ما وراء نشاط الدبلوماسية الاوروربية تجاه دمشق
الجمل ـ سعاد جروس: على خلفية الأحداث التي يشهدها لبنان, والتطورات السياسية المتصلة بالأزمة, تسجل حركة اوروبية نشطة في اتجاه دمشق. لماذا هذه الحركة في هذه اللحظة بالذات؟
في الأسابيع القليلة الماضية, نشطت الدبلوماسية الأوروبية في اتجاه سوريا على نحو ملحوظ, فزار دمشق كل من وزير خارجية ايطاليا ماسيمو داليما ووزيرة خارجية اليونان دورا باكويانيس. كما لبى وزير الخارجية السوري وليد المعلم دعوة نظيره الاسباني ميغل انخيل موراتينوس الممثل السابق للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط لزيارة اسبانيا. وقبل كل ذلك كان الوزير المعلم قد اجتمع بنظيرته البريطانية مارغريت بيكيت في بروكسيل منتصف الشهر الماضي, وأخيرا تحدثت وسائل الإعلام عن بوادر «تودد» فرنسي, بعد تبادل رسائل تهنئة بين الرئيسين الأسد وساركوزي, كما صرح الأخير بعد اجتماع دول الثماني أن الاتصالات مع سوريا «ليست مستحيلة», بعدها سرت أخبار عن قيام الموفد الفرنسي السفير جان كلود كوسران بزيارة إلى دمشق, تبين لاحقاً أنها مجرد تكهنات إعلامية ودمشق لم تخطر رسمياً بمثل هذه الزيارة على الرغم من الترحيب بها لتأتي في أي وقت.
الحركة الأوروبية الدؤوب تمت بالتوازي مع إقرار مجلس الأمن إنشاء محكمة دولية, وهي الإجراءات التي تمت بسرعة كبيرة, بما أثار الريبة في دمشق وعزز قناعتها باحتمالات تسييس المحكمة, وحرصت على إبلاغ زوارها بأنها غير معنية بإنشاء هذه المحكمة لأنها شأن لبناني, وحيال ذلك برز موقف أوروبي غير معلن لإقناع دمشق بالتعاون مع المحكمة عبر طمأنتها بأنها لن توجه ضدها, وقد عبر داليما لدمشق عن اقتناعه بأن المحكمة «ستعمل بتوازن, ولن تشكل تهديدا لأي جهة». في حين كان لافتاً الموقف الأميركي المتعنت في هذا الخصوص كما عبر عنه آدم إيرلي بالقول «لا يمكن لسوريا أن تقول إنها عضو في المجتمع الدولي وهي التي تقرر ما إذا كانت ستتعاون معه أم لا فهذا المنطق مرفوض, لأنه في حال اعتبرت نفسك جزءاً من المجتمع الدولي وعضواً في الأمم المتحدة وتريد علاقات جيدة مع بقية دول العالم, فمن الطبيعي أن تتعاون». كلام ايرلي ومن ثم تصريحات بوش بأن على سوريا التوقف عن التدخل في لبنان, يعزز الشك السوري في غايات المحكمة, وفي الوقت ذاته لا بد أن يزيد من القلق الأوروبي حول ما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان في ظل غياب توافق لبناني على إنشاء المحكمة واضطراب الوضع الأمني على خلفية مواجهات الجيش مع جماعة «فتح الإسلام» في مخيم النهر البارد. وكان واضحاً خلال الفترة الماضية أن مساري الدبلوماسية الأوروبية والأميركية حيال دمشق في ما يخص الوضع في المنطقة شهدا تناقضاً ملحوظاً, ففي حين تصعد واشنطن لهجتها حيال دمشق بما يخص الملف اللبناني تحديداً, يسعى الأوروبيون للتهدئة وإشراك سوريا في إيجاد حلول لكل القضايا في المنطقة, وذلك بحسب تصريحات الوزير داليما التي شددت على «ضرورة إشراك سوريا في المساعي المبذولة لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة» وعلى أهمية دور سوريا في هذا المجال. وما قاله داليما في دمشق يمكن اعتباره موقفاً أوروبيا ولا سيما أن فرنسا إثر زيارة داليما إلى دمشق أكدت «التناغم الوثيق» بينها وبين إيطاليا حول الملف اللبناني.
حيثيات المباحثات الأوروبية السورية عموماً, تشير إلى التهدئة الدبلوماسية الأوروبية حيال سوريا والعمل على ضبط الوضع في لبنان, وأبرزها الدعوة الفرنسية لعقد حوار بين الأطراف اللبنانية, كما وتشير أيضاً إلى مخاوف أوروبية حول حقيقة وضع قوات «اليونيفيل» في لبنان. وقالت مصادر مطلعة في دمشق لـ«الكفاح العربي» إن «مباحثات داليما في دمشق تركزت حول وضع «اليونيفيل» في لبنان خصوصا أن لبلاده ثلاثة آلاف جندي هناك», وضمن هذا الإطار طلب التعاون في ضبط الحدود ومنع تسلل الإرهابيين من العراق إلى لبنان وسوريا. كما أشار إلى ذلك المتحدث باسم الخارجية الفرنسية جان باتيست ماتيي لدى حديثه عن «التعاون الوثيق» بين بلده وإيطاليا كونهما أكبر المساهمين في «اليونيفيل».
والسعي الأوروبي لدى دمشق يؤكد اقتناع الأوروبيين بأن أي حل للملف اللبناني لا يمكن أن يتم بمعزل عن التحاور مع سوريا, كما يكشف عن قناعتهم بأنه سيكون لإنشاء المحكمة الدولية تداعيات سيئة على الوضع في لبنان. كان هذا واضحاً في كلام الفرنسي جان باتيست ماتيي: «لقد عملت كلا من فرنسا وإيطاليا معاً من أجل القرار 1757 الخاص بإنشاء محكمة ذات طابع دولي خاصة بلبنان... والآن, طالما ان هذه الخطوة تم تجاوزها, يجب على مختلف الأطراف اللبنانية استئناف الحوار». وقد دعا وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير خلال زيارته إلى بيروت ممثلي مجمل القوى السياسية اللبنانية والمجتمع المدني إلى باريس للمشاركة في مؤتمر غير رسمي لتشجيع استئناف الحوار اللبناني اللبناني.
ولا يمكن فهم الدعوة الفرنسية الى استئناف الحوار اللبناني بمعزل عن الحركة الدبلوماسية الأوروبية تجاه سوريا, وهو بحسب مصادر متابعة, كانت دمشق تأمل أن يتم بدعم عربي سعودي, لما للسعودية من تأثير في بعض الأطراف في لبنان. هذا الكلام يلتقي مع ما نقلته الصحف عن أن دمشق أبلغت جهات عربية وغربية أنها «مستاءة» من عدم حصول تعاون «سوري سعودي إيراني» في الاتصالات لمعالجة الأزمة اللبنانية, على خلفية التواصل بين طهران والرياض من أجل تشجيع الأفرقاء المختلفين في لبنان على التهدئة والتوافق على حكومة وحدة وطنية. إلا أن الدعوة الفرنسية التي لاقت ترحيبا معلناً من الأطراف المعنية كافة, تتعرض في الخفاء إلى محاولات إجهاض, ظهرت أماراتها في قيام بعض الأطراف اللبنانية بإبلاغ كوسران «رفضهم المطلق لقيام حكومة وحدة وطنية لا تضمن إجراء انتخابات رئاسية في موعدها المحدد». ما فسره محللون متابعون بأنه لقطع الطريق أمام المبادرة الفرنسية, وعزوه إلى عدم توافر رضا أميركي, لاعتراض هذا المسار مع المسار المتشدد الذي تنتهجه سياستها في لبنان, والمجير لمصلحة الضغط على سوريا ومحاولة فك ارتباطها بإيران, وأي حلحلة في الملف اللبناني ستنعكس إيجاباً على سوريا وهو ما لا ترغب فيه واشنطن المتورطة في العراق والداخلة في لعبة شد حبال مع طهران, بل وتعمل على تجميع أوراق ضغط لمقايضة سوريا.
على هذه الخلفية يمكن فهم ما قيل عن إعطاء أميركا ضوءاً أخضر لإسرائيل لاستئناف المفاوضات مع سوريا, وتزايد الحديث في إسرائيل حوله, وعمليات جس النبض التي تربط إعادة الجولان مع وقف الدعم السوري لـ«حزب الله», والفصائل الفلسطينية. وهو ما تعتبره واشنطن بحسب المحللين أهم خطوة لزيادة الضغط على طهران عبر فك تحالفها مع سوريا, مما سيساعد على إحكام عزلها إقليميا وتزيد من فرص نجاح احتمال توجيه ضربة عسكرية لها. فإيران تعوّل على سوريا وعلى «حزب الله» والفصائل الفلسطينية للوقوف معها في حال تعرضها لضربة أميركية من خلال إشعال الجبهة مع إسرائيل. لذا فإن تحييد سوريا ضروري لضمان أمن إسرائيل, وهذا الاتجاه يتعارض مع المساعي الفرنسية لإيجاد حل للملف اللبناني, ومع المساعي الأوروبية لإشراك سوريا. وعلى خلفية هذا التحليل, يمكن القول ايضا إن الدعوة الفرنسية كان لا بد لها من التعرض لضربة استباقية تبطل مفعولها, وهذا لا يمكن له أن يتم مع ما تمتلكه فرنسا من نفوذ في لبنان, ولعل جريمة اغتيال النائب وليد عيدو, والمسارعة إلى توجيه الاتهام إلى سوريا, والدعوة إلى تدخل عربي في لبنان, مع أن لبنان هو تحت الوصاية الدولية, وهناك من قرأ في المطالبة بتدخل عربي تمهيداً للمطالبة لاحقاً بنشر قوات عربية تراقب الحدود مع سوريا, بعدما تعذر نشر قوات دولية على هذه الحدود. كل تلك الدلائل تصب في إطار تفشيل الدعوة الفرنسية, وإجهاض أي محاولة تلوح في الأفق للتقارب بين فرنسا وسوريا, كان هذا واضحاً في التعاطي مع خبر إيفاد الرئيس الفرنسي مدير الاستخبارات السابق «جان كلود كوسران» إلى سوريا لإجراء مباحثات حول العلاقات السورية الفرنسية. حيث استند الخبر إلى ما نقل عن مصدر دبلوماسي فرنسي في دمشق قوله «إن القرار الفرنسي بإرسال موفد جاء بعد مشاورات قام بها السفير الفرنسي بدمشق وكانت تهدف إلى إيجاد بداية لحوار جديد بين البلدين». إلا أن دمشق لم تخطر رسمياً بأي شيء عن هذه الزيارة كما صرحت مصادر دبلوماسية لـ«الكفاح العربي», على الرغم من ترحيب دمشق بها بأي وقت. ومع أنه لم يصدر في دمشق أي كلام رسمي بخصوص حدوث تحول في السياسة الفرنسية حيالها, بل على العكس تم إبداء حذر واضح إزاء الإشارات الفرنسية الغامضة في شأن مستقبل العلاقات السوريةالفرنسية بعدما بات إنشاء المحكمة الدولية أمراً واقعاً.
ولا شك في أن الكرة الآن في الملعب الأوروبي, وتحديداً الفرنسي للضغط في اتجاه إيجاد مخرج للازمة في لبنان, والمنطقة عموماً, لكن النجاح يتوقف على قدرة أوروبا في موازاة اللعب الأميركي, أو الحدّ من تحكم اللاعب الأميركي بكل قواعد اللعبة, عبر فرض شروط جديدة تراعي مصالح جميع الأطراف وتحول دون مزيد من التدهور.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد