"حوار الحفاة والعقارب" دفاعاً عن المقاومة
الجمل ـ سعيد زكريا : من العسير فهم ضرورة فكرة المقاومة والأهمية الملحة للتمسك بسلاحها، دون التركيز على المشهد العالمي وعلى الأخص الصراع الدائر في الشرق الأوسط. بعد سقوط الثنائية القطبية وانهيار جدار برلين وتحلل الاشتراكيات الأوربية الشرقية وتخلي روسيا عن الشيوعية والتحاقها بالنظام الرأسمالي العالمي بغية احتلال مكان لها في العولمة الجارية دون توقف. أثبتت أمريكا المنتصرة أنها الإمبراطورية الموعودة، القادمة بقوة والصاعدة دونما منافس. لكنها إمبراطورية قيد التأسيس وبحاجة إلى الكثير من الانتصارات الإضافية على عدو لا وجود له، وإن كانت تعتقد أنه لم تتضح بعد معالمه. وكان عليها في انتظار ظهوره أن تحسم توجهها وعقيدتها، هل ستستمر دولة قومية متعالية القوة مسؤولة عن مصالحها وأمنها فقط، أم أن أمامها دوراً كبيراً يتحدد في إعادة صياغة العالم وتغييره وفق مصالحها، وبما يطابق سلم قيمها الثقافية والسياسية؟
جاء سقوط برجي التجارة العالمية في نيويورك، إعلاناً عن العثور على العدو المرتقب، اندفعت بعده لتنفيذ خططها وسياساتها المعدة مسبقاً من قبل المحافظين الجدد الطموحين لتغيير العالم بالقوة ضد ما دعي بالخطر الإرهابي الإسلامي، مثلته منظمة "القاعدة" بزعامة ابن لادن أحسن تمثيل. كان من نتائجها تعميم نظرية الحروب الاستباقية، وبالتالي إطلاق القوات العسكرية الأمريكية لضرب عدو ما سواء كان واقعياً أو مفترضاً أو وهمياً، حتى لو توصل الأمر إلى استعداء بلدان مهما كانت بعيدة عن القارة الأمريكية. في الحقيقة كان العالم كله هدف أمريكا. والبداية هي الشرق الأوسط حيث النفط والمركز الاستراتيجي والخط الأمامي مواجهة الصين في العقود القادمة.
فكرة إخضاع العالم للشرطي الأمريكي مدينة للمحافظين الجدد، برزت تحت مقولة حراسة العولمة من أحفاد البرابرة الجدد، وضمت كل من يقف ضد هيمنة العولمة أو ينتقد سيرورتها أو يعيد النظر فيها؛ على أن يعامل وكأنه يقف ضد التقدم النبيل للإنسانية، ولا مبرر لهؤلاء الذين يعترضون طريقها، سوى أنهم يريدون العودة بالعالم إلى عصور الهمجية الدينية، بدعوى أنهم مصابون بعقدة الكراهية ومركب النقص والحسد. أمريكا لا تعترف بأسباب تاريخية، أو بظلم سابق، أو بفقر مدقع، أو مجاعات محتقنة، أو نهب لا يتوقف عند حد، أو احتلال مزمن، أو استعمار جديد. كان عنف العسكريتاريا الأمريكية حضارياً، أما عنف البرابرة فهو عنف مرضي.
شهد الشرق الأوسط طوال السنوات القليلة الماضية من الألفية الثالثة اتحاداً للسياستين الأمريكية والإسرائيلية. فإذا كان هدف أمريكا هو القضاء على إرهاب ابن لادن، فقد كان هدف إسرائيل القضاء على أبو عمار وأي دولة فلسطينية مرتقبة. تحت هذا الخطر، قامت أمريكا بتدمير دولتين أفغانستان والعراق، فيما قامت إسرائيل بتدمير وإزالة كل مؤسسات السلطة الفلسطينية ورموزها واستعارت سياسة الحرب الوقائية من أمريكا وعممت معها الاغتيال الوقائي والاختراق الوقائي والخنق الوقائي.
تظهر المقاومة مع تمادي الظلم، وبنظرة مقربة نلاحظ أن الاستبداد والقهر لم يتراجعان في العالم، وبالتالي لم تتوقف المقاومة أيضاً، العالم مرشح لمزيد من الحروب، أين العجب؟! حكومات العالم تضم بين وزرائها وزراء للحرب لا وزراء للسلام، عدا الفاتيكان. لو قدر لبلد مثل أمريكا اليوم أن تنشئ وزارة للسلام، فسوف يصار إلى اعتقال الرئيس بوش ونائبه تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد وعصابة المحافظين الجدد. لكن العدالة تسيرها القوة، فبينما كان للمقاومة مشروعية دائمة، نجدها مطاردة تحت تأثير الضغط الأمريكي، حتى باتت أوربا الديمقراطية صاحبة السجل الناصع في الثورات، تشكك في شرعية المقاومة!!
لكن نحن العرب المغلوبين على أمرهم مما أصابهم من ظلم تاريخي، ما دعوانا المضادة للمقاومة؟ ولماذا نشكك في مشروعيتها، ما دام تاريخنا الوحيد هو الهزائم وغزوات لم تهدأ، واستعمار ما أن يخرج حتى يعود، ونهب لم يتوقف ولم يرتدع؟ لماذا نتشبث بجيوشنا المهزومة، في حين عندما انتصرت المقاومة أكثر من مرة في لبنان، لاسيما مؤخراً، تخلينا عنها ولماذا تهافتنا بسرعة لا أخلاقية مطالبين بنزع سلاحها؟ ما هذا التفاني في تبني الهزيمة والخنوع وتعليق المقاومة الناجحة على منصة الإعدام؟ هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الكاتب السياسي نصري الصايغ في كتابه "حوار الحفاة والعقارب ـ دفاعاً عن المقاومة". ومثلما يبدو كتابه كتاباً في الأسئلة، فهو وبامتياز كتاب إجابات سديدة ومفحمة.
راج الكثير من الاتهامات حول دور المقاومة الإسلامية اللبنانية، رافقها الكثير أيضاً من الأقاويل والتخرصات الدارجة والأكاذيب، دحضتها لاءات المقاومة، وأثبتها تاريخها منذ نشأتها وحتى الآن، بالإضافة إلى الأحداث الأخيرة في حرب تموز وما بعدها. فعندما تصر المقاومة على أنها لن ترفع سلاحها في وجه اللبنانيين، ولن يكون في خدمة أي نظام أو دولة، لم يكن كلاماً في الهواء أو للاستهلاك المحلي والإقليمي والدولي، ولا ثرثرة في الفضائيات، بل كان رؤية سياسية عملية لا استمرارية للمقاومة من دون التقيد بها.
على أن أسوا ما وجه إليها هو اتهامها باسلاميتها...وبشيعيتها!! هل يعني هذا حسب الصايغ، أن لبنان غير طائفي...ماذا يقال عن "قرنة شهوان" مثلاً...هل قدم لبنان عبر تجاربه وأحزابه ومجالسه المتعاقبة نموذجاً لا طائفياً، أو نموذجاً مدنياً يحتذى؟
إن إسلامية المقاومة، لم تلغ لبنانيتها، ميداناً وعملاً ونتائج. هدفها كان التحرير، وطوال تاريخها لم تزح عن هدفها. ولم يكن التحرير لاقتسام السلطة أو لتقوية مواقع المقاومة في بنية الدولة؛ وإنما التحرير من أجل دحر الاحتلال واستعادة السيادة.
لا يتوقف نصري الصايغ عند هذه الحدود ولا يكتفي بها، وإنما يتوسع ويطرح بجرأة جميع الأسئلة التي يتبناها ضدها أعداؤها وخصومها والمشككين فيها والمتخوفين منها، وهذا بعض منها على سبيل المثال:
إذا انسحبت إسرائيل من مزارع شبعا المحتلة، هل يفرض هذا على المقاومة التخلي عن سلاحها؟
ما مقدار مسؤولية المقاومة في اهتراء السلطة؟
لماذا وقفت حاجزاً أمام تطبيق اتفاق الطائف؟
لماذا لم تنتظم كسواها في معسكر الدولة، وتقدم سلاحها، كما فعلت الميليشيات المتقاتلة في الحرب؟
ما حجج ما استنزفته المقاومة من بنود الموازنة السنوية اللبنانية ؟
لماذا تمنعت عن تسديد ثمن منشآتها المقامة على الأملاك البحرية والنهرية الممتدة على طول الحدود اللبنانية البحرية؟
لماذا سكتت عن حلف جهنمي مالي بين أهل السلطة وأهل المعارضة لإدارة الشأن العام؟
ما حجم مسؤولية المقاومة في هجرة الشباب اللبناني وزحفه غير المقدس للهروب من البطالة وانسداد الأفق؟
ما هو حجم مسؤولياتها في ترتيب 4 مليار دولار ديناً على اللبنانيين؟
بعد كل هذا نتبين أن السياسيين يريدون من المقاومة أن تكون سياسية فقط؛ وفي السياسة يريدونها أم تكون منزهة عن السياسة!! المطلوب في الحقيقة أن تخرج المقاومة من المقاومة والسياسة معاً. المطلوب اتاحة المجال للآخرين لبيع لبنان من اجل الإبقاء على نفوذهم وخدمة لمصالحهم الشخصية.
عشرات الأسئلة والتساؤلات والاتهامات يرد عليها الصايغ بحجج كانت بمنتهى القوة والوضوح. لينتهي إلى الإجابة عن سؤالين جوهريين: سلاح المقاومة خطر...على من؟ ومتى يكون هذا السلاح مضراً بلبنان؟
لا تأتي قوة الحجة في كتاب الصايغ من اللغة ولا من المماحكة أو الزعيق، وإنما من الواقع والحقيقة، لذا نقول غالباً ما نقرأ كتاباً بهذا الوضوح والجرأة والقدرة على مواجهة أكثر الأكاذيب وقاحة ودغمائية.
الكتاب: حوار الحفاة والعقارب دفاعاً عن المقاومة
الكاتب: نصري الصايغ
إصدار: رياض الريس للكتب والنشر 2007
الجمل
إضافة تعليق جديد