من بلد المنشأ إلى البسطة طريق طويلة سريعة يسلكها الـ DVD
تحقيق ـ سعاد جروس:بدت أشبه بطرفة قصة الصبي الذي القي القبض عليه وهو يبيع أفلاماً ممنوعة على الأرصفة في حلب، لم يكن البيع غير نظامي، ولا السبب إباحية الأفلام وراء القبض عليه، وإنما احتياله على المارة وبيعهم أقراصاً مضغوطة فارغة مغلفة بصور لأفلام بورنو. كان يشتري القرص بخمس عشرة ليرة ليبيعها بمائة ليرة (50 ليرة تعادل 1 $). وقعت هذه الحادثة منذ نحو أربع سنوات، حين لم تكن أقراص الـDVD قد انتشرت في سوريا، ولا قرصنة الأفلام تتم على النحو الذي يطالعنا اليوم، رغم أن الزمن لم يتجاوز أربع سنوات، ويبدو أنها كانت فترة كافية لتطور حثيث يكثف نقلات الزمن، فقد كانت نسخ الـ CD تملأ الأسواق بشكل خجول قياساً الى انتشار الـ DVD اليوم بأسعار بخسة، والأحاديث أيامها تتردد عن أن سعة ونقاء الـDVD تكاد تقترب من الأسطورة، وتستحق سعراً يتجاوز الـ500 ليرة سورية، وهو مبلغ باهظ قياساً إلى دخل الفرد، فيما الآن سعر القرص الممتلئ ما بين 50 ـ 125 ليرة ، والقرص الفارغ المستورد بـ 25 والمحلي بـ8 ليرات.
شجع تدني الأسعار على هذا النحو المثير نشاط السوق غير الشرعية (غير القانونية) للأفلام، إلى درجة تكاد تقضي على كبريات محلات ومراكز بيع الأفلام النظامية. محمد مغربية صاحب واحد من أهم مراكز استيراد وتوزيع الأفلام في سوريا، ابتدأ حياته التجارية بهذه المهنة، وكان لمركزه نصيباً كبيراً في ترجمة الأفلام الأجنبية، أظهر امتعاضاً كبيراً من مهنته، رغم حيازته على عدة وكالات تتيح له التوزيع في منطقة الشرق الأوسط، وليس فقط داخل سوريا. يقول أن مركزهم كان يؤمه يومياً مئات الزبائن، وحسب تعبيره؛ كنا نستقبل بين الزبون والزبون ثلاثة زبائن، الآن لا يأتي إلينا في اليوم أكثر من عشرة زبائن، بسبب البسطات المنتشرة بكثافة في أرجاء البلاد، فما يباع لدينا بسعر 100 ليرة، موجود على البسطة بـ50 ليرة!! مؤخراً اضطررنا للبيع بخسارة فادحة من جراء مضاربات غير منطقية.
السبب في ارتفاع السعر لدى المراكز المرخصة قانوناً هو استيرادهم لنسخة الماستر (النسخة الأم) بسعر لا يقل عن أربعة آلاف دولار، يضاف إليها تكاليف الترجمة والنسخ، هذا عدا إخضاعها للرقابة، ومن ثم إجراء عملية مونتاج على بعض المشاهد إذا لزم الأمر، وقد يستغرق هذا شهوراً ( ثلاثة شهور على الأقل)، كي يسمح ببيع الفيلم الحديث بنسخة DVD في بلد المنشأ، وأياماً كي يصل ويترجم، ومثلها لمراقبته، خلال الفترة نفسها أو أقل تكون النسخ المهربة قد ملأت البسطات. وإذا استطعنا استنساخ 500 قرص بشكل نظامي، فلن يباع منها في أحسن الحالات أكثر من 80 قرصاً. ويتابع قائلاً، بأنه اضطر لبيع خمسين ألف قرص CD بسعر ليرتين لبائع بسطة بعد أن فقد الأمل ببيعها في المركز، وبات يبيبع قرص الـDVD بسعر البسطة!! ويضيف، سابقاً كنت أخرج الى صالة البيع وأتبادل الحديث مع المشترين حول الأفلام الجديدة، الآن لا أشعر بحاجة لذلك بت أشعر بالقرف، حتى زبائن المحل وأصدقائي لم يعودوا يزورونني كالسابق لأنهم حسبما صارحني بعضهم، باتوا يقتنون أفلامهم من البسطة. وقد رأيت أن هذا أمر طبيعي جداً. ويوضح مغربية، أنه منذ صدر قانون حماية الملكية الفكرية عام 2001 كنا أول من التزم به، مع أن تعليماته التنفيذية وضعت بعد ثلاثة أعوام، إلا أنه لم ينفذ لغاية الآن، ولا ألقي اللوم على وزارة الثقافة في عدم تنفيذ القانون، لأن يداً واحدة لا تصفق، فهي بحاجة لتعاون وزارة الداخلية، من خلال تخصيص شرطة للملفات كما هو الأمر بمصر، مهمتها الحد من نشاط القراصنة وأصحاب البسطات. ويشير إلى أنه لديه في القضاء أكثر من عشر دعاوى ضد أشخاص قاموا بقرصنة أفلام استوردها، لكنه لم يحصل على نتيجة، سوى الاقتناع بمقولة المثل الشعبي" فالج لا تعالج ".
أحدهم أخبرنا أن لدى وزارة الثقافة ضابطة تتولى مهمة ملاحقة المخالفين، لكن من غير الممكن أن تحيط بسوق واسع ومنفلت، وتقوم بمتابعة المحال المرخصة وتضبط مخالفتهم للتراخيص المعطاة، كأن يبيع صاحب محل صوتيات أفلام مرئية، أو بيع أفلام مخلة بالآداب، ودائما هناك مخالفات تحول الى القضاء. كما أن بائعي البسطات لا يفلتون من أيد المحافظة التي تخالفهم لإشغالهم الأرصفة لا لبيعهم أفلاما مقرصنة.
حجم السوق وغزارة تدفق الـDVD توحي بأن تجاراً كباراً، أو مافيات متخصصة تقف خلفها. إلا أن محمد غريبة استبعد هذه الفرضية، وكذلك الناقد السينمائي بشار إبراهيم الذي قال أن مافيات القرصنة منتشرة في العالم، وفي سوريا لا يوجد مافيات إنما تجار صغار نشطون، فالأرباح تعتمد على عدد النسخ، فإذ حسم سعر القرص 8 ـ 20 ليرة، فالباقي ثلاثون ليرة، تُحسم منها أجور العاملين والترجمة، الربح الصافي يتوقف على حجم الكميات المباعة. ولا نعتقد أنها مغرية ليخوض فيها تجار كبار.
يمكن القول أنها مهنة تُركت ليستولي عليها من لا عمل لهم، أسوة بمن يعملون في الالكترونيات، ومن غير المستغرب أن أحد أشهر البسطات في أزقة الشيخ محي الدين تحول من بائع خضار الى بائع CD و DVD ، وقد فتحها الله عليها ورزقه بما حسن معيشته وعمله، وذاع صيت أسعاره التشجيعية جداً فالـ CD بعشرة ليرات والـ DVD بثلاثين ليرة. وحين سألت فتاة خليجية عبر الانترنيت عن عناوين شركات سورية تبيع أفلام ومسلسلات سورية، نصحها شاب سوري بستاند الشيخ محي الدين، فهو ليس شركة ولا محل ولا حتى بسطة، مجرد ستاند... لكنها تحوي على كل الأعمال السورية.
نادر جمعة واحد من هواة اقتناء الأفلام الحديثة، رد عدم الإقبال على محلات البيع النظامية والشهيرة ليس إلى ارتفاع الأسعار، وإنما السمعة الأخلاقية الحسنة التي يحرص عليها أصحاب تلك المراكز، فهم لا يغامرون ببيع النسخ الكاملة للأفلام والتي قد تحتوي على مشاهد مؤذية لا توافق عليها الرقابة، كمشاهد العنف الدموي المبالغ فيها طبعاً، عدا أفلام الرعب، ومشاهد الجنس وما يمس الأديان. يقول نادر، أغلب من يشتري أفلام الـ DVD يشاهدها على جهاز الكومبيوتر بشكل فردي بعيداً عن العائلة، لذا يفضل أن يشاهد الفيلم كاملاً، فيشتريها من البسطة.
منصور ديب متابع مثابر للسينما يضيف على ما قاله نادر، بأن نسخ الأفلام غير المراقبة، متوافرة على البسطات، لكنها لا تحتوي على ملحقات الـ DVD الأوريجنال المعروفة كمشاهد من التصوير والجوائز التي نالها ولقاءات مع الممثلين والمخرج. أما نسخ الأوريجنال (الأصلية) فتباع في محلات قليلة وبأسعار عالية تصل الى 800 ليرة. ويؤكد ديب، أنها تتمتع بدقة عالية تبرر ارتفاع ثمنها. كما أن ترجمتها سليمة وجيدة، على العكس من الأفلام المترجمة على عجل وتحفل بالأخطاء نتيجة الترجمة السماعية، بينما نسخة الأوريجنال تستورد مترجمة. ويشير منصور إلى أن كثيراً من النسخ السريعة الوصول الى السوق المحلية، أي بالتزامن مع عرضها الأول تكون رديئة، ولا تتمتع بالدقة، إذ يتم تحميلها عن الانترنت، وربما عن نسخة مأخوذة بواسطة كاميرا موبايل، أو فيديو أثناء العرض في صالة السينما، والأنشط في هذا الحقل هم الصينون والبلغار واليونانيون، إذ تصلنا منهم عبر الانترنيت النسخ الفيلمية بسرعة قياسية، فهناك أفلام تصل خلال ثلاثة أيام من عرضها الأول كفيلم "كازينو رويال"، والجمهور يقبل عليها مدفوعاً بالفضول للاطلاع على فيلم يحدث ضجيجاً في الإعلام غالبية المطروح في الأسواق غير النظامية يتيح تحقيق رغبة الزبون في الاطلاع على فكرة الفيلم، لكنه لا يتيح متعة مشاهدة صورة نقية واضحة.
يسلك فيلم الـ DVD من بلد المنشأ إلى الأرصفة طريقاً طويلة، لكن سريعة جداً. وعادة تشترى نسخة الماستر الكاملة من الخارج من دول الجوار كالأردن ولبنان وتركيا عن طريق البر، بالاعتماد على الأصدقاء أو سائقي التاكسي، أو من الدول الغربية بالاعتماد على طواقم الطيران. ويتراوح سعرها في الأسواق الأوروبية بين 100 ـ 150 يورو، أما من دول الجوار فيتراوح بين 20 ـ 20 $ ، حسب أهمية الفيلم وحداثته، تصل بعدها إلى سوريا، حيث يتم فك الحماية عنها من قبل خبير، واليوم مع توفر ناسخة DVD حديثة وبسعر معقول لا يزيد عن 2200 ل.س (44$)، لم يعد فك رقم الحماية يحتاج إلى خبير، بات الأمر أكثر سهولة وسرعة، تتم بعدها الترجمة الضوئية فوراً بتكلفة تتراوح بين 1000 ـ 2000 ليرة للساعة، ثم تُطرح للنسخ في ورشات متوزعة في أقبية المحلات والمنازل، تضم عدداً من أجهزة الكومبيوتر. فإذا توفرت عشرة أجهزة، فيمكن الحصول على عشر نسخ كل عشر دقائق، يتم إغراق سوق البسطات بها، خاصة وأن تلك الورشات منتشرة بشكل كبير وغير مرئي، وتعتمد على عمالة من الفتية والأطفال لسهولتها. كما تستعين بهم في عملية التوزيع، ومن الممكن رؤيتهم في الأسواق يحملون الكمية المراد توزيعها في صناديق كرتون لا توحي بأنها تمتلئ بأهم الأفلام العالمية، وهم ينطلقون إلى المحلات والبسطات يعرضون عليهم بضاعتهم، وفي الوقت نفسه يسجلون طلباتهم من الأفلام الحديثة والقديمة. فإذا طلب صاحب البسطة أحدث عشرة أفلام في أمريكا "بوكس أوفس" فسوف يجد أن ثمانية منها على الأقل متوفرة.
إلى جانب الأفلام الأمريكية الحائزة على النصيب الأكبر من الأفلام المطلوبة في السوق، نفاجئ بأن المسلسلات السورية مرغوبة من قبل المغتربين والسياح، فهم يحملون كميات كبيرة منها الى بلادهم، كمسلسلات غوار الطوشة، أيام شامية، ليالي الصالحية، باب الحارة، غزلان في غابة الذئاب ... إلخ. والمفارقة التي نكتشفها أيضاً، أن النسخ المهربة القادمة من خارج الحدود، ويتم استنساخها في سوريا، تستقطب زبائنها من خارج الحدود، لأنها تشكل بالنسبة إليهم عملية رابحة، عندما يحصلون على عشرين فيلم بسعر 20 دولاراً وهو ما يساويه سعر الفيلم الواحد في بلدانهم!!
الناقد بشار إبراهيم المولع بتعقب الأفلام الحديثة والقديمة في المحلات وعلى الأرصفة، يقول أنه حصل على نسخ من أفلام نادرة في أماكن لا تخطر على البال، ففيلم "اليازرلي" للمخرج قيس الزبيدي، وهو فيلم ممنوع أصلاً، اشتراه من بسطة عند كراجات البرامكة، والطريف أنه زود مخرج الفيلم بنسخة منه لأنه لا يملك واحدة. كما اشترى من بسطة أخرى فيلم "عند القطع" وعثر أيضاً على نسخة من فيلم "ذكرى ليلة حب" في كراجات السويداء. ويلفت إبراهيم الى أن مجموعة كبيرة من الأفلام السورية لم تكن تعرض حتى في صالات السينما متوفرة الآن بكثرة على الأرصفة، كأفلام المؤسسة العامة للسينما، كما تباع أيضاً أفلام القطاع الخاص، ولها جمهور كبير كأفلام إغراء وسميرة توفيق ... إلخ.
نفهم من كلام بشار إبراهيم أن لا معيار لتوزيع الأفلام، فقد نعثر على أفلام نخبوية أو نادرة في مناطق شعبية، وهي عادة مناطق تتركز فيها بسطات الـDVD ، ككراجات انطلاق الباصات، وأمام الجامعة، وفي مناطق المخالفات. أما الأسواق الأوسع فهي في مناطق مخيم اليرموك وجرمانا حيث نسبة الشباب عالية، إلا أن المركز الأهم في البحصة وسط دمشق التجاري ومركز تجمع محلات بيع الالكترونيات وقطع وأجهزة الكومبيوتر، وهذا السوق لا يبيع، بقدر ما ينتجه من كميات هائلة يومياً، ويمتلك البائعون فيه ثقافة تتيح لهم تمييز الفيلم الجيد والمهم، فيما يفتقر غالبية بائعي البسطات، لقدر من المعرفة يخولهم انتقاء بضائعهم، وعادة ما يحكمون على المضمون من صور الغلاف، فيختارونه ويعرضونه حسب تصنيفاته لديهم: هندي، محلي، عربي، أو أكشن أمريكي، كاراتيه، عنف .. وأحياناً هناك من يبيعهم أفلاماً قديمة نادرة بغية تصريفها، فهي كاسدة جماهيرياً ولا يطلبها سوى نخبة من المختصين، وتعرض على البسطة بأسعار بخسة، بينما ترتفع قيمتها في محلات أخرى، إذا كان البائع على دراية بأهميتها، وتباع كالأفلام النخبوية الحديثة التي لا يطلبها إلا القلة، فتطلب فيها أسعاراً مضاعفة، لأنها غير مطلوبة.
ما الذي يحكم الأسعار في السوق؟ لا معيار يحكم ارتفاعها ولا انخفاضها سوى قانون التجارة الرئيسي: العرض والطلب، لكن والأهم على الأرض، أن الأمر متروك لبائع المفرق والزبون، أي لتقدير البائع لسلعته والمغالاة في سعرها، وشطارة الزبون في المساومة. ومن جانب آخر، ليس ثمة قانون يضبط سوقاً ما تفتأ تتوسع بشكل لافت، وتتطور بشكل مذهل، وتنفلت بشكل اعتباطي، مواكبة على عجل ظهور كل تقنية حديثة، من خلال ديناميكية تنبذ أية فكرة عن أن البشر العاديين لا تستوعب تجدد التقنيات، إذ قانون السوق في العالم واحد، ابتكار الأعمال، والتوجه نحو الربح والمزيد من الربح. فاليوم بعد ناسخات التغلب على الحماية، هناك أقراص DVD بدأت تنزل الى الأسواق بسعة مضاعفة، ستوفر نسخة كاملة من أطول الأفلام على قرص واحد، فيما يجري الحديث عن أقراص تستوعب مسلسلاً من عشرين حلقة. وثمة فصول أخرى عن جديد سرعان ما يصبح قديماً، وهناك من يتحفز دائماً لكي يتلقفه، ليحوله إلى عمل وأرباح.
ترى ما الذي يهم الزبون؟! الأسعار الملائمة لمستوى دخله. إذا كانت الأسعار الباهظة توفر عشرات الزبائن، فالأسعار البخسة تزود السوق بآلاف وملايين الزبائن، عدا فرص العمل. ومثلما للعولمة محاسنها على الدول الكبرى لها أيضاً مخاطرها، لكنها بالنسبة للدول النامية فرصة للحصول على ما يعد ثميناً بسعر معقول، وهي مساواة لا تفتقر إلى الشطارة. عموماً، ما فائدتها إذا كانت للنخبة فقط؟! من هذا المنظار، على الغرب الثري أن يتغاضى كثيراً عن حقوق الملكية، وأن تكون أكثر إنسانية، بتوفيرها العدالة في المعرفة والمتعة. إن جشع الغرب في الماضي هو الذي أودى بشعوب كاملة إلى هاوية الاخلاق. وإذا لم يفكر الأغنياء على هذا النحو من التساهل، فسوف ينتزع الفقراء انتزاعاً ما يعتقدونه حقوقهم، إنها حرب أخرى!!
الشرق الأوسط + الجمل
إضافة تعليق جديد