السينما المستقلة في سوريا:مواهب مع وقف التنفيذ

01-10-2006

السينما المستقلة في سوريا:مواهب مع وقف التنفيذ

الجمل ـ سعاد جروس :"سينما من أجل التقدم والتحرر" شعار لازم مهرجان دمشق السينمائي طوال ثلاثة عقود، وتم تغيره عام 2003  إلى شعار"السينما تجدد شبابها"، جاء انعكاساً لرغبة في التجديد والتغيير بدأت رياحها بالتحرك منذ العام 1999،  إلا أن رياح النيات الطيبة لم تكن كافية لتجديد شباب السينما، وإنما الذي تجدد هو النقاش حول أزمة السينما السورية المثقلة بحمولة ضخمة من الأفكار والأساليب "التقدمية" المصابة بالجمود والنمطية والمراوحة في المكان. فلم يتمكن الشباب الحالم والطموح والعاشق للسينما ولوج هذه التجربة الخلاقة من أبوابها العريضة، لكن قيض لهم فتح نافذة صغيرة بأظافرهم يمررون من خلالها أفلام على نفقتهم الخاصة بمثابة مشروع متواضع أو حلم وربما أضغاث حلم، ليسجلوا أنهم الآن... وهنا بانتظار فرصة؛ ظاهرة لم يتم الاعتراف بها كما تستحق، بيد أنها راحت تنمو في المساحات الحرة الضيقة.
مع أن بوادر السينما السورية المستقلة بدأها عام 1999  المخرجان عمر أميرلاي ومحمد ملص بعدد من الأفلام التسجيلية، إلا أنها أخذت شكل الظاهرة ابتداءً من العام 2003، مع اكتشاف الشباب إمكانية استخدامهم للسينما كوسيلة للإعلان عن موقفهم من القضايا المطروحة للنقاش العام، والتي لم يكن بالإمكان مناقشتها في وقت سابق، مثل فيلم  زهير قنوع  "باب الحديد" روائي قصير (14 دقيقة) طرح مفهوم الوطن عند معتقل سياسي سابق أمضى عشرين عاماً في السجن. هذا الموضوع ما كان بالإمكان التجرؤ على مناقشته على النحو الذي يتم اليوم، ومع أن الفيلم منع من العرض، لكن ذلك لا ينفي أن تحولاً سياسياً هاماً حدث من جانب توسيع هوامش لا تزال ممسوكة بشكل جيد، ويحاول الشباب الاستفادة من هذا التحول للمساهمة في رفع السقف الرقابي، وساعدهم تطور الإمكانيات التقنية، بعدما صار بمقدور أي شاب تصوير فيلم بتكلفة بسيطة، دون الحاجة لعمليات التصوير السينمائي المكلفة والمعقدة، وهكذا تم أنتاج حوالي  100 فيلم سوري بين روائي طويل وقصير وتسجيلي وتجريبي، في أقل من أربعة سنوات!! جاءت لتكشف رؤية الشباب لواقع معاش في بلد يتلمس طريقه إلى التغيير.
تأسيس
 وفي هذا الاتجاه، ظهرت ورشة "بيت الفن" لعلاء عربي كاتبي، أنتجت حوالي 12 فيلم، وتلتها ورشة المخرج محمد قارصلي وشارك فيها نحو 17 شاب. ويمكن القول أنها بداية لتأسيس سينما مستقلة في سوريا، على الرغم من الخلاف حول تعريف دقيق لها، فالناقد السينمائي بشار إبراهيم يقول: "إنها عموماً الخط الثالث بعيداً عن سينما تنتجها الحكومة وعن سينما الاستديوهات "الشركات الكبرى" بمعنى أنها غير خاضعة لمتطلبات السوق، وبسبب عدم وجود شركات خاصة كبرى للإنتاج سينمائي في سوريا، فإن السينما المستقلة تلك التي لا تنتجها المؤسسة العامة للسينما، كما يعتبر أي فيلم يشارك في إنتاجه المخرج فيلماً مستقلاً، كفيلم "بشرة مالحة" لنضال حسن المدعوم تقنياً من معهد أرمينيا،  وفيلم "باب المقام" لمحمد ملص الذي تلقى دعماً فرنسياً.
السينما المارقة
من سمات السينما المستقلة أن مخرجيها عادة يكونون شباناً محترفين أو هواة، وتعتمد على نجوم غير مشهورين وحتى غير محترفين، وهي على الأغلب أفلام ذاتية تقدم رؤية المخرج الخاصة للقضايا الراهنة، ما يفسر كون المخرج هو صاحب الفكرة وكاتب السيناريو. كما يوضح سبب نأي السينما المستقلة عن معالجة موضوعية للقضايا المطروحة ، بل تتناولها من زاوية شخصية تعكس رأي المخرج بالقضايا التي تؤثر عليه بشكل مباشر، ويؤكد الناقد بشار إبراهيم أن "السينما المستقلة معنية بالتحرش بالتابوهات، دين ـ جنس ـ سياسة".
لذا فإن هذه السينما "المارقة" ـ إن صح التعبير ـ لا تلقى الرعاية المطلوبة، فإذا  أفلحت بالإفلات من الرقيب السياسي، سيدركها الرقيب الديني والاجتماعي الأشد صرامة. ومن الطريف أن مديرية مراقبة المصنفات الفنية في وزارة الثقافة المسؤولة عن مراقبة الأفلام قبل العرض، تراعي المحظورات الدينية والاجتماعية، قبل محظورات السلطة السياسية،  فالأخيرة قد تكون أكثر مرونة وتسامحاً ، كما أن السلطة السياسة عادة لا تغامر بإثارة السلطتين الدينية والاجتماعية، فقد تم منع عرض فيلم سامر البرقاوي "يسري نضرالله" الذي يعبر عن هذه الحالة بالذات، ويتناول في دقيقتين فكرة على غاية من الحساسية، وهي أن أبناء وادي النصارى يعتقدون أن هناك خطأ مطبعي وضع نقطة فوق حرف الصاد ليصبح اسم الوادي "وادي النضارى" على اللوحة الموضوعة عند مدخل الوادي، فيقومون بإزالة الحرف، فتعود البلدية وتضع النقطة فيقوم أبناء البلدة بإزالتها مجدداً مما يضطر البلدية الى ثقبها ثقباً. وقد خشيت الرقابة من السماح بعرض هذا الفيلم ليس لانتقاده سياسة الحكومة التي تتوخى النأي عن المسميات الدينية، وإنما خشية إثارة نعرات طائفية أو بلبلة اجتماعية، مع أن تلك الأفلام ينحصر عرضها في مناسبات ثقافية محلية، وتكاد تكون مبادرة مجلة "الوردة" الوحيدة التي التفتت الى أهمية إقامة تظاهرة فنية تتيح عرض هذه الأفلام، عبر تظاهرة أقيمت في حزيران الماضي باسم "تظاهرة الوردة للسينما العربية المستقلة". ولم تكن المناسبة فرصة للكشف عن إنتاج الشباب السينمائي المستقل وحسب ، بل فرصة للمؤسسة العامة للسينما كي تلتفت الى هؤلاء الشباب. وقد دعمت التظاهرة الى حد بعيد رغبة منها في تجديد شباب السينما عبر جيل جديد من المخرجين، إلا أن الكثيرين  يعتقدون ان السينما المستقلة لن تغير شيئاً في واقع صناعة السينما المفتقدة، أولاً: لأنها سينما لا تخضع لمعايير الصناعة والتجارة، وثانياً: وهو الأهم، أن إيجاد صناعة سينما حقيقية يحتاج الى إرادة سياسية لاتخاذ مجموعة من القرارات الكفيلة بإزالة كافة العوائق أمام عودة السينما وإفساح المجال أمام المال الخاص ليستثمر بهذه الصناعة، كما سبق وجرى مع صناعة الدراما التلفزيونية التي انطلقت بعد تحرير هذا القطاع وتقديم التسهيلات اللازمة، ما أدى إلى ازدهار إنتاج الدراما السورية بما يشبه الطفرة. ويرى البعض أن الذي يمنع تعميم تجربة الدراما التلفزيونية على السينما، تكمن في أن السينما كي تكون سينما لا بد أن تكون حرة وغير خاضعة لسوق تتحكم به الرقابات العربية بمختلف أنواعها.  من هنا تبدو السينما المستقلة الخيار الوحيد أمام الشباب للحفاظ على روح هذا النوع من الإبداع، لأنه وبحسب رأي مجمع عليه وعاد وأكد بشار إبراهيم في حديثه للشرق الأوسط: "غياب صناعة السينما لا يعني إلغاء الشكل الفني والتعبيري للسينما".
اهتمام دولي
واللافت حيال ظاهرة السينما المستقلة السورية الاهتمام الدولي بها، والذي ينبع أساساً من الاهتمام برصد التحولات في الداخل السوري يُعبر عنها الشباب  من خارج مربع الرأي الرسمي، فجاءت السينما المستقلة  لتلبي هذه الحاجة، وتقدم سوريا كما تُرى من الداخل. وقد رصدت أفلام الشباب التسجيلية بحساسية عالية الواقع من حولهم، لكنها وقعت في مطب السوداوية والإحباط، بتركيزها على موضوعات العزلة والوحشة والغربة عن المحيط، وهو المأخذ الذي يسجل عليها من قبل النقاد، ويصفها الصحافي منصور ديب بأنها "أفلام يائسة وتفتقر للمتعة"،  كما يراها آخرون مجرد "سينما هواة"، أقرب الى بطاقة تعريف بإمكانيات المخرجين الشباب من خلال أفلام تنتج بأقل تكلفة مالية ممكنة، وهذا سبب كاف برأي البعض لتشجيع صانعيها، الذين يصرون على خلق فرص لأنفسهم  في بلد فقد اتصاله بالسينما التي تعرض على شاشات ضخمة في صالات معتمة، وبات اطلاعه على السينما العالمية من خلال شاشة التلفزيون  ونسخ DVD، ونادراً ما يحصل على فيلم جيد، إذ أن سوق DVD  يهتم بالأفلام التجارية الرائجة، كما هو أيضاً حال دور عرض أمست استراحات لعابري السبيل والمراهقين الهاربين من المدارس.
غياب صالات العرض
الصالات التي كانت تنتشر في غالبية المدن السورية وحتى القرى الصغيرة، والتي كان يقارب عددها 170 صالة، يكاد ينحصر اليوم وجودها في المدن الكبرى، ودمشق التي يعادل عدد سكانها ثلث سكان سورية البالغ نحو 18 مليون نسمة، لا يوجد فيها سوى 14 صالة عرض تتركز في وسط المدينة التجاري، ثلاثة  منها فقط يرتادها ما تبقى من جمهور للسينما راح يتضاءل بعد 8 آذار 1963، و احتكار إنتاج واستيراد الأفلام من قبل المؤسسة العامة للسينما المستقلة إدارياً ومالياً والتابعة لوزارة الثقافة، ومع أن الغاية التي أحدثت من أجلها كانت توفير استوديوهات ونواد سينمائية ونشر الثقافة السينمائية، إلا أن قانون احتكار الاستيراد والقانون الضريبي قضى على الصالات الموجودة، وحولها إلى ما يشبه الخرائب، لم يعد ينفع معها إلغاء قانون حصر الاستيراد عام 2001 ، لأن عملية استيراد الأفلام ما تزال تعاني من تعقيدات روتينية تؤخر وصول الفيلم، هذا إذا لم تمنعه الرقابة، وفي حال وصوله يكون سوق الـ DVD  قد عممه على جمهور السينما بسعر 50 ليرة (1$) وهو أقل من ثمن بطاقة الدخول، الذي يصل إلى 150 ليرة (3 $) في الصالة الوحيدة الصالحة للارتياد بدمشق. وبذلك تكون صناعة السينما في سوريا قد افتقدت أحد أهم ركائز وجودها، والذي هو السوق، ولذا يقول النقاد عن السينما السورية أنها تنتج للعرض في المهرجانات، حيث تقوم المؤسسة بإنتاج ثلاثة أفلام على الأكثر كل سنتين. ويقول  منصور ديب وهو متابع مثابر للسينما السورية والعالمية وله مساهمات نقدية: "إن المؤسسة العامة للسينما، ليست مؤسسة بمعنى جهة تُعنى بصناعة السينما، وإنما هي أقرب الى جمعية خيرية أو جهة حكومية مانحة تعطي إعانة لمخرج من موظفي المؤسسة كي يصنع فيلماً، وتطالبه بنيل الجوائز، وإذا لم يحز على جائزة تلقي باللائمة عليه، أي أن المؤسسة غير معنية بترويج هذا المنتج والربح، وبالتالي هي تنتج أفلام لليست للعرض!!" 
للإنصاف
وللإنصاف في البداية سعت المؤسسة العامة للسينما للاعتماد على نفسها كجهة إنتاج، وكانت المرحلة الممتدة  ما بين عامي 1963 ـ 1975 مرحلة التأسيس، حددت فيها التوجهات الفكرية لسينما القطاع العام، وانحصرت ضمن سياق الهم القومي ومعالجة أكثر قضاياه أهمية، وعلى رأسها الوحدة العربية والقضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل. إضافة للقضايا الاجتماعية والصراع الطبقي. إلا أن الحصيلة كانت مؤسفة بعد مضي ما يقارب أربعة عقود على إنشائها، وبدل أن تقوم صناعة سينمائية حقيقية تستثمر رأس مال القطاع الخاص أو العام، صارت صناعة قطاع عام تعنى بالمضمون العقائدي، على حساب الفن والكم والترويج، وهذا ما جعل السينما السورية النخبوية والجادة تُسقط من حساباتها شباك التذاكر والمتفرج العادي، وقد ساهم هذا التوجه إلى حد كبير في عرقلة قيام صناعة سينمائية بمعناها الحقيقي. فالقطاع الخاص لن يغامر بتمويل أفلام "نخبوية" كما يفضل مخرجوها وصفها، والتي توصف شعبياً بأنها أفلام غير مفهومة مغرقة بالرموز. وهي ظاهرة بدت واضحة بداية عقد الثمانينات مع عودة مجموعة من المخرجين الموفدين إلى معاهد الاتحاد السوفياتي سابقاً، بدأت بتقديم أفلام روائية طويلة. وكان لدراسة ذلك الفريق من المخرجين في موسكو تأثير واضح في جعل غالبية أفلامهم تمتلك روحية واحدة ورؤية متشابهة وتوجهات متقاربة تنحو إلى الذاتية، فبدا كل مخرج وكأنه ينجز فيلماً حول المدينة أو القرية التي عاش فيها وذكرياته عنها. فكان لها سمات السينما المستقلة بمال حكومي، فيما عرف بـ"سينما المؤلف"، حيث يكتب المخرجون سيناريوهات أفلامهم، وهو ما مهر مجموعة من الأفلام السورية بطابع الهواية والتجريب وغياب الاتقان.  ناقد سينمائي عتيق رفض ذكر اسمه حرصاً على علاقته الشخصية مع أصدقاء وزملاء غالباً لا يقبلون رأياً نقدياً صارماً، ويبرر ذلك بأن صاحب الفيلم ليس على استعداد لتقبل أي نقد يوجه إليه، لاسيما وأن فيلمه أشبه بـ"بيضة الديك"، وسوف يحتاج للانتظار حوالي عشر سنوات لتأتيه فرصة إنتاج فيلم جديد، ويقول هذا الناقد: "المشكلة أن أغلب هذه الأفلام لا تزيد عن ترداد لمؤثرات سينمائية خلال سنوات دراستهم في أفضل الأحوال، وفي أسوئها مجرد تقليد بليد لأفلام أعجبوا بها، فنلاحظ مدى تأثرهم بأفلام بارادجانوف وتاركوفسكي وبرغمان، وعموماً بمخرجي أوربا الشرقية البارزين، دون الانتباه إلى أنهم ينتزعون تجربة فنية من سياقها، ويضعونها في سياق آخر، تجربة فنية نتاج رؤية مختلفة، لهذا لا تحظى بالتجاوب المطلوب من المتلقين حتى المثقفين منهم".
والمشكلة كما يوصفها بشار إبراهيم في أن " الأسماء السينمائية التي تكرست ما تزال متحصنة  وراء  المؤسسة الرسمية التي تحفظ لها حقوقها ، بينما الشباب محكومين بتقديم الجيد والمتميز والمختلف وهذه سمة الإبداع" 
لابد من التفاؤل
من هنا لا بد من التفاؤل بما ينتجه السينمائيون الشباب وبما يحققونه، وأياً كانت الملاحظات على تجاربهم ، فإن غزارة الإنتاج هي الوحيدة الكفيلة بخلق تراكم خبرات يبلور شخصية فنية للسينما المستقلة كخطوة أولى نحو سينما سورية جديدة ، ومن الجدير بالذكر أن سينما الشباب كشفت عن مواهب تعد بجيل من المخرجين والمخرجات، وهو ما يستحق الاهتمام طالما كانت مشاركة النساء السوريات في السينما ضعيفة، في حين يذكر أكثر من عشرة شابات أنتجن أفلامهن الخاصة التي عبرت عن رؤيتهن الفنية بجرأة  كالقاصة عبير أسبر  وجود كوراني ولبنى حداد وهنادي العمري ولينا العبد و ديانة جيرودية  وأخريات قدمن إضافة لا يمكن إغفالها مهما بدت متعثرة.
 فثمة ما هو جدير بالرعاية والتشجيع لدى الشباب السوري ، لجعله يتجاوز حالة الانكسار التي تسكنه وتمنعه من مخاطبة المهرجانات الدولية من أجل المشاركة، فهم يمتلكون الإرادة لكنهم محبطون، ولغاية الآن لم يمتلك كثير من هؤلاء الشباب الثقة الكاملة بأعمالهم، فلا يسعون لعرضها كما يفعل نظرائهم في الدول العربية الأخرى، ويرجح الناقد بشار إبراهيم أن يكون السبب في ذلك إلى أن السينما المستقلة في سوريا لا تزال محاولاتها خجولة في طرح العديد من القضايا، ولا يزال هناك خوف كبير لا سيما في مناقشة القضايا الحساسة كالدين والجنس ، وهو الذي يبدو الشباب المصري واللبناني أكثر جرأة  في طرحها  ومناقشتها دون مواربة . 
ولعل أهم ملاحظة ساقها إبراهيم في هذا الخصوص تعمد العديد من الأفلام المستقلة الشبابية تصوير "العيون" في إشارة الى أن المكاشفة التي تتيحها لغة العيون ما تزال بعيدة، كما أن العين كمفتاح للتواصل تغيب عن بعض الأفلام تعبيراً عن انقطاع التواصل،  فهناك فيلم " وجوه " لأياس مقداد يحكي عن الوجوه من خلال الأقدام حيث لا يظهر أي وجه في الفيلم الذي تبلغ مدته خمس دقائق، وكذلك كان فيلم "القارورة"  11 دقيقة  لديانا جيرودية والذي حذفت فيه عيون النساء ، وتم التركيز على المنطقة الممتدة من تحت العين الى البطن، حيث لا وظيفة لبطن المرأة سوى الامتلاء بالأولاد والتفريخ.  وكأنما تلك الأفلام تريد القول طالما نحن غير قادرين على المكاشفة لا نستطيع النظر بعيون بعضنا بعض، ويرى في ذلك بشار إبراهيم أسلوب فني للتعبير عن وجود رغبة قوية في قول كل شيء لكن لا نستطيع المضي حتى النهاية.
وربما هذا هو التعبير الأبلغ ليس عن حالة سينما الشباب المستقلة ، بل عن حالة سورية عامة .   

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 

المتعة المفتقدة


هل أنت ذاهب إلى السينما؟! سؤال يعبر عن الدهشة وعدم استحسان، وكأن الشخص الذي يرغب بالذهاب إلى السينما يشكو من مبالغة بالأناقة بغير مناسبة. بينما كان السؤال نفسه منذ حوالي أربعة عقود أو أقل ينم عن الحسد الجميل لهذه الرحلة في الظلام مع سحر النجوم، حين كانت تذهب العائلات إلى دور السينما كمناسبة احتفالية تتطلب ملابس سهرة وطقوس وترقب مثير، فالحفلات العائلية تقتصر على عروض الساعة التاسعة مساءً ( سواريه)، وحفلات الساعة السادسة (ماتينه) على الشباب من الجنسين، كما كانت حفلة يوم الأحد الساعة  الثالثة ظهراً حفلة مشهودة لطلاب وطالبات المدارس الإعدادية والثانوية، حيث تندلع النظرات الغرامية أثناء الاستراحة وقبل العرض وبعده. ويذكر السوريين الجدل الكبير الذي قاده علماء الدين في أواخر الأربعينات احتجاجاً على الحفلات المختلطة للنساء والرجال، بعدها خصصت أيام محددة للنساء، كما كان هناك من يعتبر ارتياد النساء للسينما منافياً للعادات والتقاليد المحافظة في المجتمع السوري، ويروى عن رجل دين من مدينة حماه أنه كان متشدداً بهذا الخصوص واصدر فتاوى تحرم حضور السينما على النساء، إلا انه كان يرسل بناته سراً إلى حمص بصحبة أحد أقربائه، لمشاهدة الأفلام !!.
في تلك المرحلة كانت السينما ما تزال في سورية فناً مستجداً على الحياة الاجتماعية، فأول عرض سينمائي صغير أقامه أجانب قادمون من تركيا، في إحدى مقاهي مدينة حلب عام 1908. ويعتبر العرض  الذي أقامه حبيب شماس في مقهاه في دمشق1912 البداية الرسمية لدخول السينما، وفي عام 1916 أنشأت الدولة العثمانية أول صالة عرض للرسوم المتحركة. أما على صعيد الإنتاج السينمائي فبعد سنة واحدة من انطلاقته في مصر عام 1927بفيلم "ليلى" من إنتاج وبطولة عزيزة أمير؛ تم إنتاج أول فيلم سوري روائي طويل هو( المتهم البريء) عام 1928على يد مجموعة من الشباب وهم أيوب بدري، أحمد تللو، محمد المرادي، رشيد جلال. والطريف أن أيوب بدري كان يوهم المتفرجين أن أفلامه ناطقة حيث كان يجلس وزملاؤه في الصالة خلف المايكرفون ويقلدون الأصوات في الفيلم.
 بعد استقلال سورية بعام واحد، أنشأ نزيه الشهبندر أستوديو جهزه بمعدات معظمها من صنعه، لينتج أول فيلم سوري ناطق عام 1948 بعنوان "نور وظلام" تأليف وسيناريو محمد شامل وعلي الأرناؤوط ، ومثل فيه رفيق شكري وإفيت فغالي وأنور البابا وحكمت محسن ونزار فؤاد وسعد الدين بقدونس، بينما نطق الفيلم المصري مبكراً بالقياس إلى الفيلم السوري في فيلم "أولاد الذوات" عام 1928بعد أول فيلم أمريكي ناطق في العالم كله وهو "مغني الجاز" في عام 1927.
في الستينات لعب واقع السينما المصرية وتراجع إنتاجها بسبب سياسة التأميم التي  فرضتها المرحلة القومية الناصرية والتوجهات الإشتراكية، في دفع المنتجين والمخرجين المصريين نحو سورية للعمل، فكانت معظم أفلام هذه المرحلة من إنتاج مشترك سوري لبناني، أو سوري مصري، من إخراج مصري، وأنشأت في تلك الفترة شركة سيريا فيلم التي استفادت من نجاح الثنائي دريد ونهاد، لإنتاج  سلسلة أفلام تجارية ترفيهية.
تعتبر فترة الستينات الفترة الذهبية في حياة السينما السورية من حيث الإنتاج، والاستيراد و سوق العرض، حيث احتلت السينما كفن مكانها المرموق في المجتمع. ومازال  للسوريين حتى اليوم أبطالهم وبطلاتهم، يتقاسمهم أفراد العائلة الواحدة، من نجوم الشاشة المصرية العرب من عقود الثلاثينيات حتى التسعينيات أمثال أنور وجدي وليلى مراد وشكري سرحان وأسمهان وعبد الحليم حافظ وشاديه وسعاد حسني، احتلوا مكاناً خاصاً في قلوبهم، بل وهام غالبيتهم بهم شغفاً مثل نجوم السينما الغربية وربما أكثر أمثال: غريتا غاربو وكلارك جيبل، وهيمفري بوغارت واستر وليمز، وروك هدسون ودوريس داي وغيرهم، ممن تختلط صورهم مع ذكريات عاطفية و مغامرات الحب الأول واستراق لمسات ملتهبة في العتمة، يزيد تؤججها مشهد غرامي على الشاشة الكبيرة. وربما ذلك ما يضفي على السينما سحراً لا ينقصها، وإذا كانت دائماً ترافق حياتنا بمسحة من حلم فلأن السينما حلم عظيم حقيقي ومبهر، مهما كانت كوابيسها خانقة في بعض الأحيان.
كُتب للمشاهد السوري منذ السبعينات أن يسير في طريق الحرمان منها تدريجياً، حتى فقدها تماماً مع تدهور أوضاع صالات العرض، بحيث لم تعد صالحة لاستقبال العائلات،  بينما افتقدت الصالات الباقيه على قيد العرض وغير الملائمة، إلى جمهورها العريض، وإذا أمكن لجدران الصالات الشعبية النطق فسوف تشكو من اختفاء النسوة بملاءتهن السوداء وبكاء الأطفال الرضع لحظة انطفاء الأضواء، وأصوات العابثين من الشباب الذين يصرخون: "عطيه بزو" ‍‍!!   
 ويمكن الحديث عن عدة أجيال من السينمائيين في سورية:
الأول، جيل الرواد الأوائل الذين أسسوا لدخول صناعة السينما إلى سورية، وهم: أيوب بدري، رشيد جلال، نزيه الشهبندر، إسماعيل أنزور، يوسف فهدة، وزهير الشوا.
 والثاني، جيل الرواد التالي مثله مخرجون انطلقوا من المؤسسة العامة للسينما، ووضعوا أسس القطاع العام السينمائي، ومنهم صلاح دهني، محمد شاهين، خالد حمادة، نبيل المالح، مروان حداد، وغيرهم. أنتجوا أفلاما غطت فترة السبعينيات.
الجيل الثالث، مخرجو الثمانينات ممن رفدوا إنتاج القطاع العام بمجموعة جديدة من الأفلام السورية المتميزة والناجحة على الصعيد العربي وفي طليعتهم، محمد ملص، عمر أميرلاي، سمير ذكرى، أسامة محمد، عبد اللطيف عبد الحميد، ريمون بطرس وآخرون.. 
يرى الكثيرون في الإنتاج الضئيل للسينما السورية، وما حققته من تميز فكري أحياناً ونجاحات أسلوبية، إنه ليس أكثر من سينما وليدة لم تتكون ملامح هويتها، أو تتمكن من أدواتها بعد، بينما يرى آخرون أن الأفلام السورية التي ذاع صيتها، أو أثارت ضجيجاً لدى عرضها في المهرجانات، فإنما جاء ذلك بسبب تناولها لبعض المحظورات السياسية والاصطدام مع الرقابة، كما حدث مع أكثر من فيلم، ومن المفارقة أن تلك الأفلام هي من إنتاج مؤسسة السينما، إلا أن الترويج  الثقافي لها يضعها في خانة المعارضة، وتكاد تكون هذه القيمة الرئيسية لغالبية تلك الأفلام !! وهي التي تجنبها الخضوع لمحاكمة نقدية فنية، ولو تم ذلك لن يبقى منها إلا قلة قليلة من الأفلام التي يصح عليها صفة فيلم سينمائي، لا مجموعة هذيانات بصرية، وإيحاءات سياسية وفكرية ثقافوية، يغيب عنها الحدث والسرد المترابط، من العسير فهمها. ومن اللافت أن مرض الهذيان والشخصانية الذاتية فيما يعرف بسينما المؤلف ، انتقلت عدواها الى سينما الشباب المستقلة، فغرقت هي الأخرى في الزعبرة الثقافية، على حساب الفن، وهذا فرض عليهم غياب السينما عن الساحة السورية، والتي شغلت  بأفلام لمخرجين يعتبرون اليوم شيوخ سينما غائبة، بسبب إشكاليات بنيوية تعاني منها، وفقدان التواصل بين القطاعات المنتجة للسينما، وغياب منهجية اقتصادية وإعلامية متكاملة لصناعة السينما، وتخلفها عن الركب التقني والفني العالمي، وضآلة التراكم الحرفي لدى غالبية العاملين فيها. ولا يزال معظم النتاج السينمائي السوري يندرج ضمن المحاولات الفنية الأولى، وقد لا يصل عدد الأفلام الروائية الطويلة التي أخرجها أي مخرج سوري إلى عشرة أفلام، وجلها يفتقر إلى رؤية فنية متكاملة. ولو أحصينا  الأفلام السورية الطويلة منذ عام 1928 وحتى اليوم لما بلغت200 فيلم، وهي كمية الإنتاج نفسها التي كانت مصر تنتجها خلال بضعة أعوام في أيام ازدهارها الاقتصادي والإنتاجي، ففي إحصاء عام 1969 بلغ عدد الأفلام المصرية المنتجة خلال أربعين عاماً حوالي 1500 فيلم.


 

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...