المذهب الشيعي في المنظور الغربي
"لا يجوز تصنيف الإسلام إلى أرثوذكسية سنية وهرطقة شيعية، أو تصنيف أتباعه إلى سنة كاثوليك وشيعة بروتستانت، ليس لأن هذا أبعد من معرفتنا كدارسين غربيين، بل لأنه ليس في مقدورنا تحديد من المهرطق ومن المحافظ في الإسلام"..(برنارد لويس 1987)
تتفاوت مناهج الدراسات الغربية تجاه التيارات الفكرية في العالم الإسلامي حسب تباين الظروف السياسية التي دونت فيها تلك الدراسات. ومع الانتعاش الذي تشهده دور النشر الغربية المعنية بالدراسات الشيعية منذ سقوط بغداد يبدو مفيدا لو راجعنا تطور النظرة الغربية للفكر الشيعي ومكانته في مسار الفكر الإسلامي بعمومه. يمكن اعتبار القرن الـ12 الميلادي بداية المعرفة الغربية بالشيعة كتنظيم سياسي مع الحملات الصليبية وتواتر الأخبار المثيرة إلى الغرب عن فرقة الحشاشين وبعض من الأخبار الممزوجة بالتشويق والمغالطة عن شيعة سوريا وفلسطين.
ويشير الباحثون الغربيون إلى دور وليم الصوري، أهم المؤرخين المسيحيين للحملات الصليبية في القرن الـ12 الميلادي، في تعميم الصورة عن الشيعة، حين نسب إليهم الاعتقاد بخطأ جبريل (عليه السلام) في تبليغ الرسالة، حين أسقط الصوري معتقدات طائفة الغرابية المهرطقة على الشيعة بشكل عام. وسار على نهجه مؤرخو الحملات الصليبية وفي مقدمتهم يعقوب دي فيتري مطران عكا في النصف الأول من القرن الـ13 الميلادي، وذلك حين ترجم معلومات لبعض الطوائف ونسبها إلى الشيعة، وفي مقدمتها القول بأن عليا نبي فاقت مكانته مكانة محمد (صلى الله عليه وسلم).
وكانت أولى المعلومات التي جاءت عن الشيعة الاثنا عشرية من الخبرة والممارسة تلك التي قدمها المؤرخ والمنصر الشهير ريكولدو ديمونتو كروس حين نقل للقارئ الغربي مسألة ما يسميه الشيعة "اغتصاب الخلافة".
ومن خبرة ريكولدو الميدانية انتقلت إلى القارئ الغربي المقولة التي صارت مهمة منذ ذلك الحين، وهي أن "الشيعة أقل شيطنة من الأغلبية السنية".
ظلت هذه الأفكار المغلوطة لعدة قرون قبل أن تتم النقلة المهمة في المعرفة بتفاصيل المذهب الشيعي مع صعود الدولة الصفوية وتطور الروابط السياسية والثقافية مع الغرب في زمن المواجهة مع الدولة العثمانية السنية.
ففي تلك المرحلة زاد عدد الرحالة والدبلوماسيين الغربيين والناشطين في مجال التنصير، ونقلت تفاصيل شبه موضوعية عن الشيعة الاثنا عشرية كما تمت ترجمة كتب أصولية في الفكر الشيعي عن اللغة الفارسية.
وفي خضم الثورة المعرفية الاستشراقية في القرن 19 حلت إيران محل بلاد الشام والعراق كمصدر للمعرفة من خلال تقديم مجموعة من الكتب والدراسات ذات رؤية نقدية وخبرات ميدانية مباشرة، كان أهمها ما قدمه جوزيف جوبينيو في مراجعته لصراع النقل والعقل في الفكر الشيعي الفارسي. وكانت كتاباته مصدرا أوليا لتفاصيل التمثيل المسرحي لمعركة كربلاء واستشهاد الحسين (رضي الله عنه).
ويعتبر جوبينيو أهم من ربط بين التشيع وديانات فارس ما قبل الإسلام. ففي كتابه "ثلاث سنوات في آسيا" يرجع جوبينيو مبدأ تبجيل الأئمة إلى تقديس كهنة الزرادشتية. كما اعتبر جوبينو في كتابه "ديانات وفلسفات آسيا الوسطى" الفكر الشيعي حركة انشقاقية وثأرا مبطنا لـ"الاحتلال العربي لأرض الفرس".
ومع ما لهذه الرؤية من شعبية واسعة لدى منتقدي المذهب الشيعي من بعض السلفيين وكثير من القوميين العرب المتوجسين من الأطماع الإيرانية، فإن نفرا من الباحثين الغربيين دلل غير مرة على أن التشيع الفارسي على النمط الذي صوره جوبينو لم يبدأ سوى متأخرا مع إيران الصفوية.
تناقضت الصورة المتخيلة في الغرب عن الفكر الشيعي في نهاية القرن الـ19 نتيجة تباين الخبرات الفردية للمنصرين والرحالة والدبلوماسيين، فالمستشرق فون كريمر يؤكد على "التعصب المفرط للشيعة وعدم تحملهم لغيرهم من أتباع الطائفة المحمدية" في الوقت الذي دلل فيه المستشرق كارا دي فو على أن الشيعة "ذوو تفكير حر متفتح مقارنة بالعقلية المتحجرة لدى الأغلبية السنية".
زادت الصورة التباسا باحتلال الرواية والخيال محل العلم والفلسفة، إذ لم يخل الأمر من صدور بعض الكتابات ذات الصبغة الروائية على غرار ما قدم الدبلوماسي البريطاني جيمس مورير في رواية "حجي علي بابا الأصفهاني" التي نشرها عام 1824 وعالجت التشيع الفارسي بشكل "هزلي".
لكن حين أحكمت بريطانيا قبضتها على الهند صارت الأخيرة مصدرا مهما لدراسة الشيعة وبصفة خاصة الإسماعيلية والاثنا عشرية. وترجمت بعض الأفكار الرئيسة من كتب المذهب الشيعي إلى اللغة الإنجليزية وفي مقدمة هذه الكتب "شريعة محمد" و"تحرير الأحكام وإرشاد الأذهان" و"حياة القلوب" و"بحار الأنوار". اتجهت الدراسات الغربية في مطلع القرن الـ20 نحو الأبعاد التناظرية، فربط بعضهم، مثل المستشرق لويس ماسينون، بين السيدة مريم العذراء والسيدة فاطمة الزهراء، كما قابل آخرون رمزية صلب المسيح باستشهاد الحسين.
بل زاد بعض الباحثين الغربيين– بعيدا عن جدل شخصية عبد الله بن سبأ في الوسط العربي- معتبرا شخصية الحسين المحورية في العقيدة الشيعية انتحالا لشخصيات يهودية ومسيحية تحمل خطايا الأنصار وتفتديهم (المسيح المخلص) وتمضي خلف رسول بطل يقف في وجه الطغيان ويقود قومه إلى دار السلام (موسى عليه السلام).
وفي النصف الثاني من القرن الـ20 تُرجم العديد من الكتب الشيعية وبصفة خاصة بعد عقد المؤتمر الدولي للحوار مع الشيعة الاثناعشرية عام 1968 في ستراسبورغ (فرنسا) بمشاركة كبيرة من علماء الشيعة في مقدمتهم السيد موسى الصدر.
ورغم الدور الإيجابي الذي لعبته الترجمات الأوروبية لأعمال المفكر الإيراني علي شريعتي وانتقاداته الساخرة لركود الفكر الشيعي في إيران الشاه، وبصفة خاصة في كتابيه "دين ضد الدين" و"التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، انطلق زخم الاهتمام الغربي بالمذهب الشيعي سريعا بعيد الثورة الإيرانية التي شغلت الجميع.
منذ منتصف القرن الـ20 بدأ المفكر البريطاني اليهودي الأصل برنارد لويس (الذي أكمل السنة الماضية عامه الـ90) دراساته الجادة عن الفرق الشيعية وبصفة خاصة في كتابيه "الإسماعيلية" و"الحشاشون".
وفي غضون عقدين من اشتغاله بهذه المهمة انتقل لويس إلى زاوية المراجعة النقدية للصورة النمطية الموروثة عن الشيعة والتشيع التي أرستها ترجمات وملاحظات القرون الماضية.
يعتبر لويس رؤية الإسلام بعيون مسيحية ليس أسلوبا علميا دقيقا، فلم يعرف الإسلام مجامع كنسية أو بابوية ليتم تفسير الانشقاقات التي تعرض لها بعيون النصرانية.
وعمل لويس على تفكيك النظرة الغربية التي رأت في التشيع حركة عرقية فارسية (آرية) ردا على مركزية الحكم العربي السني (السامي)، معتبرا أن هذه النظرة جاءت من تفسيرات محلية للأحوال السياسية التي عاشتها أوروبا وبصفة خاصة بعد تجربة ألمانيا النازية.
وفي العصر الذي كانت فيه أوروبا ترتجف فيه من هواجس الصراع الطبقي والحرب الأيديولوجية بين الطبقات في أعقاب صعود الماركسية وبناء الاتحاد السوفياتي، نظر إلى الشيعة كممثلين للجماهير المقهورة، بينما كان السنة مثالا للمؤسسات البرجوازية المهيمنة المستغلة.
هنا أيضا يرفض لويس ذلك المنهج في التصنيف، معتبرا أن إسقاط التجربة الماركسية على تاريخ نشوء الفرق في الإسلام جد خاطئ.
ماذا يريد لويس من وراء هذا؟ بين السطور التي خطها لويس نجد أن الإسلام –وليس التشيع- كان منذ لحظة ميلاده ثورة وخروجا على الحكم المستبد وإعادة بناء النظام الطبقي وترتيب الحياة السياسية بشكل انقلابي.
الرسول محمد (صلوات الله عليه) في نظر لويس أول زعيم ديني معارض في المجتمع العربي يقود جماعة من المؤمنين في كفاح ضد الاستبداد والاستعباد ويبني دولة لا طبقية. ومن ثم فإن تحضير الخميني لثورته من ضاحية "نوفل لوشاتي" قرب باريس ليس سوى تكرار لما حدث قبل 1400 سنة حين لجأ الرسول محمد (صلوات الله عليه) إلى المدينة ليقيم ما يسميه لويس "حكومة المنفى" يعود منها متقدما جموع "الثوار" لفتح مكة و"قلب نظام الحكم".
المقاربة الماركسية التي رفضها لويس من قبل عاد ليتبناها مع أفكار أخرى مبثوثة تصرح بأن الهرطقة ليست بدعة شيعية، بل هي أصيلة في هذا الدين.
يحاجج لويس – بقراءة انتقائية للتاريخ الإسلامي- مدعيا أن في تاريخ الإسلام كثيرا من الهرطقة، وعديدا من صور الاستغلال والبرجوازية والتحيزات العرقية والقبلية.
وينصح لويس الباحثين الأوربيين بأن يضعوا ذلك أمام أعينهم حتى لا يسقطوا في شرك التصنيف السطحي الذي اتبعته المناهج الأوروبية لرؤية العالم الإسلامي منقسما انقساما ساذجا إلى شيعة محرومين وسنة مستغلين، فالمحرومون والاستغلاليون كانوا دوما في كلتا الجماعتين.
تركت المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني رائحتها في بعض القراءات التي وصلت إلى الغرب، حين حاولت بعض الأقلام اللبنانية في الدوريات الفرنسية إقناع القارئ أن الفلسطيني هو "حسين" هذا الزمان يلقى التعذيب والقتل على يد "يزيد" الإسرائيلي الذي "اغتصب" أرضه وأخضعه لحكمه الظالم.
كما انتقلت الدراسات الغربية في الفترة التي تلت الثورة الإيرانية من نظريات التأصيل الفلسفي إلى تطبيقات الجغرافيا السياسية للأقليات الشيعية.
كان شيعة الأحساء والقطيف في السعودية وشيعة البحرين والكويت وشيعة لبنان النماذج الأكثر أهمية في هذه الدراسات، ليس فقط لتفحص إمكانية نجاح النموذج الثوري الإيراني في هذه المناطق، بل لجمع معلومات بالغة التفصيل عن حياة المجتمع الشيعي، بدءا من الطموحات المشروعة للحصول على فرص متكافئة في العمل والمشاركة السياسية وصولا إلى خبايا الدور السياسي والديني للحسينيات وتوجهات علماء الدين الشيعة وارتباطهم الملتبس بالمرجعيات الإيرانية والعراقية.
بعض من هذه الدراسات انتهزت الظرف السياسي لإحياء معلومات تاريخية، كدراسة جون كول حول الشيعة كأقلية عثمانية، التي قدمت مراجعة موسوعية لأوضاع الشيعة خلال التناحر الصفوي العثماني وأثره على تأجيج الكراهية المتبادلة بين أبناء المذهبين التي جعلت الشيعة والسنة في العراق والخليج ضحايا غرر بهم خلال الصدام السياسي بين القوتين الإقليميتين.
وبعد سقوط بغداد احتل والي نصر، الباحث الأميركي المهاجر من إيران، مكانة برنارد لويس على الساحة الإعلامية (مع البون الكبير بين القدرات الفكرية للرجلين لصالح العجوز المخضرم). وقد تمكن نصر من تقديم سلسلة من الدراسات عن الآثار الإقليمية لسقوط النظام السني في العراق وأثر تحول العراق إلى أول دولة شيعية في العالم العربي المعاصر، وما لذلك من إلهاب المشاعر السياسية والمذهبية في دول الجوار، وكان آخرها كتابه الموسوم "الصحوة الشيعية.. كيف سيغير الانشقاق الإسلامي المستقبل" الصادر قبل بضعة أشهر.
كرر نصر قبيل غزو العراق وبعده الإشارة إلى أن الغرب قد اكتشف أن حركات الإسلام السياسي الشيعية مثلت الخطر الأكبر على الغرب لولا الخدمة الجليلة التي قدمتها أحداث سبتمبر/ أيلول وصرفت الأنظار نحو "الشياطين" الأكثر خطرا من السلفيين.
ما تزال الدراسات الغربية عن الشيعة والتشيع تتدفق بحماسة، وتعقد لها عديد من الحلقات النقاشية، وتلتئم من أجلها موائد بحث مستديرة في أكبر مراكز الأبحاث الأميركية، وأشهرها مجلس العلاقات الخارجية الذي يشرف على المشروع البحثي المعني بتبعات صعود الشيعة.
يبدو من الصعب إنهاء ذلك الموضوع المتشعب بكلمات قليلة، لكن لا مفر من الختام بالتقرير بأن مئات الدراسات التي قدمت في الغرب ما تزال تحاول إزالة الالتباس الذي ترسخ حول المسألة الشيعية.
وهذا أمر ليس بمستغرب، ففي داخل الأوطان الإسلامية، وحيث يجاور السني الشيعي، لم تتخلص بعض المجتمعات بعد من الخرافات، والمفاهيم الأسطورية، والانصياع الأعمى لجمل مكررة يلوكها الجاهلون من الطرفين فتفرق بين أبناء الدين الواحد.
عاطف عبد الحميد
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد