التضامن الإسلامي مع فلسطين
جاء كلام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن فلسطين باعتبارها قضية تُهمّ الشعب التركي، وتُهمّ المسلمين، مثيراً للانتباه والاهتمام. فقد قال السيد أردوغان ذلك على أثر تظاهرات مليونية جرت في اسطنبول ومدن تركية عدة. وقد حدث ذلك من قبل إبان الغزو الأميركي للعراق مثلاً، لكن تلك التظاهرات التضامنية ما كانت على هذا القدر من الضخامة، ولا على هذا القدر من الاستمرار. بيد أن الأكثر لفتاً للانتباه هو كلام أردوغان أكبر المسؤولين الأتراك. فتركيا دولة علمانية، والنظام عضو في حلف الأطلسي، وعنده علاقات ديبلوماسية وتعامل عسكري مع إسرائيل. وأردوغان يقول: تركيا بلد مسلم وتملك مسؤوليات تجاه القدس وفلسطين، ونحن ورثة السلطنة العثمانية. وهذا جديد بالنسبة الى المسؤولين الأتراك، الذين لا يعترفون بالإسلام ديناً للدولة منذ قيام الدولة القومية العلمانية التركية عام 1922. وهو جديد لجهة التذكير بالماضي الإمبراطوري الإسلامي العثماني لتركيا، وجديد أخيراً باعتبار رئيس الوزراء التركي نفسه زعيماً إسلامياً، وهو معنيّ ليس بالمجال الاستراتيجي لتركيا وحسب، بل وبالحركات الإسلامية في الجوار العربي، ومنها حركة «حماس»، كما قال. وينبغي ألا ننسى الوجوه المتعددة والمتجاورة لأردوغان وتركيا، فهو معنيّ منذ سنوات بالتفاوض بين سورية وإسرائيل، وقد قال الكلام السابق بعد أن جال على سورية (حيث تحدث أيضاً الى قادة حركة «حماس»)، والسعودية، ومصر، والسلطة الفلسطينية. وحاول أن يلعب دوراً في التوصل الى وقف للنار في غزة على خلفية توافق عربي مع سورية، وتوافق فلسطيني - فلسطيني، ومع أن مساعيه ما أثمرت حتى الآن، فالمفهوم أنه وضع نفسه وبلده في المشهد العربي والشرق أوسطي، وبدا قطباً إسلامياً بارزاً الى جانب القطب الإيراني، وليس بالتنافس معه كما كان يُعتقد.
قدّمت بهذه المقدمة لأُشير الى أن أردوغان نفسه قد تكون له اهتمامات ومطامح سياسية باعتباره رجل دولة كبيراً، لكن ذلك لا ينبغي أن يصرف نظرنا عن حقائق تجذّر القضية الفلسطينية في وعي سائر شعوب العالم الإسلامي، وفوق المصالح السياسية والآنية، وبغضّ النظر عن مُجريات الحدث الآني الفلسطيني وخلفياته ودواعيه. ففي الوقت الذي كانت التظاهرات تشتعل في اسطنبول، كانت تتصاعد أيضاً في باكستان وأفغانستان وأندونيسيا وماليزيا ونيجيريا، والمنطقة الكردية في العراق. وتماماً وعلى الوتيرة العميقة نفسها التي تتم فيها في أي بلد عربي. واستجابة لهذه المشاعر، أمكن وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي أن يجتمعوا بجدّة يوم السبت الماضي، ليُدينوا المجزرة الإسرائيلية في غزة.
والواقع أن هذا «التضامن» الإسلامي، ظل يُثير لدينا نحن العرب أحاسيس بالرضا والاعتزاز الى ما قبل عقدين من الزمان. ثم انقلب الى إثارة التوجُّس لدى بعض النُخب الحاكمة، ولدى فئات من الجمهور، ولأسباب عدة. فالمثقفون حرصوا منذ مدة على عدم اعتبار قضية فلسطين قضية إسلامية، بحجة عدم تحويل الصراع الى صراع ديني بين اليهودية والإسلام، وقد يؤثر ذلك في رؤية القضية الفلسطينية في العالم. وازداد التوجُّس بدخول الحركات الثورية الإسلامية على خط «الجهاد» في فلسطين، وتطور الأمر الى أن أصبحت إيران زعيمة لهذا المحور المقاوم أو المقاتل، مع ما يثيره ذلك من حساسيات لجهة التشابك والاشتباك بين الطرفين العربي والإيراني منذ اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية. ثم إن للحركات الإسلامية المقاتلة في فلسطين ومن حولها مشكلات مع الأنظمة القائمة في العالم العربي، وهذا حري بأن يُحدث حال استقطاب في الشارع الداخلي، وفي العلاقات بين السلطات ومعارضيها الإسلاميين.
كل هذه العوامل ينبغي أخذها في الاعتبار، وقد تشكل مسوِّغات لإعادة النظر والمراجعة. لكن من جهة أخرى، فإن الشعوب الإسلامية في جوار العالم العربي وبعيداً منه لا علاقة لها بمصالح هذا المجاور أو ذاك، وإنما تُحسّ هي بذلك، وتتصرف على أساس منه دونما نظر الى المصالح الدولية. وهذا أحد الاعتبارات التي دفعت أردوغان الى السلوك هكذا في شأن المأساة في غزة. إذ هو يعرف أنه بهذا التضامن إنما يقف على رأس شارعه ورأيه العام، ويكسب المزيد من الشعبية في تركيا وخارجها، بهذا الموقف من فلسطين والفلسطينيين.
وهكذا وأياً تكن التقديرات الثقافية والسلطوية، علينا أن نأخذ في الاعتبار هذا الواقع (التاريخي) الذي جعل من قضية فلسطين في أحد وجوهها قضية إسلامية. ولولا هذا الواقع لما أمكن أردوغان التصريح بما صرّح به وسط استحسان شعبه وتصفيقه. وكذا الأمر مع إيران. فالإمام الخميني عندما اتخذ يوماً للقدس في الثمانينات من القرن الماضي، إنما كان يستجيب رغبات عميقة للشعب الإيراني. وهذا الذي يجري التركيز عليه من جانب إيران و «حزب الله»، وليس من أجل المصالح الاستراتيجية وحسب، بل وللاستجابة التي يلقاها المسؤولون الإيرانيون من جمهورهم، إذ قالوا إنهم إنما يكافحون من أجل تحرير فلسطين. تماماً مثلما كان أحد أعمدة «الشرعية» في الأنظمة الثورية العربية في الستينات من القرن الماضي، القول إنهم إنما عملوا الانقلاب أو الثورة من أجل الوحدة العربية وتحرير فلسطين!
وقد يقول قائل إن استخدام الإسلام أو الدين للضغط في قضية فلسطين، إنما يُرتّب مسؤوليات على العرب حكومات وأحزاباً، وبخاصة بعد ظهور حركات الصحوة، وظهور المتشددين الذين تسببوا في اندلاع الحرب العالمية على الإرهاب، والتي ما خرَّبت إلا في ديارنا وفي أفغانستان - باكستان، لاستقبالهم «القاعدة» التي انطلقت خياراتها وكوادرها الأولى من عندنا. وهذا صحيح الى حد ما. لكنه يرتبط في الحقيقة بأمر آخر يمسّ جمهورنا العربي أيضاً. فمنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، ومنذ الصلح المصري - الإسرائيلي، دخلت الأنظمة العربية في ذهنية التسوية ومسارها. ولا مناقشة هنا في الاعتبارات والمبررات والثمرات المتحققة. لكن من جهة ثانية، فإن دخول الأنظمة في تجارب التسوية المُرّة، ترك القضية الفلسطينية في أيدي التنظيمات الثورية المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية. ومع الصعود الإسلامي في فلسطين وغير فلسطين، دخلت التنظيمات الإسلامية أيضاً - ومن خارج منظمة التحرير - على الخط نفسه. فالدولة العربية تغير موقعها بالنسبة الى القضية الفلسطينية، أما مواقع الجماهير العربية الإسلامية فلم تتغير. وبذلك فالهبوب الجماهيري الإسلامي، يتصاحب مع الهبوب الجماهيري العربي، وتجد الأنظمة نفسها بسبب العهود والالتزامات وأوضاع الوعي والواقع في افتراق وغربة ليس عن الشارع الإسلامي العام وحسب، بل وعن شارعها العربي.
والنقاش هنا في أمرين: لماذا هذا الافتراق؟ وكيف يمكن تجاوزه؟ والذي أراه أن هناك اعتبارين: ما جلبته التسوية أو لم تجلبه. ومشكلات التجربة السياسية العربية في العقود الأربعة الماضية. فالتسوية بالشروط القاسية المفروضة، وعدم تحقق الكثير على رغم التسليم بالشروط الكثيرة، دفعا الجمهور الفلسطيني والعربي أو فئات واسعة منه باتجاهات المتشددين في فلسطين على الخصوص. أما الجمهور العربي فتأثر بتراجع اهتمام الأنظمة بالقضية، لكنه تأثر أكثر بتجمُّد التجربة السياسية في شتى بلاد العرب لأربعة عقود. وبذلك، فإن الفشل في فلسطين هو استمرار للفشل في السياسات الداخلية، وفي القدرة على التأثير في المجال الدولي العام.
وهكذا، فإن هذا الصعود في الاهتمام الإسلامي لفلسطين، يكون أدعى للاعتزاز والإفادة، عندما يكون الفلسطينيون، ويكون العرب من حولهم على سويّة حسنة، وفي انطلاق كبير ومشهود. فدولة جمال عبدالناصر ما كانت دولة ذات نظام إسلامي، وكان الجمهور العربي والإسلامي معها دونما كثير من الأسئلة، للإحساس لدى العامة بأن هذه الدولة تملك مشروعاً للتنمية والتوحيد والتحرير. والعرب والمسلمون كانوا شديدي الاعتزاز بالتجربة التنموية في ماليزيا، على رغم بعدها وصغرها، لأنهم يملكون بالفعل هذا الانتماء الكبير، الذي يفرح ويقرُّ بالإنجاز وبالنجاح سواء أكان في السياسة أم العسكر أم الاقتصاد.
لست فرحاً بتسلُّم إيران زمام وراية الكفاح من أجل فلسطين، ولا بتسلُّم أو تقدم تركيا لتسلُّم راية السلام، ونُصرة الإسلام السياسي في فلسطين والعالم العربي. لكنني لست فرحاً أيضاً بهذا المخاض المؤْسي الذي نغرق فيه، والذي يكاد يبدو قعره السحيق في مأساة غزة، ومع الإسلام السياسي هذه المرة، ومع الأنظمة والتنظيمات في كل مرة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد