مئة سنة على ولادة حسن البنا
ذات يوم سألنى صحفى : متى يخون السياسى فكرته ؟ قلت: «يخونها عندما يقدسها، فالأفكار نبت إنسانى ولأنه إنسانى لا يمكن أن يكون مطلق الصحة». كان هذا فى الماضى ويكون فى الحاضر وسيكون فى المستقبل وقد حرص أئمة المسلمين وفقهاؤهم على تأكيد ذلك.
الاامام لشافعى قال : رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب. والإمام أبو حنيفة قال: رأينا هذا هو أفضل ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه. الإمام مالك قال : كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد، ماعدا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر الرسول «صلى الله عليه وسلم». ونقارن ذلك بمقولة للأستاذ حسن البنا، إذا تحدث عن منهج جماعة الإخوان فقال «على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج كله من الإسلام، وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة».
ونتأمل المفردات المطلقة «كل مسلم» «كله من الإسلام» «كل نقص منه». ونتأمل المعنى والمغزى فالأستاذ البنا يرى أن برنامج جماعته كله من الإسلام، فإن رأى إنسان، أو تجاسر أن يزعم، بأن ثمة خطأ فى هذا البرنامج فإنه يعنى أن الإسلام خطأ، وإن تجاسر بالقول بأن، فيه نقصا فإن ذلك يعنى نقص الفكرة الإسلامية الصحيحة. وكل تلاميذ الأستاذ البنا يفعلونها، فالأستاذ صالح عشماوى يقول «إن أى اضطهاد للإخوان هو اضطهاد للدين ذاته». كذلك فعلها الأستاذ «عبد القادر عودة» إذ ألقت الحكومة القبض على عدد من الإخوان فى عام 1954 فوقف صائحا فى إحدى المظاهرات «الإسلام سجين». والأمر ليس مجرد حماس لفظى، ولو كان كذلك لهان الأمر ولما أعرناه اهتماما. ذلك أن الجماعة ظلت على الدوام ولم تزل مصممة على الخلط بين «الدين المطلق الصحة وبين اجتهادها هى: وهو لا اجتهاد إنسانى ومن ثم فهو نسبى الصحة». وإذ تعتبر الجماعة أن منهاجها هو الدين ذاته فإن كل من يرى فيه عيبا يكون معاديا للإسلام ذاته، وكل من ينتقده يكون منتقدا للإسلام ذاته. ثم يكون ما يترتب على ذلك من مفردات ومن اتهامات.
وينسون أو يتناسون قول على بن أبى طالب «القرآن لا ينطق وهو مكتوب، وإنما ينطق به البشر، وهو حمال أوجه». فللقرآن عندهم فهم واحد، ووجه واحد.. وهو ما يقولون هم به، وعلى الجميع الخضوع لما يقولون.. وإلا تم إخضاعهم. وللإخوان تقاليد قديمة فى إخضاع المخالف، وهى تقاليد تبدأ باتهامه بالمروق والإلحاد وتنتهى باستخدام القوة.
والأمر لا خفاء فيه.. فهكذا كان دوما.
وعندما اصدرت الجماعة مجلة النذير «1358هـ - 36/1937م» حرص الشيخ «عبد الرحمن الساعاتى» والد المرشد العام الأستاذ حسن البنا على كتابة افتتاحية صاعقة قال فيها «استعدوا يا جنود، وليأخذ كل منكم أهبته، ويعد سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، وامضوا إلى حيث تؤمرون» ثم «خذوا هذه الأمة برفق فما أحوجها إلى العناية والتدليل، وصفوا لها الدواء فكم على ضفاف النيل من قلب مريض وجسم عليل، واعكفوا على إعداده فى صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأمة أبت فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم فى جسمها عضوا خبيثا فاقطعوه، أو سرطانا خطيرا فأزيلوه». «استعدوا يا جنود فكثير من أبناء هذا الشعب فى آذانهم وقر وفى عيونهم عمى».
هل تحتاج هذه العبارة إلى تفسير؟
- خذوا هذه الأمة برفق فما أحوجها إلى التدليل.
- صفوا لها الدواء - أعدوه فرقة الإنقاذ منكم، أى هم وحدهم يصفون الدواء ويصنعونه ويجرعونه للأمة.
- فإن الأمة أبت ؟ لا شىء سوى العنف وهكذا نرى أن الخلط بين الدين والرأى الإنسانى فى أمور الدين هو أمر مخيف لأنه الخطوة الأولى فى طريق العنف والإرهاب.
وهو جوهر الاستعلاء بأفكارهم وممارساتهم واعتبارهم المصدر الوحيد للصحة المطلقة. ولأن أفكارهم هى وحدها كانت وتكون، وستكون صحيح الإسلام فإنها دوما صحيحة ولا يمكن مراجعتها، بل يتعين استعادتها. وهذا ما يجعل كتابتنا عن الأستاذ حسن البنا أمرا ضروريا لأنها تقدم مرآة للماضى والحاضر معا، بل المستقبل أيضا.
فإذا قرأنا فى وثيقة إخوانية كانت ضمن مضبوطات قضية سيارة الجيب، وهى مضبوطات تخص الجهاز السرى للجماعة، وهو بالمناسبة الجهاز الحاكم فى الجماعة الذى افرز لها أكثر من مرشد عام «الأستاذ مصطفى مشهور والأستاذ مهدى عاكف». وإذا قرأنا عبارات أذهلت وكيل النائب العام المحقق فى القضية المستشار عصام حسونة «وزير العدل فيما بعد» إذ تحدث بصراحة مستندة إلى سرية الجهاز وسرية الوثيقة ليقول «إن القتل الذى يعتبر جريمة فى الأحوال العادية، يفقد صفته هذه ويصبح فرضا واجبا على الإنسان، إذا استعمل كوسيلة لتأييد الدعوة، وإن من يناوئ الجماعة أو يحاول إخفات صوتها مهدر دمه وقاتله مثاب على فعله». إلى كل هذا التراث الفكرى يستند الأستاذ مهدى عاكف المرشد العام الحالى إذ يصرح لمجلة «المصور» فى كبرياء لا يعرفه الإسلام «الإخوان لا يعتذرون». وهى تساوى «أن الإخوان لا يخطئون» و«الإخوان معصومون» وما هذا بصحيح ولو بأقل قدر. وإذا كان الأمر متعلقا بهم وحدهم فهذا شأنهم. لكنه متعلق بالرؤية الصحيحة للإسلام، ومتعلق بالوطن وأمنه واستقراره. لأنهم إذ يرفضون أية رؤية نقدية لماضيهم، فإنهم وفى نفس الوقت يمجدون ذلك الماضى ويسعون لاستعادته.
وتكون استعادته وبالا على الوطن كله.
وحتى فى موضوع مثل «الجهاز السرى الإرهابى» الذى شكله الأستاذ البنا وهو فى أوج تقربه من الملك فاروق ونظامه. فإنهم يكررون دون ملل أنه إنما أنشئ للمحاربة فى فلسطين. وطبعا لا يمكن لأحد منهم أن يجيبك: هل لم يزل هذا الجهاز موجودا حتى الآن أم لا ؟ وقد ظل الأستاذ البنا - وكذلك أتباعه حتى اليوم - يبررون وجود الجهاز السرى المسلح بالاستعداد للحرب فى فلسطين، لكن الأستاذ أحمد عادل كمال وهو واحد من قادة ومؤسسى الجهاز السرى يكشف لنا فى مذكراته عن حقيقة هذا الأمر، وكيف أن موضوع فلسطين كان مجرد غطاء يتخفى خلفه هذا النشاط الإرهابى. فهو يروى قصة القبض على مجموعة من أعضاء الجهاز السرى فى جبل المقطم خلال قيامهم بالتدريب على استعمال الأسلحة: «وكان الترتيب أن يكون هناك بصفة دائمة وفى مكان مرتفع من يراقب المجال بمنظار مكبر، وكانت هناك حفر معدة ليوضع بها كل السلاح والذخيرة ويردم عليها لدى أول إشارة من الأخ الذى يتولى المراقبة.. وبهذا تبقى المجموعة فى حالة معسكر عادى وليس معها ممنوعات، واستمر ذهاب المجموعات وعودتها بمعدل مرتين كل يوم ولمدة طويلة، ولكن حدث فى 19 يناير 1948 أن أغفل الأخ المكلف بالمراقبة أداء واجبه ففاجأ البوليس هذه المجموعة بسلاحها وقنابلها. وحتى حالة كهذه كان هناك إعداد لمواجهتها فقد أجاب إخواننا المقبوض عليهم بأنهم متطوعون لقضية فلسطين، وهى إجابة كان متفقا عليها مسبقا».. أى أنهم لم يكونوا يتدربون لحساب القضية الفلسطينية فلو كانوا كذلك لما احتاج الأمر إلى اتفاق مسبق على هذه الإجابة..
ثم تكتمل أدوات الخديعة إذ يقول : «وفى نفس الوقت كانت هناك استمارات تحرر بأسمائهم فى مركز التطوع للقضية الفلسطينية، «أى أنهم لم يكونوا متطوعين فعلا». ثم.. «كما تم الاتصال بالحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين وشرحنا له الأمر على حقيقته وكان متجاوبا معنا تماما فأقر فى التحقيق بأن المقبوض عليهم متطوعون من أجل فلسطين، وأن السلاح سلاح الهيئة العربية العليا، وبذلك أفرج عن الإخوان، وسلم السلاح إلى الهيئة العربية العليا.
والحقيقة أن الأستاذ حسن البنا قد أتقن فن إقامة واجهات بريئة تختفى خلفها مكامن للإرهاب.. ونقرأ للأستاذ محمود الصباغ «ولم يقتصر تفكير النظام الخاص على التدريب على الأسلحة والقنابل التقليدية، بل فكر فى صناعة المتفجرات التى لا تتوافر فى الأسواق مثل قطن البارود، وقد تم إنتاجه بنجاح، وكذلك ساعات التوقيت التى تحدد وقت انفجار العبوة الزمنية، فقد تم تطوير الساعات العادية إلى ساعات زمنية لتفجير العبوات» ولكن كيف وأين تمت صناعة قطن البارود؟ يقول الصباغ «لقد اتجه تفكيرنا إلى إنتاج قطن البارود على نطاق واسع، وكان لابد لذلك من مكبس هيدروليكى كبير من نفس الحجم المستخدم فى صناعة البلاط، ومن ثم اتجه تفكيرنا إلى إنشاء مصنع للبلاط على أساس تجارى يضمن له صفة الاستمرار، وفى نفس الوقت يستخدم مكبسه فى إنتاج قوالب قطن البارود بالكميات التى تحتاج إليها العمليات. وقد قمت شخصيا بشراء المكبس الهيدروليكى من السوق، وتم إنشاء المصنع فى ميدان السكاكينى بالقاهرة بصفته أحد مصانع شركة المعاملات الإسلامية. وتعين كل عماله من أعضاء النظام الخاص، وأخذ فعلا فى إنتاج أجود أنواع البلاط، وأقوى أنواع قوالب قطن البارود». ترى.. خلف أية واجهات بريئة يتخفى الآن الخطر الكامن فى هذه الجماعة؟
وعلى أية حال.. فإنك إذا شددت عليهم النكير حول ما ارتكبته الجماعة من إرهاب.. فإنهم يبادرون بالقول بأن فضيلة المرشد المرحوم حسن البنا قد استنكر الأعمال الإرهابية. ثم يعودون إلى القول بأنهم لم يرتكبوا أى عمل عنيف منذ عام 1965. ولنحاول فحص هاتين المقولتين ببعض من أمثلة.. مذكرين وملحين أنها مجرد أمثلة. ولنبدأ بحادث اغتيال المستشار أحمد الخازندار.. فجميع الذين تحدثوا عن هذه الواقعة قالوا: إن فضيلة المرشد قد بكى من فرط حزنه على اغتيال المستشار، كما أنه أدلى بأكثر من تصريح يستنكر قتل القاضى. لكن تلميحات فى مذكرات الإخوان من أعضاء الجهاز السرى تشير إلى أن غضب الأستاذ البنا كان نابعا من أن عبد الرحمن السندى قائد هذا الجهاز قد أعطى أمر القتل دون إذن من فضيلة المرشد.
وعليه تشكلت محكمة إخوانية لمحاكمة السندى، ويروى لنا وقائع المحاكمة واحد من قادة الجهاز السرى، وكان ضمن أعضاء المحكمة الإخوانية، وهو الأستاذ محمود الصباغ.. ونقرأ ما يثير الدهشة، وما هو أكثر من الدهشة. قال عبد الرحمن السندى «إنه تصور أن عملية القتل سوف ترضى فضيلة المرشد، ولأن فضيلة المرشد يعلم عن السندى الصدق فقد أجهش بالبكاء» وعلى أية حال فإن هذه المحاكمة الهزلية قد انتهت بحكم هزلى هو أيضا.. فقد جاء فيه نصا «تحقق الإخوان من أن الأخ عبدالرحمن السندى قد وقع فى فهم خاطئ وفى ممارسة غير مسبوقة من أعمال الإخوان، ورأوا أن يعتبر الحادث قتلا خطأ، حيث لم يقصد عبدالرحمن ولا أحد من إخوانه سفك نفس بغير نفس، إنما قصدوا قتل روح التبلد الوطنى فى بعض أفراد الطبقة المثقفة من شعب مصر أمثال الخازندار، ولما كان هؤلاء الإخوان قد ارتكبوا هذا الخطأ فى ظل انتمائهم إلى الإخوان المسلمين وبسببه، إذ لولا هذا الانتماء لما اجتمعوا على الإطلاق ليفكروا فى مثل هذا العمل أو غيره، فقد حق على الجماعة دفع الدية التى شرعها الإسلام كعقوبة على القتل الخطأ». ثم يمضى الحكم إلى ما هو أكثر هزلا«وأن تعمل الهيئة كجماعة على إنقاذ حياة المتهمين البريئين «!» من حبل المشنقة بكل ما أوتيت من قوة، فدماء الإخوان ليست هدرا يمكن أن يفرط فيها أعضاء الجماعة فى غير فريضة واجبة يفرضها الإسلام» ثم وبعد ذلك «ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين جزءا من الشعب، وكانت الحكومة قد دفعت بالفعل ما يعادل الدية إلى ورثة المرحوم الخازندار بك حيث دفعت لهم من مال الشعب عشرة آلاف جنيه، فإن من الحق أن نقرر أن الدية قد دفعتها الدولة عن الجماعة. وبقى على الإخوان إنقاذ حياة الضحيتين«!» محمود زينهم وحسن عبد الحافظ.
فإذا أردنا مثالا آخر.. نأتى إلى محاولة نسف محكمة استئناف مصر كسبيل لتدمير أحراز قضية سيارة الجيب بكل ما فيها من وثائق تدين الجماعة. فعلى إثر هذه المحاولة الفاشلة أصدر الأستاذ حسن البنا بيانا هاجم فيه مرتكبى الحادث هجوما عنيفا توجه بقوله إنهم «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين» وأمام حدة الهجوم صدق البعض أقوال المرشد. لكن الأستاذ صلاح شادى وكان رئيس قسم الوحدات «وهو جهاز سرى آخر يضم أعضاء الجماعة من رجال الجيش والبوليس» يسوق لنا فى مذكراته وبنعومة شديدة ما يوحى بأن الأستاذ البنا كان هو الآمر بهذه الجريمة، فيقول :
«أبلغنى الأخ عبد الحليم محمد أحمد أنه كان من ضمن الأشخاص المكلفين بعملية نسف محكمة الاستئناف. وأن المرحوم سيد فايز هو الذى أمرهم بنفسه بتنفيذها، ومن جهتى فإننى أثق تماما فى عمق احترام سيد فايز لأوامر المرشد، كما أثق تماما فى صحة أقوال الأخ عبد الحليم محمد أحمد التى أكدها أيضا شفيق أنس الذى قام بمحاولة النسف وهذه شهادة مسلمين عدلين. وباختصار.. فإن الأستاذ صلاح شادى يحاول وبأسلوب رقيق ومغلف أن يتهم مرشده وإمامه بأنه الآمر بمحاولة إرهابية، ثم عاد فوصف مرتكبيها بأنهم ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين. أما الحجة الأخرى وهى أن الجماعة لم ترتكب عملا إرهابيا منذ عام 1965 فهى مجرد محاولة للطعن بالتقادم، والتقادم معروف فى القانون الوضعى الذى سنرى أن الإخوان يرفضونه أو إذا شئنا الدقة يعلنون التزامهم به على مضض ومن قبيل أن «الضرورات تبيح المحظورات». لكن الإسلام إذ يتطلب التوبة من الذنوب فإنه لايخضعها للتقادم إذ إن مرتكب الخطيئة ما لم يتب توبة نصوحا سيظل إثمه معلقا فى عنقه حتى يحاسب عليه يوم القيامة. والحقيقة أن التوبة فى الإسلام ليست مجرد توبة باطنية، فإن الخطأ إذا ما وقع علنا ودعا صاحبه الناس إلى أن يحذو حذوه، فإن التوبة الحقيقية تتطلب العلانية كى يرتفع عن الآثم إثم من اتبعوه إذ صدقوه وفعلوا فعلته.
لكن ما حيلتنا.. «الإخوان لايخطئون» ولهذا «فهم لايعتذرون». وقد أتقن الأستاذ البنا فنون المناورة بين القوى السياسية المختلفة، أو بالدقة تصور أنه اتقنها.
وكانت خطته فى ذلك ثابتة لا تتغير، فما أن يشعر بأن أحد أركان النظام يعانى من ضغوط شعبية حتى يتقرب منه زاعما أنه سيقدم له غطاء إسلاميا وجماهيريا، ومن هذه العلاقة غيرالمتوازنة استطاع البنا أن يحقق الكثير لجماعته. ففى مطلع الثلاثينيات كان الملك فؤاد يعانى من غضب شعبى عارم لاعتماده على حكومات الأقلية واعتدائه على دستور 1923، وخضوعه المهين للاحتلال.. وتقدم البنا ليمنح الملك المكروه شعبيا مبايعته وتأييده.
ويحاول الأستاذ صلاح شادى أن يفسر لنا أسباب اقتراب الأستاذ البنا من الملك فاروق، وسعيه لمقابلة الملك عام 1945، أى فى زمن كان الشعب المصرى يشن هجوما ضاريا على الملك وبطانته ويعتبره رمزا للفساد والإفساد فيقول: «لقد كانت فطنته تهديه دائما لتجنب العثار فى هذه المسيرة المليئة بالأشواك من كل جانب، وكان يعتقد أن مسئولية الداعية نحو الناس لا تنقطع إلا بانقطاع وسائل التبليغ» ومن ثم فلقد كان «يعمل فى كل وقت على التأثير على الملك حتى يحمله على انتهاج سياسة إسلامية تتسق مع دعوته، وكان يظن أن لقاءه معه سيحقق له هذا الأمل». إلى هنا والأمر لايعدو أن يكون اجتهادا سياسيا، قد يكون خاطئا لكنه اجتهاد على أية حال، لكن الأستاذ صلاح شادى لايلبث أن يكشف الغطاء عن مراوغة واضحة فيقول: «أن حسن البنا لم يحمل ولاء للملك ولا للنظم القائمة» ونعود فنراجع كل أساليب التملق التى ساقها حسن البنا تقربا إلى الملك وحاشيته، ثم نفسرها بهذه العبارة. فحسن البنا الذى أمر الآلاف من أتباعه كى يحتشدوا فى ساحة قصر عابدين هاتفين «الله مع الملك» ومعلنين له «نهبك بيعتنا» لم يكن فى نظر أحد أقرب المقربين منه «يحمل ولاء للمك ولا للنظم القائمة». وعندما كان الطاغية إسماعيل صدقى يجهد نفسه فى محاولة ضرب الحركة الوطنية المصرية وفيما كانت الجماهير تغلى غضبا منه ومن جرائمه.. أعلن حسن البنا تأييده لصدقى ونال مقابل ذلك الكثير.
لكن من اعتاد على المناورة، ومن اعتمد عليها، يبقى مغرما بها. فبعد شهر عسل لم يدم طويلا بين البنا وإسماعيل صدقى، وقع الخلاف. وقرر البنا تخويف صدقى وإشعاره بقوة الإخوان. فقرر القيام بعدة عمليات إرهابية، وكلف الجهاز السرى بذلك ويروى الأستاذ محمود الصباغ وكان واحدا من قادة الجهاز السرى فى تفاخر مثير للدهشة تفاصيل ما قاموا به. «قمنا بتفجير قنابل فى جميع أقسام البوليس فى القاهرة فى يوم واحد هو 3-12-1946 حيث فجرت أقسام الموسكى والجمالية والأزبكية ومصر القديمة وعابدين والخليفة ونقطة السلخانة ومركز إمبابة.
ثم تمتد عملية التخويف إلى حلفاء إسماعيل صدقى فى الحكم «وعمد النظام الخاص إلى إرهاب الحزبين اللذين منحا صدقى باشا الأغلبية البرلمانية، فألقى قنبلة حارقة على سيارة محمد حسين هيكل باشا وقام بذلك الإخوانيان أحمد البساطى ومحمد مالك، وكان قد تقرر إلقاء قنبلة على سيارة النقراشى باشا ولكن لم يتم التعرف على السيارة». وهكذا ناور حسن البنا - أو خيل إليه- بين الجميع، وكسب من الجميع، لكنه وفى نهاية الأمر وعندما كانت محنة الشيخ ومحنة الجماعة اكتشف - وإن كان متأخرا جدا - أنه إذ تصور إنه يتلاعب بالجميع كان الجميع يتلاعبون به. والغريب أن تابعيه وتابعى تابعيه حتى الجيل الحالى من الإخوان لايملون من تكرار هذه اللعبة غير المبدئية التى أثبتت دوما أنها لعبة خاسرة.
والحقيقة أن «الإسلام» الذى دعا الأستاذ حسن البنا رجاله إليه هو إسلام من نوع خاص. إسلام لا يستند إلى الدراسة والمعرفة، ولاحتى إلى حفظ القرآن الكريم، ولا إلى محاولة تفهم التعاليم والأوامر والنواهى، إنما إلى مجرد قشور تكون مجرد المبرر للطاعة العمياء «فى المنشط والمكره». وحجتنا فيما نقول هى مسلك الأستاذ البنا ورجاله إزاء «مسألة التعمق فى دراسة الفقه الإسلامى».
الأستاذ محمود عبد الحليم فى كتابه «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ- رؤية من الداخل» وهو المرجع التاريخى المعتمد من جانب الجماعة. «لأن المؤلف واحد من أوائل المؤسسين للجماعة ومن أقرب المقربين من الأستاذ البنا». يقول «كان الكثيرون من أصدقائه «حسن البنا»، ومن عارفى فضله من العلماء يحثونه على تأليف كتب فى التفسير وفى مختلف فنون الإسلام، ويلحون عليه فى ذلك حرصا منهم على تزويد المكتبة الإسلامية بنظرات عميقة وأفكار غير مسبوقة، ولكنه كان يقول: دعونى من تأليف الكتب، فالمكتبة الإسلامية متخمة بالمؤلفات فى جميع العلوم والفنون، ومع هذا فإنها لم تفد المسلمين شيئا حين قعدت هممهم وثبطت عزائمهم وركنوا إلى الدعة والخمول. والوقت الذى أضيعه «لاحظ أضيعه» فى تأليف كتاب، استغله فى تأليف مائة شاب مسلم يصير كل منهم كتابا حيا ناطقا عاملا مؤثرا. أرمى به بلدا «لاحظ أرمى» من البلاد فيؤلفها كما ألف هو»
ونحاول أن نتأمل هذه العبارات فهى كاشفة.. فالأستاذ البنا كان يقيم حزبا سياسيا مجرد حزب سياسى «يرمى» به البلاد، وما الإسلام إلا قشرة جاذبة. ويعود الأستاذ محمود عبد الحليم ليؤكد رؤية الأستاذ البنا قائلا: «إن الإسلام شقان: أحدهما للمعلومات والآخر للتنفيذ والتطبيق، ولم يشغل الشق الأول بكل ما فيه من حياة الرسول «صلى الله عليه وسلم» وحياة الرعيل الأول معه إلا جزءا من ألف جزء شغلها الشق الأخير». ولعلها المرة الأولى التى نشهد فيها هذه الاستهانة بدراسة التعاليم والفقة الإسلامى الذى أسماه سيادته «المعلومات».. كما أنه لم يفسر لنا كيف سيكون التنفيذ بدون «معلومات».. ثم يؤكد وما كان الصحابة رضوان الله عليهم، على علو قدرهم، يعرفون من الأحكام الفرعية فى الدين عُشر ما يعرفه الآن طلاب المراحل الأولى من الدراسة الأزهرية، ولكن حياتهم مع ذلك كانت ممارسة عملية لما تعلموه من المعلومات الأساسية القليلة من أحكام الدين، فكانوا يتحركون للدين ويسكنون للدين، ويفرحون للدين ويغضبون للدين» ويمضى قائلا «فالإسلام ممارسة وعلم وصبر وجهاد قبل أن يكون معلومات يتعمق فى دراستها، ويتبحر فى الخوض فيها» تحديدا هذا هو نوع «الأخ المسلم» الذى أراده الأستاذ حسن البنا أقل قدر من «المعلومات» عن الدين، ثم ممارسة عملية.
لكن الممارسة لابد لها أن تستند إلى مرجعية.. والمرجعية هى «الطاعة» للمرشد فى المنشط والمكره. ولكى تكون الطاعة ممكنة فإنها تغطى بقشرة إسلامية، أما يسمونها «المعلومات الأساسية القليلة من أحكام الدين» ثم يكفيه بعد أن يتحرك، وبالدقة يجرى تحريكه لصالح الجماعة بدعوى أنه يتحرك للدين. ومن هنا كان بالإمكان إقناع شباب الجهاز السرى للإخوان بأن الإرهاب هو من الدين والقتل هو من الدين.. وأن الغضب على أعداء «الجماعة» هو غضب للدين. فالجهل بالدين كان عند الأستاذ البنا مقصودا لذاته فما كان بالإمكان أن يقبل شاب عارف بأحكام الشرع وعليم بتعاليم الدين أن يكون أداة فى يد الأستاذ المرشد، مجرد أداة تدار فتستدير. بزعم أنها «تغضب» للدين بينما هى فى واقع الأمر تغضب لمصالح حزبية أو شخصية ضيقة.
وطوال رحلة الشيخ والجماعة وقعت أحداث جسام. تلاعب فيها الشيخ بالمواقف السياسية وخيل إليه أنه يتلاعب أيضا بالسياسيين ابتداء من الملك إلى الاحتلال إلى رؤساء الأحزاب خاصة أحزاب الأقلية.. أقول خيل إليه لأن الآخرين كانوا يتلاعبون به، وفيما هو يمضى مغلفا بغرور بلا حدود كانت خيوط الشبكة العاتية يكتمل نسيجها. الإرهاب المبنى على فهم خاطئ للإسلام قاده إلى التصادم، فتمادى حتى صدر قرار حل الجماعة، فتمادى وصدر القرار باغتيال النقراشى رئيس الوزراء، بدعوى أن خصوم «الدعوة» هم خصوم للإسلام، وأن حل «الجماعة» هو قمة الكفر البواح. ومضت العمليات الإرهابية ومضت حملة الاعتقالات والضربات البوليسية الباطشة.. قبضوا على الجميع وتركوا الشيخ.. الإمام.. المرشد العام.. وحيدا مهيض الجناح.
ونأتى إلى الشيخ فى محنته القاسية كان الشيخ حسن البنا يعانى أكثر ما يعانى من حريته المفروضة عليه، وأكثر من مرة طالب خصومه بأن يضعوه فى المعتقل ولكنهم رفضوا فقد اختمرت لديهم فكرة تصفية الشيخ، تصفيته سياسيا أولا، وبعدها يصفى جسديا. وقد كان..
وفى حريته كان الشيخ أكثر عذابا من أتباعه المسجونين فقد تركوه محاصرا، عاجزا، ضعيفا، لقد انفرط عقد الجماعة، والجهاز السرى تقطعت خطوطه، والبناء الشامخ ينهار «ورهبان الليل وفرسان النهار» يتساقطون تحت آلة التعذيب ليدلوا باعترافات متكاملة تجر إلى الزنازين المزيد والمزيد من الإخوان. أما هو فقد حاصروا بيته واعتقلوا كل من يقترب منه، وصادروا سيارته فلما ركب سيارة صهره «عبد الحكيم عابدين» صادروها وسحبوا خط تليفون منزله. والشيخ الذى كان ملء السمع والبصر، أصبح يستجدى مقابلة مع رئيس الوزراء مقدما كل ما يستطيع من تنازلات، ويأبى رئيس الوزراء أن يقابله. وبالنسبة لرجل كحسن البنا، يكون وضع كهذا هو قمة المأساة. وتحرك الشيخ مهيض الجناح فى اتجاهين أن يسجل دفاعه عن نفسه وعن جماعته كتابة، وأن يحاول لعبة الوساطة والتنازل، لعله ينقذ شيئا من تحت أنقاض الجماعة. وكتب الشيخ آخر رسائله «القول الفصل» وشتان بينها وبين رسائله الأولى. واتهم البنا الحكومة أنها أصدرت قرار حل الجماعة تحت ضغط مذكرة ثلاثية تقدمت بها كل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا بعد اجتماع لممثليها الدبلوماسيين بفايد فى 6 ديسمبر 1948. وطالبت المذكرة بحل الجماعة.
وبعد أن سرد البنا أسبابا عديدة أخرى منها ستر الفشل فى فلسطين والإعداد لمفاوضات جديدة مع الإنجليز عاد ليركز على ما أسماه بالأصابع الخفية والدسائس «من ذوى الغايات الذين خاصموا الدعوة من أول يوم وتربصوا بها كاليهودية العالمية والشيوعية الدولية والاستعمار وأنصار الإلحاد والإباحية». وفى ختام «القول الفصل» قال البنا «وسنجاهد فى سبيل حقنا ما وسعنا الجهاد فإن أعوزتنا الحياة الشريفة العزيزة فلن يعوزنا الموت الكريم المجيد». لكن «القول الفصل» بقى مخطوطا ولم ير النور إلا بعد وفاة الشيخ. قلنا أن الشيخ قد لجأ إلى الوساطة، والصحيح أنه قد وقع فى مصيدة الوساطة، لقد استدرجوه خطوة خطوة، ليقدم تنازلا إثر تنازل وفى النهاية اغتالوه. وقد رفض عبدالهادى مقابلة الشيخ، ثم أحال الأمر إلى اثنين من أخلص أعوانه ليراوغا الشيخ ويستدرجاه أولا إلى مصيدة التصفية السياسية. ولنلق نظرة على الصائدين.. ثم على المصيدة. - الصائدان: مصطفى بك مرعى وزكى باشا على. - المصيدة: استدراج الشيخ إلى إصدار بيانات واتخاذ مواقف تدمر سمعته السياسية وتظهره بمظهر الضعيف أمام اتباعه وجماهيره، وتؤدى إلى تدمير معنويات الإخوان المحتجزين ثم فى النهاية تصفيته جسديا بعد أن يصفى سياسيا. لكن كيف كانت تجرى المفاوضات بين «الصائد» و«الصيد».. وكيف كان الشيخ المقصوص الأجنحة يجر جرا إلى المصيدة؟
ولنستمع إلى شهادة أقرب المقربين إلى حسن البنا «أخو خديجة» كما أسماه يوما ما، صهره عبدالكريم منصور، أنه يستخدم نفس التعبير - بل لعلنا استعرناه منه - «... وعلاوة على ذلك استخدمت الحكومة الأستاذ مصطفى مرعى كأداة صيد، لأن مصطفى مرعى اتصل بصالح حرب وقال له أنه عاوز أفاوض الإمام الشهيد، وأخذ الأستاذ مصطفى مرعى بأساليب ملتوية ممقوتة يعمل على إبقاء الإمام الشهيد بالقاهرة موهما إياه بأسلوب بهلوانى بأن الحكومة ستلغى أمر الحل وتتصالح مع الإخوان وتعود الأمور إلى ما كانت عليه». ويسأله رئيس محكمة الثورة: قلت فى كلامك أنه اتبع طرقاً ملتوية، فأى الطرق الملتوية دى؟ ويجيب الشاهد: «أيوه حاقول لكم يا أفندم، هو كان بيوهم الإمام الشهيد أنهم جادون فى أن يعيدوا الإخوان المسلمون، ولكنه كان بيقول له بس لو سمحت تكتب لى بيان يثبت حسن نيتكم، وكان مصطفى مرعى يقول ألفاظاً للإمام الشهيد، وكان الإمام الشهيد يعارض فى ألفاظ ملتوية كان يكتبها أو يمليها مصطفى مرعى فيقوم يقول له: دى مسألة بسيطة إذا كان ده ثمن إعادة الإخوان، وإذا كان ثمن التفاهم مع الحكومة فإيه المانع من كتابته، وبمجرد ما كتب هذا البيان أخذه مصطفى مرعى وأعطاه لرئيس الحكومة وعدل فيه، وجابه للإمام الشهيد وقعد يقول له اللفظ ده يدخل واللفظ ده لا يدخل. وهكذا قعد يعدل فى البيان. وبعد ذلك بمجرد ما أخذ البيان منه أعطاه لقاتل النقراشى، وقال له شوف الشيخ حسن البنا أهو أصدر بيان ضدك وقعد يستثير به المتهم القاتل وكان من نتيجة هذا الأسلوب الذى اتخذه مصطفى مرعى أن قاتل النقراشى قعد يتكلم كلام كثير وأصبح أداة مطواعة فى يد التحقيق يقول ما يمليه عليه المحقق ورجال البوليس السياسى» وهكذا فعندما يتردى السياسى فى هاوية التنازلات.. فلا عاصم. ويوقع البنا بيانا بعنوان «بيان للناس» استنكر فيه الشيخ أعمال رجاله ورفاق طريقه ودمغها بالإرهاب والخروج على تعاليم الإسلام.
وكان البنا يلح على ضرورة الإفراج عن بعض رجاله معلنا أنه «لا يستطيع أن ينكر الأخطاء التى ارتكبها الإخوان وأنها قد هزته إلى درجة أنه هو نفسه قد شعر بضرورة حل الجماعة». وقال: إن التحكم فى سير الأحداث يحتاج إلى رجال معينين يمكن للشيخ من خلالهم السيطرة على الموقف. لكن عبدالهادى لم يقتنع بمنطق الشيخ ولم يكتف بالبيان الذى أصدره وأخذ مصطفى مرعى يلح على ضرورة تسليم محطة الإذاعة السرية للإخوان وكل ما بقى لدى الإخوان من أسلحة. وبعد يومين من صدور «بيان للناس» قبض على أحد قادة الجهاز السرى وهو يحاول نسف محكمة استئناف مصر، ولنترك الحديث للشاهد الأول فى قضية اغتيال البنا «محمد يوسف الليثى» الذى كان فى هذا الوقت واحدا من القلائل الذين يلتقون حسن البنا، وهو أيضا الذى حضر ساعة اغتياله ويقول الشاهد: «حصل حادث نسف محكمة الاستئناف وأنا قابلت الشيخ البنا، وكان متأثرا جدا من هذا الحادث، وكان معتقدا أن الإخوان مش هم اللى عملوا الحادث، ولما عرف أنهم هم اللى عملوا الحادث زعل خالص وبكى وقال أنه لا تهمه الحكومة وإنما يهمه الشعب الذى يصدق إن الإخوان المسلمين إرهابيون، وقال أنه استعجب كيف حصل هذا الحادث، وحصلت بعد كده مفاوضات بينه وبين مصطفى مرعى بخصوص المعتقلين، وصالح حرب باشا اتصل بمرعى بيه علشان يجتمعوا بالشيخ البنا. وتفاهموا.. ومرعى بيه قال للشيخ البنا تعمل بيان كما قلت لك فى الأول وأنت رفضت. لازم تعمل بيان. وتفاهموا على إصدار بيان بعنوان «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين» ثم استمرت الاتصالات».
وهكذا وعندما يدخل الصيد إلى المصيدة تصبح التصرفات غير محسوبة. وعلى أية حال فقد كان الشيخ الذى فى قفص حريته يعانى أكثر من رجاله فى السجن. ويتعرض لضغوط مريرة عنيفة. آلاف الأسر بلا عائل، وإخوانه فى السجن، وهو بلا حول ولا طول. وبيانه الأول أثار استياء أعضاء الجماعة بالسجون ويقال أنهم وجهوا له رسالة يقولون فيها أنهم يعتقدون «أن البيان مدسوس فإن كان صحيحا فإن كان صحيحا فإن يوم الحساب آت بعد الإفراج عنا».
الرجل بين فكى كسارة البندق سجين ضغوط خصومه، وضغوط رجاله، لكنه لا يملك من أمر نفسه شيئا.
وماذا يبقى من الشيخ؟ رجاله فى السجون يبعثون له يهددونه، وهو يتهم أخلص خلصائه.. الذين أقسموا له على المصحف والمسدس يمين الطاعة التامة فى المنشط والمكره.. يتهم «رهبان الليل وفرسان النهار» بأنهم «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين». بل يتردى إلى مديح الحكومة التى تعذب رجاله أشد العذاب ويقول أنها حريصة على أمن الشعب وطمأنينته فى «ظل جلالة الملك المعظم».. بل يحرض الشعب على التعاون مع الحكومة «للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة». «رهبان الليل وفرسان النهار» أصبحوا فى آخر بيان الشيخ «أولئك من العابثين وجهادهم أصبح «سفاسف».
ولا يبقى للشيخ ما يقوله سوى «إنه سيطلب تجريده من جنسيته المصرية التى لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء». وكان الوحيد من أصدقاء الماضى الذى يقبل أن يستقبله فى مكتبه الأستاذ «فتحى رضوان»، فقد طلب المرشد المهيض الجناح أن يعتزل فى عزبة الشيخ عبدالله النبراوى بقليوب فاعتقل البوليس الشيخ النبراوى وقد تجاوز الثمانين من العمر، ثم طلب السفر إلى أسوان ليقيم عند صالح باشا حرب فرفض الأمن طلبه فسأل الأستاذ فتحى رضوان ماذا يفعل؟ فنصحه بأن يلزم بيته لكن المرشد المسكين لم يزل يلح. ويكتب إلى رئيس الوزراء راجيا أن يسمح لمصطفى مرعى بمقابلته لعلهما يجدان حلا، ولا يرد رئيس الوزراء. الشيخ المناور القادر على أن يتلاعب بالجميع.. انتهى ليتلاعب به الصغار وهو مستسلم مهيض الجناح، كسير النفس. ثم كانت النهاية. قرر القتلة أن يطلقوا الرصاص على جثته. سحبوا الحراسة المحيطة به، واستدرجوه إلى جلسة مفاوضات أخرى أو أخيرة، وأطلقوا عليه الرصاص.
ويبقى معلقا للبحث الدقيق التاريخ الحقيقى لوفاة الإمام الشهيد المرشد العام للشيخ «حسن أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتى». هل هو يوم 12 فبراير «1949. كما هو مثبت فى شهادة الوفاة»؟ أم هو يوم أصدر الشيخ بيانه «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين»؟ أم هو يوم أصدر «بيان للناس»؟ أم قبل ذلك بكثير، يوم سمح لنفسه أن يدخل ميدان السياسة من باب الموالاة للقصر ومخاصمة الشعب؟
وقد أثبت التحقيق أن المدبر الأساسى لمقتل الشيخ حسن البنا كان الملك فاروق. وأكد الإخوان أنفسهم أكثر من مرة أن الشيخ «قد اغتيل فى 12 فبراير 1949 الموافق 14 ربيع ثان سنة 1368 هجرية يوم عيد ميلاد الملك السابق فاروق أحمد فؤاد فكان اغتياله هدية عيد ميلاد ملك جلب الدمار لشعبه». بل لقد وصل الأمر بالجماعة إلى أنها طلبت رسميا من المحكمة التى عقدت فى أعقاب ثورة يوليو لمحاكمة قتلة الشيخ حسن البنا، تقديم متهمين جدد على رأسهم الملك السابق فاروق وذلك باعتباره محرضا وفاعلا أصليا. ولأن القاتل الحقيقى كان فاروق.. فإن الباحث لا يستطيع أن يكتم دهشته - بل ما هو أكثر من الدهشة - إذ يجد فى سجل تشريفات قصر عابدين يوم 14 نوفمبر 1951، أسماء عديدة من قادة الإخوان، أتوا إلى أبواب قصر الملك ليعربوا - مرة أخرى لقاتل شيخهم - ربما عن ولائهم، وربما عن نسيانهم لدم شهيدهم، والتوقيعات ذات دلالة.
- خليفة الشيخ البنا.. المرشد الجديد حسن إسماعيل الهضيبى.
- أقارب الشيخ البنا.. شقيقة عبدالرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد العام.
- وصهره عبدالحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة.
- وأقرب المقربين إليه من رجاله:
- صالح عشماوى
- عبدالقادر عودة
- حسين كمال الدين
- محمد الغزالى
- عبدالعزيز كامل
وكلهم أعضاء فى مكتب الإرشاد العام.
وحتى السكرتير الخاص للإمام الشهيد وكاتم أسراره ورفيق رحلته الطويلة سعدالدين الوليلى أتوا به معهم ليوقع هو أيضا معربا عن ولائه للملك فاروق! وطوال رحلتنا مع هذه الدراسة. تراكمت علامات استفهام وعلامات تعجب كثيرة، وتكون علامة التعجب الأخيرة مثارا لما هو أكثر من الدهشة.. وتساؤلا حول مدى وفاء هؤلاء الموقعين لذكرى شيخهم وإمامهم ومرشدهم وشهيدهم.. وحول مدى صدق ما يصيغون من تراتيل الوفاء لشيخ نسوا ذكراه على عتبات قصر قاتله!
أو هى دهشة معاكسة حول مدى صدق ما ساقوه من وفاء وولاء للملك، وحول مدى صدق كلمات المداهنة والرياء التى اعتاد الإخوان تقديمها لخصومهم دون تردد.. إنها المناورات الرديئة التى تقتاد السياسى فى نهاية الأمر، إلى ما اقتادت إليه الأستاذ حسن البنا.
د. رفعت السعيد
المصدر: روز اليوسف
إضافة تعليق جديد