن أسباب ووسائل تحسين صورتهم في الغرب!!
إطلاق مشروع «قنطرة» الذي يظهر تكاملا حضاريا عريقا بين الشرق والغرب من خلال ضفتي المتوسط الغربية والشرقية والذي يهدف الى تعزيز هذا التكامل أو شبه «التوأمة» الحضارية بين الضفتين, كانت مناسبة لتجديد الشعور بالفخر بالانتماء للحضارة العربية على الضفة الجنوبية للمتوسط, فالكنوز والآثار والتراث تكشف عن حجم التأثير والتأثر والتفاعل بين الشمال والجنوب, وتؤكد أن الشعوب العربية ليست شعوباً نكرة, فقد ساهمت في الحضارة, وصورتها لا تحتاج الى تحسين وانما الى كشف والقاء ضوء عليها, لنعرف نحن قبل الآخر من نحن وأبناء أي حضارة, قبل أن تنسى الأجيال الناشئة أصلها تحت وطأة الحروب والانتهاكات المتواصلة لماضيها وحاضرها.
وعلى صعيد شخصي داعبت روحي مشاعر الفخر وأنا أسمع في حفل الافتتاح عازفة البيانو السورية المبدعة رشا عرودكي, وهي تعزف مقطوعات كلاسيكية بحس شرقي بالتناوب مع عازف العود التونسي... إلا أن هذه المشاعر سرعان ما تلاشت عندما سمعتها ترد على تهنئتي لها بالأداء الرائع بأنها تتمنى لو تدعى الى بلدها سوريا كي يسمعها أهل بلدها, لقد وعدت بدعوة وتم تطنيشها الى أجل غير مسمى كالعادة.
ونعود الى مشروع قنطرة وأهميته كجزء من «برنامج التراث المتوسطي الذي يطمح للإسهام في التفاهم المشترك بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط... وذلك من خلال تقويم واعلاء ارثه الثقافي... يهدف هذا المشروع الى ترقية الحوار الثقافي... وتنمية التراث التاريخي والثقافي المشترك لمنطقة أوروبا المتوسطية ذلك عبر التبادل الانساني والعلمي».
وعدا الكتاب الضخم الذي أصدره المعهد بأربع لغات الفرنسية والعربية والاسبانية والانكليزية, هناك سلسلة معارض تقام في سبع من الدول المشاركة, بالإضافة موقع انترنت باسم قنطرة بمثابة متحف افتراضي يوثق بمدونة مؤلفة من 1000 مرجع : تحف, مواقع أثرية, صروح وهياكل, وهندسة معمارية ومكنز مؤلف من 100 مدخل موزعة على ثلاثة مواضيع: التاريخ والمعدات التقنية والثقافة وبطاقات اشترك في تأليفها أكثر من 200 متخصص. بحيث جاء المشروع نتيجة عمل مشترك على امتداد أربع سنوات تقريبا. بين ثمانية بلدان €الجزائر والأردن ولبنان والمغرب وتونس واسبانيا وفرنسا , مع مصر كبلد مضيف€. ومع القائمين على المشروع مدركين ان البلدان الثمانية ليست البحر المتوسط بكامله, لكنهم يرون أن البلدان الغائبة عن التنظيم حاضرة في صميم المضمون نظرا لأنها تحوي وتبرز قيمة التراث المتوسطي وتحميه كما انها تسقطه على الحاضر. وعلى هذا النحو تمثلت ايطاليا واليونان وبلدان البلقان وتركيا وسوريا وأقيمت الصلة مع تراث كل منها.
ومن المؤسف أن هذا المشروع لم يكن ليتم اطلاقه لولا الدعم والتمويل من الاتحاد الأوروبي, الذي كان له المساهمة الأكبر التي شجعت باقي الرعاة, مع ان فكرة المشروع ليست جديدة, لكنها لم تلق الرعاية اللازمة الا بعدما أطلقت فرنسا ساركوزي مشروعها «الاتحاد من أجل المتوسط», وجاء مشروع قنطرة منسجما مع فكرته السياسية التي تتمحور حول ايجاد هوية متوسطية مشتركة. ولأن أوروبا تعرف كيف تورد الابل أخذ المشروع أبعاده السياسية الأوروبية. أما العرب وأبعاد سياستهم فليس عليها سوى متابعة غفوتها في فيء القنطرة, تيمناً بالأغنية الفيروزية «تحت القناطر محبوبي ناطر وكسر الخواطر ما هان عليي».

سعاد جروس

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...