دور المال في نشوء وانقسام المسيحية
الأب زحلاوي:
المال منزلَق قلما يفلت منه أحد
ظهور الطوائف والمذاهب كان وليد مشاحنات فكرية ولاهوتية ولا علاقة للعوامل الاقتصادية أبداً
كان المسيح نجاراً يكسب لقمته بكد يده
* ما هي العوامل الاقتصادية القائمة قبل ظهور المسيحية؟
** لئن كان هذا السؤال لا يبرز بوضوح ما يبرزه السؤال الثاني بشأن اعتقاد من يطرحهما بأولوية العامل الاقتصادي على كل عامل آخر، في شؤون التاريخ والدين والمجتمع، فإن الحقيقة التاريخية تقتضينا الإقرار بأن النظام الإمبراطوري الروماني المهيمن آنذاك، كان نظاماً تجارياً وزراعياً يقوم على استغلال الطبقات الحاكمة وطبقات المنتفعين الدائرين في فلك الحكام، استغلالاً مطلقاً لا رحمة فيه، لطبقة منتجة هائلة بعددها وانتشارها، هي، بكل بساطة، طبقة العبيد، وذلك بدءاً من روما وامتداداً إلى أقصى أطراف الإمبراطورية. وحسب كل باحث أن يكتشف ما خلّفه الرومان من مدن وآثار، ومن شبكات طرق وريّ، وأن يقرأ ما كتبه مؤرخوهم وأدباؤهم، ليدرك أن الحياة كلها كانت تقوم على نظام عبودي، ترفده الحروب الدائمة بفائض دائم من الأسرى.
* ما هي العوامل الاقتصادية التي لعبت دوراً في ظهور المسيحية؟
** بعيداً عن أي إسقاط تاريخي، مغرض أو صادق، وبعيداً عن أي تنظير أيديولوجي، فإن المطّلع على تاريخ دقيق لظهور المسيحية وانتشارها السريع والعميق في آن، على الرغم من مقاومة اليهودية والإمبراطورية الرومانية لها، يجد نفسه مضطراً للاعتراف بأنها إنما هي تدين أولاً وأخيراً لظهور شخص واحد في فلسطين، في حقبة ما من تاريخها، أعني به السيد المسيح.
* الإسلام حرّم الربا على مراحل، حتى وصل إلى تحريمها قطعياً. ما هي نظرة المسيحية إلى التعامل مع الربا؟
** في هذا الأمر، كما في أمور كثيرة، تأثرت المسيحية بالشريعة اليهودية. فقد حرّمت هذه الشريعة الربا على اليهود، في نصوص واضحة من الكتاب المقدس، منها ما جاء في سفر الخروج (22/25) وسفر تثنية الاشتراع (23/11-20). بالطبع لم يكن هذا التحريم وليد نظرية ما في المال، بقدر ما كان وليد نظرية تخص مفهوم الملكية بالذات. فاليهودي كان يؤمن بالملكية الشخصية، إلا أن الملكية الشخصية لديه ما كانت لتنفصل عن واجب التضامن، تضامن الغني مع الفقير من أبناء قومه فقط، فكان كل من يملك شيئاً يعتبر نفسه بمثابة وكيل لدى الله.
وكان أن رفع السيد المسيح هذه النظرية والممارسة إلى مستوى من المجانية الصرف في المحبة والتعامل الاجتماعي، بقوله:
(اقرضوا غير راجين شيئاً، فيكون أجركم عظيماً، وتكونوا بني العلي) (لوقا 6/35). وساد تعليم الكنيسة لقرون بشأن تحريم الربا، وكثيراً ما ذكر هذا التحريم في العديد من المجامع المسكونية والمحلية، الكنيسة.
وكان المصلح البروتستانتي (كالفان) (1509-1564) أول مفكر مسيحي أدرك أن للمال دوراً في فعالية الحياة الاقتصادية، وأنه ليس ملكية جامدة، بل ملكية متحركة ومنتجة، يتوقف عليها الاقتصاد كله. وهو يرى أن ما قاله السيد المسيح في الآية المذكورة، إنما يعني به ضرورة الوقوف إلى جانب الفقير والمعوز. وما عدا ذلك، فللمال قوة إنتاجية مثله مثل سائر السلع التجارية. وبذلك ميّز (كالفان) بين قرض الإعانة الذي يريده مجانياً على نحو دائم، وقرض الإنتاج الذي يفسر ويبرّر الفائدة، وبالتالي يبيح الربا، ولكن بفائدة معقولة. وكان أن انتقلت هذه النظرية إلى المفكرين الكاثوليك، ومن ثم إلى الكنيسة الكاثوليكية. والمعروف أن نظرية كالفان هذه كانت إحدى أهم منطلقات الرأسمالية الغربية.
* ما هو أثر اليهود الاقتصادي في محاربة الديانات السماوية وخصوصاً المسيحية؟
** لنحدد الإجابة موضوعاً وزماناً.
من حيث الموضوع, اليهود لا يحاربون اليهودية. أما الإسلام, فإن ما يفصله عن المسيحية, لا يقل عن ستة قرون. لذا أريد لجوابي الآن أن يتناول محاربة اليهودية للمسيحية في نشأتها وأصلها. والحال أن حرب اليهودية على المسيحية، بدءاً بمحاربتها للسيد المسيح، لم يكن لها أي جذر اقتصادي. فما جاء في الإنجيل المقدس وفي سفر أعمال الرسل، وفي كتابات المسيحيين الأولين خلال القرون المسيحية الأولى، وفي الكتابات اليهودية والرومانية، يدلل بصورة قاطعة على أن الخلاف الجوهري كان خلافاً دينياً، واستمر لفترة طويلة خلافاَ دينياً صرفاً.
ولكن بدءاً من مطلع القرن الرابع واعتراف الإمبراطور قسطنطين عام 313 بحق المسيحية في الوجود، أخذت الأمور منحى جديداً وخطيراً، له وجه قانوني واقتصادي واجتماعي، لا يتسع المجال اليوم للتحدث عنه.
* يقول د. يوسف القرضاوي في كتابه (العبادة في الإسلام): الإنجيل فيه دعوة إلى إلغاء قيمة هذه الدنيا واعتبار الأرض بمثابة منفى للإنسان، وطلب النجاة والسعادة هناك في العالم الآخر.
ما هو ردّكم؟
** يؤسفني أن أقول: إن سماحة الشيخ يوسف القرضاوي، يخطىء التحليل في المسيحية. فالمسيحية لا تنفي قيمة هذه الدنيا بقدر ما هي تعلي شأنها، دون أن تغيّب عن الإنسان قيمة الحياة الآخرة بل إن المسيحية تؤكد على أن بوابة الحياة الآخرة هي الأمانة التامة للحياة على الأرض، بحيث تكون الحياة على الأرض والحياة الأبدية، توأمين متكاملين، فلا ينال الحياة الأبدية من لم يكن وفياً بكليته لحياته على الأرض، بكل أبعادها الروحية والجسدية، والعائلية والاجتماعية والإنسانية، فلا فصل بين حياة على الأرض، وحياة أبدية، بل الأبدية تبدأ منذ اللحظة التي أكون فيها إما أميناً لربي وذاتي وأخوتي البشر جميعاً، على الأرض، وإما خائناً لجميع هؤلاء بسبب أنانيتي واستئثاري بخيرات هذه الدنيا دون الآخرين. لذا قال أحد تلاميذ السيد المسيح، يوحنا، في رسالته الأولى هذه الكلمة الرائعة: (من لا يحب أخاه فهو قاتل)! وهذا يأتي في منطق مباشر مع ما قال السيد المسيح في إنجيل القديس متى (25: 34-40): (تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم... لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني وعرياناً فكسوتموني، وكنت مريضاً فعدتموني ومسجوناً فأتيتم إليّ... الحق أقول لكم: إن كل مرة صنعتم ذلك إلى أحد هؤلاء الصغار الذين هم إخوتي، فإليّ قد صنعتموه).
* في نفس الكتاب يورد د. يوسف القرضاوي آية الإنجيل:
(لا يدخل غنيّ ملكوت السماوات حتى يدخل الجمل في سُمّ الإبرة).
كيف تفسر هذه النظرة إلى الغنى والأغنياء في الإنجيل؟
** دعني أولاً أذكر الآية الإنجيلية كما وردت:
(إنه لأيسر أن يمرّ جمل من سُمّ إبرة، من أن يدخل غنيّ ملكوت السماوات). متى (19: 24)
هل تعتقد أن السيد المسيح ظلم الأغنياء بقوله؟ ألا ترى مع كل من يرى أن المال يُعمي البصر والبصيرة، ويقسّي قلب الإنسان ويغلقه دون الآخرين، لاسيما الضعفاء والفقراء؟
بالطبع هناك استثناءات، ولكنها نادرة، ولا تقوم إلا لدى من كان قلبه، بشكل أو بآخر، مليئاً بإيمان ما، ومتوجهاً نحو الآخرين، ولاسيما الضعفاء والمستضعفين! فالمال خادم لله والإنسان، وإلا تحوّل إلى إله يبتلع الله والإنسان معاً. وهذه حقيقة لازمت الإنسان، وقد بلغت ذروتها في أيامنا. ونظرة السيد المسيح هذه، تضرب في قلب الواقع الإنساني، الشخصي والعام على السواء.
* قال السيد المسيح لشاب آمن به ودخل في دينه:
(إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع ما تملك وأعطه للفقراء، ثم تعال واتبعني)
هل هذه دعوة إلى التكافل الاجتماعي, وهل هي دعوة إلى المساواة, وهل المؤمن هو الفقير فقط؟ أم أن الغنى هو مدعاة للنفس لكي تخطئ وتكون آثمة؟
** دعني أيضاً أوضح قليلاً:
الشاب الذي يحدثه السيد المسيح, لم يؤمن به ولم يدخل في دينه، وقد ورد ذكره في ثلاثة أناجيل: (متى /19/16-26) (مرقس /10/17-31) (لوقا /18/18-30) إنما هو شاب أعجب بالسيد المسيح وأراد استشارته في أمر يخص سعيه الروحي نحو الحياة الأبدية. فكان من السيد المسيح أن اقترح عليه التحرر من كل ما يملك ويتبعه ليحمل رسالته معه. وكان ما طلبه منه السيد المسيح مفرطاً في نظره، فأعرض...
ففي كلام السيد المسيح حصراً دعوة إلى إتباع طريق الكمال كما يعيشه هو وكما اقترحه على بعض من أتباعه, لا على الجميع. أما التضامن والتكامل الاجتماعيان والمساواة, فأمور واضحة في كلام السيد المسيح، وقد ترجمه المسيحيون الأولون في مساواة تامة كانت الأولى من نوعها في التاريخ (سفر الأعمال, الفصلان 2 و4).
أما النظر إلى المؤمن على أنه الفقير حصراً, فهذا قصور في التفكير لا يمتّ إلى المسيحية بصلة.
وأن يكون الغنى مدعاة للخطيئة والإثم, فلا داعي للاستعانة بما قاله السيد المسيح, كي ندرك أن المال منزلَق قلما يفلت منه أحد.
* هناك قول للسيد المسيح:
(وأنتم فلا تبحثوا عما تأكلون وما تشربون, ولا تهتموا لذلك، لأن هذه الأشياء, إنما يبحث عنها غير المؤمنين)
أليست هذه دعوة للتقاعس وعدم العمل؟
** دعني أولاً أورد الآية الإنجيلية كما وردت (متى/6/31-34):
فلا تهتموا إذن قائلين ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ فإن هذا كله يطلبه الوثنيون بدأب، وإن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا كله. فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه, وهذا كله يزاد لكم).
لا بد من أن يُقرأ هذا النص في سياق النص بكامله. ما يقوله السيد المسيح, هو دعوة ملحة للثقة بالله أباً يرعى أبناءه. إلا أن اهتمام الناس المفرط بما يلبسون ويأكلون ويشربون و... و..., يجعلهم أحياناً كثيرة يتصرفون بمنأى عن الله, وكأن كل شيء منوط بهم. وعندها يفرط الإنسان في الاهتمام بحاجاته المادية, وقد تُمثِّل هذه الحاجات جلّ اهتمامه, إن لم أقل كل اهتمامه، وقد يصبح الله في دوّامة الحياة المادية بعيداً جداً عن نظر الإنسان ورجوعه إليه واعتماده عليه.
في هذا السياق يُفهم تماماً ما يعنيه السيد المسيح: شؤون الحياة حق علينا, ولكن لها خطوط حمراء لا يجوز أن نتجاوزها, وإلا فقدنا الله وذاتنا والآخرين.
أما العمل، فهل من داعٍ للتذكير به, وقد كان السيد المسيح نجاراً طوال ثلاثين عاماً يكسب لقمته بكد يديه؟
* الرهبنة, حرمّها الإسلام من باب أن لدنياك وجسدك عليك حقاً، وحفظاً للنفس من الانحراف وراء غرائزها بما حرّمه الله.
هل الرهبنة, هي الزهد في الدنيا والانزواء والتفرد للعبادة لله, أم هي بعد عن العمل والاكتفاء بالعبادة ومحاربة الشر؟
** الرهبنة في المسيحية إعلان لحقوق الله على من يختار هذا السبيل لتكريمه ومحبة البشر بالصلاة والخدمة الاجتماعية والثقافية والفكرية.
إن كان الله موجوداً, أفلا يحق له أن يطالبنا بما قد يبدو مستحيلاً للكثيرين, فيما يراه الذين اختاروا بمحض إرادتهم هذا السبيل, الممكن بل المُفرِح بعينه؟
الأسئلة المطروحة تستدعي شرحاً طويلاً، أرجو أن أعود إليه في مناسبة أخرى. إلا أن من يعرف تاريخ الرهبان، إن في الشرق أو في الغرب, يعرف تماماً أنهم كانوا إلى جانب صلاتهم وخدمتهم الاجتماعية, قلب المجتمع ومحركاً عظيماً في بناء المدن والقرى وتطور الحياة والثقافة، خصوصاً في أوروبا، على الرغم من كل ما يقال.
* ما هو دور العامل الاقتصادي في ظهور الطوائف والمذاهب المسيحية, وكيف تنظر كل فئة من هذه الفئات إلى دور المال والاقتصاد في حياتها؟
** تاريخ المسيحية في مختلف بلدانها يؤكد أن ظهور الطوائف والمذاهب لم يكن وليد عامل اقتصادي البتة، بل كان وليد مشاحنات فكرية ولاهوتية، ووليد صراعات بين ثقافات ونزعات قومية وعقليات متباينة.
أما المال والاقتصاد, فقد أخذا دورهما فيها كسائر العوامل التي يعتمدها أي مجتمع يريد أن يستمر ويتطور.
وعندما أتحدث عن الطوائف والمذاهب, فإنما أنا أتحدث عن تلك التي ظهرت قديماً في الشرق وتواصل استمرارها حتى اليوم.
أما الطوائف البروتستانتية, فلها شأن آخر.
حوار: عبد الرزاق دياب
إضافة تعليق جديد