لماذا تموت الحضارات الدينية ؟
تدور عجلة التاريخ على الحضارات التي تولد، وتنشأ، فتزدهر، ثم تنحدر، وتنهار، فتموت، والأمثلة عديدة، بدءاً من الممالك الاميركية - الهندية، الى روما الامبريالية، مروراً ببيزنطيا المتباهية بالعظمة والكبرياء، الى الاندلس الثرية، الى الصين الكونفوشيوسية البارعة، وصولاً الى أوروبا الروحانية في عصر الأنوار... فماذا بقي منها اليوم الاّ عبرة تفيد أن حضارة لا تثق مطلقاً بنفسها، ولم تعد قادرة على الدفاع عن قيمها، فتفقد روحانياتها، وتستبدل الايمان بالوثنية، محكوم عليها، عاجلاً أو آجلاً أن تودّع مسرح العالم، وتغيب في غياهب التاريخ، الذي يكتبه المنتصرون وحدهم.
لماذا تموت الحضارات؟
ثمة إجابات عديدة، ومن البديهي القول إنه طالما هناك حضارات تولد، فهنالك حضارات تنهار وتموت، من سومر، الى مصر الفرعونية، الى قرطاجة الفينيقية... الى الحضارات (الدينية) المعاصرة؟ مَن يدري؟
أ- أسباب مناخية:
الحضارات هي ايضاً ضحية المناخ، والوثائق الاركيولوجية والتاريخية مليئة بالامثلة عن الحضارات التي اندثرت فجأة، وعن المجتمعات التي تخلّت عن ممتلكاتها وأراضيها، وبدلت أمكنتها، واعتمدت طريقة جديدة للتنظيم السياسي. وقد شهدت الحضارات الاكادية في ميزوبوتاميا، وحضارة مصر الفراعنة، ووادي الإندوس، والحضارات الفلسطينية، واليونانية، والكريتية، ازدهاراً اقتصادياً نحو العام 2300 ق. م. وماتت في العام 2200 ق. م. إثر جفاف وصقيع كارثيين أديا الى الانهيار الكامل لتلك المناطق.
ب - أسباب صحية:
ضربت أمراض قاتلة سكان قبائل الأزتيك فحصدت الكبار والصغار، فانخفض عدد سكان الهنود في المكسيك من 20 مليوناً الى 750 ألفاً فقط، وهي أرقام تفيد عن سقوط الانسانية أكثر من الحديث عن اندثار حضارة ما!
ج - أسباب فكرية:
إن الحضارات التي بُنيت على فكرة أو مبدأ ما في عصر معين زالت، لأن الفكرة فقدت أهميتها بموت صاحبها، فطمرها النسيان، من الاسكندر الكبير، والفرس، والهللينيين، وآتيلاّ وحلمه بأمبراطورية عالمية، وتيمور من سمرقند، والمونغول، وغيرهم، فماتت الحضارات سريعاً. رغم ذلك، ثمة حضارات لم تفقد كل شيء، فالحضارة الفرعونية لا تزال تغذّي أحلامنا، فاكتشاف القبور الفرعونية لا يزال يُدهش العالم، كما أن روح أثينا لا تزال تفعل في العالم منذ أكثر من 20 قرناً، حين انطلقت الـPhilosophia على ضفاف بحر إيجه.
د - أسباب دينية - روحية:
-1 سقوط روما: إثر انهيار الامبراطورية الرومانية، علّمنا التاريخ أن الحضارات تموت كلها، وهو موضوع أسال الكثير من الحبر، فكتب فيه عدد كبير من المؤرخين والمفكرين، من بينهم Edward Gibbon، الذي حمّل المسؤولية للدين المسيحي، بينما رد غيره ذلك الى أسباب اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية... والبعض قال إنها ماتت والسبب وقوعها في أزمة وجودية - روحية!
-2 سقوط القسطنطينية: كانت الحملة الصليبية الرابعة معدّة لمهاجمة مصر، لكنها حادت عن هدفها، فهاجم الصليبيون مدينة مسيحية، كانت تُدعى "ملكة المدائن"، وهي واحدة من أغنى المدن في عصرها وأكثرها شهوانية، فسرقوا منها أكثر من 300 ذخيرة مقدسة، من بينها إكليل الشوك الذي كلّل رأس السيد المسيح، وعصا موسى... فباعوها ليكملوا بناء أديرة وكنائس وغيرها في دولهم.
-3 سقوط الأندلس: حكم العرب الأندلس سبعة عقود من عام 711 الى 1492، فأسسوا حضارة برز منها مسجد قرطبة، وقصر الهمبرا في غرناطة، وكتبوا مرحلة مهمة من تاريخ الغرب. وفي الأندلس، عاش أتباع الديانات التوحيدية الثلاث في تناغم وسلام، في مرحلة نادرة من وجودهم وعيشهم معاً. لكن الخلافات العميقة بين المدن، وافتقار الحكام الى الروحانيات، ساهم في تفكيك القضية الأندلسية، وهو موضوع الكتاب الشهير لـ Pierre Guichard، في منشورات دار هاشيت الفرنسية، في العام 2000.
هل الاسلام في أزمة؟
في كتابه L'islam en crise، الذي صدر في طبعته الفرنسية في منشورات غاليمار في العام 2003، رأى الباحث برنارد لويس "أنّ أفعال أسامه بن لادن والطالبان توحي بانهيار حضارة لعبت دوراً رائعاً... متسائلاً مع ذلك: لماذا الرحّالة الذين اكتشفوا اميركا أبحروا من اسبانيا وليس من مرفأ بلد إسلامي؟ ولماذا الاختراعات والاكتشافات العلمية حصلت في اوروبا، وليس في احد البلدان الاسلامية، الوافرة الثروات والنمو والتنوير"؟
وفي رأي عدد من الباحثين أنّ الحضارة الاسلامية انتشرت في العصور الوسطى بشكل واسع، فازدهرت صناعة وتجارة وفكرا وحرية، واحتمى بها عدد من المضطهدين اليهود والمسيحيين المنشقين وغيرهم. وكان الاسلام في الماضي رائداً في مجالات العلم والحرية والتطوّر الاقتصادي، مما دفعهم الى طرح السؤال الآتي: ماذا فعل الاسلام بالمسلمين؟ وتساءل عدد آخر: ماذا فعل المسلمون بالاسلام؟!
لقد شكّل التطرّف الاسلامي مشكلة كبيرة وشوّه الدين في عيون العالم كلّه، والسبب اللجوء الى الارهاب. ويتساءل الباحثون المسلمون: أين الخلل؟ والاجابة شقّان: أوّل، على مثال ايران والمملكة السعودية، وكل منهما، على طريقته، يدعو الى العودة الى الإرث الاساس للدين، وتبنّي الماضي... وشقّ ثان يدعو الى انشاء ديموقراطية علمانية، على مثال الجمهورية التركية التي أسّسها كمال اتاتورك...
أزمة المسيحية الاوروبية؟
في كتابه après la démocratie، في منشورات غراسّيه الفرنسية، استنتج Emmanual Todd "أن العالم اليوم يعاني فراغاً دينياً، وغياب المعتقدات السموية، فقد سقطت آخر المعاقل الكاثوليكية في فرنسا عام 1960... لذلك زالت المسيحية الاوروبية من الوجود، والاسلام بدوره يتهيّأ بلا شك كي يزول. وهنا يكمن قلق المسلمين. إنه قلق الغد، قلق الفراغ الذي نواجهه في أوروبا"! وهل ينفع بأن نتغنّى بعد بأن أوروبا جذورها مسيحية؟!
أزمة دور فرنسا؟
درس عدد من الأكاديميين والجامعيين اسباب عظمة فرنسا في الماضي، ثم تراجعها تدريجاً عن دورها الريادي الذي لعبته بين الأمم. وخلص هؤلاء الى القول أن الامر المؤكد هو أن فرنسا لم تعد تفرض إيقاعها على العالم، بل العكس هو الصحيح اليوم، والسبب يكمن في فقدان معنى حياة مجتمع لا هدف له الاّ ذاته، وفي فقدان الفرح، كما قال يوماً Tocqueville. لقد انهار مجد فرنسا ابتداء من العام 1789 عندما تخلّى الفرنسيون عن حبهم للفرح، فأفسحت فرنسا في المجال لعظمة انكلترا، ولاحقاً للولايات المتحدة الاميركية.
جان صدقة
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد