(وثائق سورية):خطاب عبد الناصر في الاتحاد القومي في دمشق
أيها الإخوة:
هذا الاجتماع يمثل الاتحاد القومي في جميع أنحاء الإقليم السوري، وهذا الاجتماع هو نهاية اجتماعات عقدت مع الاتحاد القومي في جميع أنحاء الإقليم السوري، وكان الاتحاد في هذه الاجتماعات يجمع كل أبناء الوطن، لم يقتصر الاجتماع على اللجان ولكنه ضم النقابات والجمعيات. هذا الاجتماع هو خاتمة اجتماعات رأينا فيها الكثير، وقد كنت أشعر دائماً منذ أجمع هذا الشعب إرادته على الوحدة ثم صمم على أن يضع هذه الوحدة موضع التنفيذ.. كنت أشعر أن الثورة العربية تنطلق من عقالها، وحينما رأيت الجيش والشعب هنا في سوريا وهناك في مصر في أوائل عام ٥٨ صمم على أن يضع الوحدة العربية فوراً موضع التنفيذ، كنت أشعر من كل قلبي أننا نسير في ثورة عربية تحقق للأمة العربية كل الأهداف التي كافحت من أجلها، وكل الأهداف التي سعت في سبيلها، وكل الأهداف التي بذلت من أجلها الدماء والأرواح.
وحينما وقف الرئيس شكري القوتلي في القاهرة ليعلن باسم هذا الشعب - الشعب السوري والشعب المصري أيضاً - الوحدة العربية وقيام الجمهورية العربية المتحدة، ويعلن وهو رئيس للجمهورية السورية أنه يسلم الأمانة ليكون مواطناً بين ربوع هذا الوطن، آمنت أنها الثورة الكبرى، الثورة العظمى التي صمم الشعب العربي على أن يسير فيها حتى يحقق كل الأهداف النبيلة، آمنت بالثورة، آمنت بهذا الشعب الثائر الذي استطاع لأول مرة في التاريخ أن يضع الوحدة وينفذها، لا بقوة السلاح ولا بسفك الدماء ولا بالغزو، ولكن بالإيمان والتصميم.. استطاع هذا الشعب أن يقيم الثورة بالإيمان والتصميم.
وفى هذه الأيام تذكرت بحثاً كتب في إحدى صحف إسرائيل عن سوريا ومصر، وقد كتب هذا البحث في عام ٥٦، وكان يبحث موقف الدول العربية بالنسبة لإسرائيل فقال كاتب البحث الإسرائيلي: إن الخطر ينبعث علينا من سوريا؛ لأن سوريا فيها المقومات الكبرى للتطور الاجتماعي السريع، ثم ضرب المثل على هذا وقال: في سنة ١٢٠٠ كان هناك الاحتلال الصليبي - احتلال ملوك أوروبا لفلسطين - ولكن وقع خطأ كبير؛ إذ أن القوات المحتلة لم تحتل العقبة وبهذا ترك المجال لكي تتحد سوريا مع مصر وتحرر الأرض العربية، والآن وقد استطعنا أن نحتل العقبة ونفصل سوريا عن مصر فلا مجال مطلقاً لأن تتحد سوريا مع مصر.
وقال الكاتب الإسرائيلي: إن قيام إسرائيل بهذا الوضع لن يمكن التقاء القوى في مصر مع القوى في سوريا، ولن يمكن القوة العربية من أن تجتمع لتتغلب علينا كما اجتمعت في عام ١٢٠٠ وتغلبت على العدوان الأوروبي وعلى جميع ملوك أوروبا.
ولكن هذا الشعب الذي صمم على أن يثور وصمم على أن يضع هذه الثورة موضع التنفيذ، استطاع رغم هذه الفوارق التي وضعت بيننا بين ربوع الوطن العربي.. استطاع أن يقيم هذه الوحدة رغم قيام إسرائيل التي فرقت بين مصر وسوريا، ورغم احتلال العقبة التي اعتقدت إسرائيل أنها بذلك ستفصل إلى الأبد بين مصر وسوريا، وأنها بذلك لن تمكن التاريخ من أن يعود مرة أخرى.
رغم هذا استطاعت إرادة هذا الشعب القوى المؤمن الواعي أن تضع هذه الوحدة موضع التنفيذ، فآمنت من كل قلبي إنها ثورة.. ثورة لها أهداف كبار، إنها ثورة تفتعل في كل فرد من أبناء الأمة العربية، وضعها الشعب العربي في سوريا ومصر موضع التنفيذ بقيام الجمهورية العربية المتحدة.
وكانت هذه الزيارة - أيها الإخوة - فرصة لي وللعالم أجمع ليرى هذه الثورة وهى تنطلق في كل قرية وفى كل مدينة من قرى ومدن الجمهورية العربية المتحدة، ففي كل بلد زرته وفى كل قرية زرتها، وفى كل لقاء لي مع هذا الشعب الذي صمم ووضع إرادته موضع التنفيذ، آمنت من كل قلبي أن هناك ثورة آمن بها هذا الشعب وصمم على أن يسير فيها ليحقق الأهداف الكبرى. وكنت أخرج من كل قرية ومن كل مدينة وأقول لنفسي: الحمد لله لقد انتصرنا.. لقد انتصر هذا الشعب.. انتصر بوعيه على جميع القوى التي تآلبت عليه، انتصر بإيمانه.. بثورته وبإيمانه بوحدته، انتصر على القوى الكبرى التي جندت ضدنا كل ما يمكن لها أن تجنده. وكانت هذه القوى الكبرى تحاربنا من زمن بعيد قبل الوحدة وبعد الوحدة؛ فقبل الوحدة كانت الحرب تنطلق حتى تصيب القومية العربية في عقالها وفى صميمها وفى قلبها، وكانت هذه الأعمال العدوانية تنطلق إلى دمشق وإلى القاهرة، وكان الشعب المؤمن المصمم يقف بالمرصاد لكل هذا ثم ينتصر، وكان الشعب المصمم يحمى القومية العربية والوحدة العربية بدمائه، بل كانت هذه الاعتداءات تجعل الشعب أشد تصميماً وإيماناً على أن يسير فى ثورته ليقيم الوحدة العربية، ويضعها موضع التنفيذ، ويرفع راية القومية العربية.
وقبل الوحدة التي قامت في سنة ٥٨ وقبل قيام الجمهورية العربية المتحدة افتعل الاستعمار وأعداء الأمة العربية كل الأساليب التي تمكنهم من أن يقضوا على وحدة هذا الشعب وتصميمه، ثم افتعلوا كل الأساليب التي تمكنهم من أن يضعوا هذا الشعب داخل مناطق النفوذ، ثم افتعلوا كل الأساليب التي تمكنهم من أن يضربوا فكرة القومية العربية والوحدة العربية ضربة نافذة تصيبها إلى حين وإلى أمد طويل. ولكن الشعب الواعي القوى الذي صمم على أن يضع هذه الأهداف موضع التنفيذ، سار في طريقه يتحدى الدول الكبرى والدول العظمى.. سار في طريقه وهو مؤمن بأنه على استعداد أن يضحى بروحه وأن يضحى بدمه، وأن يضحى بالغالي قبل أن يضحى بالرخيص في سبيل القومية العربية والوحدة العربية؛ لأن هذا الشعب كان يؤمن أن الوحدة هي طريق القوة وهى طريق الحياة.
ولم يتمكن الاستعمار بكل مؤامراته وبكل أساليبه وبكل قواه، بل بكل حشوده وبكل تهديداته من أن يفت في عضد هذه الأمة؛ الأمة العربية التي صممت على أن تبعث القومية العربية، وتبعث الوحدة العربية. وانتصرت الأمة العربية.. انتصرت الأمة العربية على أعدائها.. انتصرنا هنا في سوريا؛ لأن سوريا جميعاً تصدت بجميع رجالها ونسائها وأطفالها لتقف ضد محاولات الاستعمار لإدخالها في مناطق النفوذ، ثم وقفت مصر لتتبع نفس هذه السياسة. وكان هناك ترابط وتجاوب بين الشعب العربي في مصر وبين الشعب العربي في سوريا، وكان هناك امتزاج في الروح والدم، وامتزاج في الأهداف بين الشعب العربي في سوريا والشعب العربي في مصر، وكان هناك تصميم على أن تقوم الوحدة العربية؛ لأنها تقوية للأمة العربية، ولأنها في ضمير كل فرد من أبناء الأمة العربية، ولأنها تعبير عن كفاح الأمة العربية على مدى السنين والأجيال.
وسارت هذه الثورة.. سارت في طريقها لتنتصر على محاولات الدول الكبرى وكانت الدول الكبرى التي تريد أن تضرب فكرة القومية العربية، كان الاستعمار وأعوان الاستعمار لا يجد هدفاً مادياً يضربه إلا أن يتغلب على دمشق ويتغلب على القاهرة، حتى كان عام ٥٦، ولم يكن العدوان الذي دبر على مصر يستهدف مصر وحدها، ولكن هذا العدوان كان أيضاً يستهدف سوريا، كانت هناك مؤامرات من الاستعمار وأعوان الاستعمار ومن إسرائيل والصهيونية للقضاء على دمشق والقضاء على القاهرة.. فماذا كانت النتيجة؟
استطاع هذا الشعب المكافح المؤمن أن ينتصر على الدول الكبرى، واستطاع أن يفرض وجوده واستطاع أن يفرض إرادته، واستطاع أن يحمى فكرة القومية العربية والوحدة العربية. بذل في سبيل ذلك الدماء والأرواح، بل وقفت الأمة العربية جميعاً في جميع أنحاء الوطن العربي.. وقفت ضد مؤامرات الاستعمار وضد عدوان الاستعمار، وكان العدوان الثلاثي على مصر، وكانت الهزيمة المنكرة، وكانت القناعة للاستعمار ولأعوانه أن القومية العربية أقوى من أساطيل الدول الكبرى، وأن الشعب العربي أقوى من طائرات الدول الكبرى، وأن الفكرة التي آمنت بها الأمة العربية أقوى من كل الوسائل المادية التي استخدمت لقتلها أو لإنهائها.
وانتصر الشعب العربي وكانت النتيجة - أيها الإخوة - بعد هذا اللقاء العميق؛ لقاء الأرواح والقلوب والنفوس، وبعد هذا الكفاح المشترك أن يسير الشعب في طريقه ليحقق ثورته ويضعها موضع التنفيذ، فكانت هذه الوحدة، وكانت الجمهورية العربية المتحدة أول نتيجة مادية وضعها هذا الشعب بكفاحه وإيمانه وتصميمه موضع التنفيذ ضد رغبات الدول الكبرى، وضد رغبات الاستعمار وأعوان الاستعمار. وكانت هذه الخطوة أول حركة يقوم بها العرب تعلن التمرد على ما خططه الاستعمار في بلدنا بعد عام ١٧، وكانت هذه الثورة في معناها أقوى مما كانت في وجودها؛ لأنها كانت المثل الواضح والمثل الكبير للأمة العربية جمعاء أن السبيل ممهد للانتفاض على الاستعمار وأعوان الاستعمار، وأن السبيل ممهد لأن يكون شعارنا شعار العزة والكرامة، وأن أيام الاستعمار وأعوان الاستعمار قد انتهت، وأن الشعب الذي يؤمن بحقه في الحرية والحياة لابد أن ينتصر كما انتصرنا.
وكان هذا - أيها الإخوة - هو الخطر الذي يهدد الدول الكبرى الطامعة فينا، ويهدد الدول الاستعمارية وأعوان الاستعمار؛ لأن هذا يعنى أن القومية العربية التي انتصرت في الجمهورية العربية المتحدة، ستسير في طريقها مشتعلة لتنتصر في كل بلد عربي، وأن الزحف المقدس الذي بدأ في سوريا ومصر لن يقتصر على قيام الجمهورية العربية المتحدة؛ لأنه كافح وقاتل وانتصر ولابد أن يكافح ويقاتل وينتصر، ولأنه بذل الشهداء وبذل الدماء من أجل أن يحقق الأهداف العظام، ولن يتوانى عن أن يبذل الشهداء ويبذل الدماء من أجل أن يحقق هذه الأهداف الكبار.
وكان قيام الجمهورية العربية المتحدة نقطة تحول في تاريخنا، بل في تاريخ العالم كله، وكانت الجمهورية العربية المتحدة في هذه المنطقة من العالم معناها تهديد لأطماع إسرائيل بل تهديد لوجودها، وتهديد لأطماع الدول الكبرى بل تهديد لمناطق نفوذها. وكان قيام الجمهورية العربية المتحدة معناه أن هناك فرصة للإرادة المستقلة أن توجد، وأن هناك فرصة للسياسة المستقلة أن تعلن عن نفسها، وأن هناك فرصة لأن يحمى الشعب العربي في البلاد العربية بلده بدلاً من أن نعتمد على دول أجنبية لتحمينا، بل أن هناك فرصة لنخلص العالم العربي كله من مناطق النفوذ الأجنبية ومن الاحتلال الأجنبي. وكان هذا - أيها الإخوة - هو الخطر الذي واجهه أعداء الأمة العربية والقومية العربية.
وبدأت المحاولات مرة أخرى لتقضى على هذه الثورة الكبرى.. هذه الثورة التي وضعها هذا الشعب موضع التنفيذ. ومنذ قامت الوحدة بدأت دعايات الاستعمار وأعوان الاستعمار، وبدأت دعايات أعداء الأمة العربية تتجه إلى دمشق بل تتجه إلى سوريا، محاولة بالدس الرخيص أن تقضى على هذه الثورة، ومحاولة ببث الفتنة أن تقضى على هذه الثورة. وكان السلاح الذي استخدم في هذا السبيل سلاح التفرقة وسلاح الطائفية وسلاح الحزبية وسلاح الكراهية والبغضاء، وكانت إذاعات إسرائيل وإذاعات الاستعمار والإذاعات المعادية لنا تحاول طوال السنتين الماضيتين أن تبث بيننا الفرقة، وكان التركيز ينصب على سوريا، فقالوا: إن عبد الناصر يحكم سوريا، والرئيس المصري يحكم سوريا والشعب السوري يرزح تحت الاحتلال المصري والاستعمار المصري، ونسوا أننا حينما أعلنا هذه الثورة أعلناها وكل فرد منا يؤمن أنه ليس بالمصري أو السوري، وأنه العربي الذي يعمل على قيام الجمهورية العربية المتحدة. (هتاف).
وكان العام الماضي - أيها الإخوة - هو ذروة هذه الحملات، وكان أعداؤنا يكذبون ويكذبون، ثم يكذبون ويكذبون ويصدقون أنفسهم، وكنت أستمع إلى هذه الأكاذيب وأنا أؤمن في نفسي وفى قلبي وفى دمى أن هذا الشعب الذي أقام الوحدة لأول مرة في التاريخ بطريقة سلمية، هذا الشعب الذي صمم على أن يضع إرادته ويضع مشيئته موضع التنفيذ؛ فوضعها، إنما ثار ثورة كبرى ولا يمكن لأي فرد منه أن ينخدع بهذه الأساليب. كنت أستمع إلى ما تقوله هذه الإذاعات وكنت أقرأ ما يقال، كان يقال من الاستعمار وأعوان الاستعمار إن الاقتصاد المصري يغزو سوريا، الاقتصاد المصري يجعل من سوريا سوقاً لمنتجاته، وكنت أشعر أن هذا إنما هو الدس الذي يريد به أعداؤنا أن يألبوا الأخ على أخيه، وحتى يحققوا حلمهم الكبير في تفتيت الأمة العربية ليتحكموا فيها.
كنت أستمع إلى كل هذا ولكنى كما آمنت في الأيام الأولى لهذه الوحدة أن هذا الشعب قد أعلن الثورة؛ الثورة العربية الكبرى، كنت أؤمن دائماً أن هذه الثورة تسير في طريقها لتحقق الأهداف الكبرى التي أعلناها والتي أعلنها الآباء والأجداد، وضحوا في سبيل تحقيقها. كنت أؤمن أن هذه المحاولات لن تزيد النار إلا اشتعالاً، ولن تقضى على ما يفتعل في نفوس الأمة العربية، بل ستشعل النفوس في الأمة العربية؛ لأن الشعب العربي الواعي استطاع دائماً بهذا الوعي أن يكشف أساليب الاستعمار وأعوانه، وأساليب أعداء القومية العربية، واستطاع رغم كل الظروف أن يتغلب عليها.
كنت أؤمن من كل قلبي أن هؤلاء الأعداء إنما يحرثون في الماء، ولن يمكن لهم بأي حال من الأحوال أن يجدوا نتيجة أو أرضاً يزرعوا فيها هذا الزرع الخبيث؛ لأن هذا الشعب الطيب يستطيع أن يعي ويستطيع أن يعرف طريقه ويسير فيه، ولأن هذا الشعب الواعي يستطيع أن يميز الخبيث من الطيب، ولأن هذا الشعب - كما قلت - يقود ولا يقاد، وقد قاد دائماً في جميع المناسبات وفرض نفسه وفرض وجوده، ولم تكن الوحدة التي جمعت بين مصر وسوريا إلا نتيجة لقيادة هذا الشعب بمجموعه.
لم تكن هذه الوحدة إلا ثمرة قيادة هذا الشعب، والشعب الذي يقود ولا يقاد هو شعب خلاق، لا يمكن لفرد أن يخدعه ولا يمكن لأجنبي أن يخدعه ولا يمكن لأي كان أن يقضى على أهدافه وعلى تصميمه في الوصول إليها، كنت أؤمن من كل قلبي بهذا.
وحينما زرت هذا الإقليم الذي وجهت إليه جميع الدعايات، وتجولت بين جميع محافظاته، بين مدنه وقراه، رأيت الثورة تشتعل أكثر مما اشتعلت، ورأيت التصميم أشد مما كان، ورأيت الإيمان أقوى، بل رأيت النفوس وقد جمعتها المحبة والإخاء على أن تسير في طريقها لتحقق الأهداف الكبرى التي أعلنتها. ورأى العالم معي هذا الذي رأيته؛ رأى الجمهورية العربية المتحدة قوية، ثابتة، صامدة، ورأى هذه الجمهورية بعد سنتين من الوحدة وقد أثبتت وجودها، وقد ثبتت كيانها، وقد أعلنت تصميمها، وهذه السنوات ليست إلا فترة قصيرة في عمر الدول.
حاولوا أن يشعلوا الطائفية بالإذاعات والإشاعات، فرأيت في كل بلد زرته أن لكل فرد دينين؛ المسيحي دينه المسيحية والعروبة، والمسلم دينه الإسلام والعروبة. رأيت هذا.. رأيت العروبة تجمع بين الجميع كإيمان جمع هذا الشعب بقراه ومدنه، رأيت هذا في كل قرية وفى كل مدينة ورأيت أيضاً.. رأيت هذا الشعب وقد صمم على أن يوحد صفوفه ليحمى المكاسب التي حصل عليها، ورأيت أيضاً أن هذا الشعب يحمد الله من كل قلبه على ما انتهى إليه الحال الذي كنا فيه من فرقة وكراهية وبغضاء، يحمد الله الذي ألف بين القلوب والذي قضى على عوامل الفرقة والبغضاء، يحمد الله على أن هذه الأمة قد وحدت من صفوفها لتقوى من كيانها وتقوى من وجودها، ووحدت من صفوفها وتقضى على الخوارج الذين حاولوا القيام بين أرجائها. رأيت هذا في كل مدينة وفى كل قرية، وكنت بعد كل زيارة أقول لنفسي: الحمد الله لقد انتصرنا.. لقد انتصر هذا الشعب في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه.. المرحلة الدقيقة الصعبة وهى أول سنوات الوحدة.
وكان الاستعمار وأعداء القومية العربية وأعوان الاستعمار، وكان الشيوعيون العملاء يعتقدون أنهم قد يجدون الثمرات بين ربوع أمتنا، فماذا كانت النتيجة؟ لم يمكنهم هذا الشعب. كانوا يعتقدون أن السنوات الأولى قد تكون الأرض الخصبة لهم ليبذروا فيها بذور الفتنة والكراهية والأحقاد، ثم ليبذروا فيها بذور الدس ليفرقوا بين مصر وسوريا. وكان الهدف الرئيسي في هذه الحملة هي سوريا، وكانت هذه الزيارة تثبت للعالم أجمع أن أهداف أعدائنا قد قضى عليها، أما نحن فقد انتصرنا.. قد انتصر شعبنا، انتصر انتصاراً قوياً.
وكان هذا - أيها الإخوة - تعبير عن الثورة التي انبثقت في عام ٥٨ بين ربوع هذه الجمهورية. وكان هذا تعبير عن صلابة هذا الشعب وإيمانه، فماذا كانت النتيجة بعد ذلك؟ حينما رأى أعداء القومية العربية وأعداؤنا أن هذا الشعب قد هب كله ليعلن ثورته ويدعمها بل ليعلن أن الثورة قد زادت اشتعالاً، هب أعداء الجمهورية العربية مرة أخرى - أعداؤنا ونعلمهم جميعاً، الصهيونية وإسرائيل، الاستعمار وأعوان الاستعمار - هب الشيوعيون العملاء بحملة مسعورة ولكن كان يظهر فيها التخاذل ويظهر فيها اليأس؛ لأنهم رأوا هذا الشعب وهو أشد تصميماً على ثورته مما كان في أولها، ولأنهم رأوا هذا الشعب أشد تصميماً على وحدته مما كان في أولها، ولأنهم رأوا هذا الشعب لم ينخدع بكل الدسائس التي دبرت من حوله، فماذا كانت النتيجة؟ رأينا نتيجة هذه المشاعر وهذه التعبيرات تعم العالم أجمع؛ رأيناها تظهر في إسرائيل وفى بريطانيا وفى فرنسا، رأيناها تظهر في أمريكا، رأيناها تعم العالم كله من حولنا، رأينا إسرائيل وهى تشن حملة مسعورة مرة أخرى، ولكن هذه الحملة التي شنتها إسرائيل - حملة الدعاية - كانت الحملة التي نرى اليأس فيها بين السطور، كانت الحملة التي اعتمدت على السباب، وكانت الحملة التي وجهت إلى فرد من أبناء هذه الجمهورية وهو رئيس الجمهورية، ونسوا هؤلاء الناس الذين اغتصبوا قطعة عزيزة من بلادنا أن هذه الثورة ليست ثورة جمال عبد الناصر، ولكنها ثورة انبثقت من هذا الشعب ومن إرادة هذا الشعب.
ونسوا أن ما ينطق به جمال عبد الناصر لا يعبر عن جمال عبد الناصر وحده، ولكنه يعبر عن هذه الملايين من النوبة إلى القامشلي، من مصر إلى سوريا، بل عن الملايين في جميع أنحاء الأمة العربية، نسوا هذا - أيها الإخوة - ووجهوا هذه الحملات، وكانت الحملات أيضاً كما كانت في الماضي توجه إلى سوريا.. حملات مبنية على الدس، ونسوا أن الشعب السوري فرض الوحدة فرضاً لأنه يؤمن بها، ولأنه يؤمن بأنها حياته وقوته، ولأنه حارب من أجلها وكافح السنين الطوال والأجيال الطوال، نسوا كل هذا وبدأوا حملة مسعورة علينا ولكنى قلت في الماضي: إن الكلاب تنبح والقافلة تسير، واليوم نقول أيضاً: إن الكلاب تنبح والقافلة تسير.
لقد حاولت الصهيونية وإسرائيل في الماضي بكل وسيلة من الوسائل - يدعمها الاستعمار - أن تمنع الوحدة العربية لتحقق حلمها في الاستيلاء على فلسطين، ثم في تحقيق ملك إسرائيل من النيل إلى الفرات. وكانوا يحاربون بكل وسيلة من الوسائل أي محاولة للوحدة العربية؛ لأن إسرائيل تؤمن في قرارة نفسها أن الوحدة العربية قضاء عليها، وكما قالوا حينما التقى الشعب السوري وسار عن طريق العقبة إلى مصر في عام ١٢٠٠، استطاع الجيش المصري والجيش السوري في هذا الوقت بقيادة صلاح الدين أن يقضوا على كل قوات الاحتلال التي كان يقودها جميع ملوك أوروبا.
كانوا يشعرون أن الوحدة التي تقوم اليوم بين مصر وسوريا إنما هي قضاء على كل العدوان الذي ارتكبوه في أرضنا العربية، وقضاء على كل السيطرة التي حاولوا أن يفرضوها وقضاء على كل أطماع لهم في الأمة العربية؛ ولهذا فإن الصهيونية وإسرائيل، والاستعمار من وراء الصهيونية وإسرائيل حاولوا بكل طريقة أن يقضوا على القومية العربية كفكرة، ويقضوا على الوحدة العربية كفكرة. وكان العدوان الثلاثي هو الوسيلة الرئيسية التي اتبعوها للقضاء على فكرة القومية العربية وعلى فكرة الوحدة العربية. ولكن القومية العربية انتصرت والوحدة العربية انتصرت وهزم الغزاة؛ بل سارت الأمة العربية لتحقق الوحدة رغم إرادة أعدائها وتقيم الجمهورية العربية المتحدة.
وكان هذا هو تهديد آخر بل تهديد أشد وأخطر لأطماع إسرائيل ولاغتصاب إسرائيل لحقوق شعب فلسطين وأرض شعب فلسطين. ولهذا فإننا حينما نرى اليوم الحملة المسعورة التي توجه إلينا نشعر بالطمأنينة ونشعر بالثقة في نفسنا لأننا تطورنا عما كنا عليه في عام ٤٨، ولن يقبل الشعب العربي مرة أخرى أن يعيش عام ٤٨؛ لأن ما حدث فى عام ٤٨ والخيانات التي حدثت في عام ٤٨ - وكلنا نعلم هذه الخيانات.. الخيانات التي قام بها أعوان الاستعمار - كان لها الأثر الكبير. فإن إسرائيل وعصابات إسرائيل والاستعمار حينما احتلوا هذه البقعة الغالية من أرضنا العربية احتلوها بالغدر والخديعة واحتلوها بالاعتماد على أعوان الاستعمار، فإن إسرائيل لم تحارب في هذه الأيام أو في هذه الأشهر معركة فاصلة واحدة، ولكنا كنا نحارب إسرائيل ونحارب الخداع ونحارب الاستعمار وأعوان الاستعمار.
وأنا أذكر - أيها الإخوة - حينما كنت في فلسطين وحينما حوصرنا في الفالوجا في فلسطين وهب الجيش السوري هنا في سوريا ليفتح الطريق للقوات التي حوصرت في الفالوجا وجهزت قوات من سوريا لتتحرك إلى الأردن، وضعت في وجه هذه القوات الصعاب، كل الصعاب، وحينما ذللت سوريا في هذه الأيام هذه الصعاب، وضعت أيضاً صعاب أخرى، ثم كانت النتيجة أن أعوان الاستعمار في الأردن في هذا الوقت - الذين تآمروا على العرب وعلى فلسطين مع الاستعمار - رفضوا لجيش سوريا أن يسير في الأردن ليفتح الطريق إلى القوات التي حوصرت في الفالوجا. ورأينا أيضاً في سنة ٤٨ كيف كان الجيش المصري يحارب على طول الجبهة الجنوبية، وفى نفس الوقت كيف سارت الخيانة وسار أعوان الاستعمار مع الاستعمار ليرتبوا الخطط ليقضوا على الجيش المصري، فانسحبت قوات الأردن من اللد والرملة بأوامر من قادة الأردن لا بحرب ولا بمعركة فاصلة، انسحبوا ليفتحوا الطريق لقوات إسرائيل لتتجه إلى الجبهة المصرية وتقاتل الجيش المصري.
كانت هذه هي الخيانات التي وقعنا فيها في عام ٤٨ وكانت هذه هي المآسي التي سببت لإسرائيل النصر في عام ٤٨، كان أعوان الاستعمار هم السبب الرئيسي الذي مكن إسرائيل من أن توجد بيننا. كلنا نعلم كيف أراد جيش العراق أن يحارب وكيف منعه أعوان الاستعمار من أن يحارب.. كلنا نعلم كيف أراد جيش العراق أن يشترك في هذه المعارك وكيف صدرت له الأوامر بألا يشترك.
إن الشعب العربي الذي عاش مأساة ٤٨ لن يقبل مرة أخرى أن يعيش هذه المأساة وإنه أخذ من دروس الماضي عظة لنفسه وعبرة، وإنه اليوم يعتمد على نفسه ويعتمد على قوته، بل إنه يعمل على أن يتخلص من كل أعوان الاستعمار؛ لأن أعوان الاستعمار كانوا دائماً العقبة الكبرى بين ربوع وطننا عن الوصول إلى تحقيق أهدافنا. فإذا كانت إسرائيل اليوم تحاول بحملتها المسعورة أن تقضى على القومية العربية كفكرة أو تقضى على الوحدة العربية كفكرة لتؤمن وجودها وتؤمن نفسها، وتؤمن ما اغتصبته من عرب فلسطين، ولتنعم بنتيجة الضحايا الذين سفكت دمائهم وقتلتهم وقتلت أطفالهم، فإن إسرائيل تسير في طريق الوهم والأحلام لأن الشعب العربي يعلم ما هي إسرائيل وما هي نوايا إسرائيل. وإذا كانت إسرائيل تستطيع أن تتصور أنها بهذه الحملة المسعورة ستقضى على وحدة الصف العربي وستقضى على الوحدة العربية التي قامت - الوحدة المادية بعد أن فشلت في القضاء على القومية العربية كفكرة والقضاء على الوحدة العربية كفكرة - تستطيع إسرائيل أن تتصور أنها ستقضى على الوحدة العربية كعمل مادي ملموس قام به الشعب العربي، إن ردنا على هذا أن الشعب العربي يسير في زحفه المقدس ليحقق الأهداف الكبرى التي كافح من أجلها وبذل من أجلها الدماء والأرواح، والشعب العربي يسير في زحفه المقدس ليرفع راية القومية العربية ويحقق الوحدة العربية.
وسمعنا أيضاً - أيها الإخوة - الأصوات ترتفع بعد ما ظهر من أن هذا الشعب مصمم على ثورته، سمعنا في لندن وسمعنا في باريس وسمعنا في واشنطن، سمعنا الأصوات ترتفع لتقول: إن هناك أزمة فى الشرق الأوسط، وإن هناك موقف منهار في الشرق الأوسط.
ونحن نقول: نعم، إن هناك أزمة في الشرق الأوسط منذ عام ٤٨، منذ أن اغتصبت إسرائيل حقوق عرب فلسطين، وتنكرت لقرارات الأمم المتحدة التي اعترفت والتي قررت بأن الحق لشعب فلسطين في أن يعود إلى أرضه. هناك أزمة دائمة مستمرة في هذه المنطقة، وإذا كانت هذه الدول الكبرى تتناسى حقوق شعب فلسطين وتتذكر دائماً ما تنادى به إسرائيل وتستجيب لما تنادى به إسرائيل فنحن نقول: إننا لن ننسى حقوق شعب فلسطين، ولن ننسى التهديد الذي يوجه إلينا من إسرائيل هنا في الجمهورية العربية المتحدة التي تحمل عبء المعركة كلها والتي بذلت من عام ٤٨ حتى الآن الآلاف من الشهداء في سبيل القضية الكبرى وفى سبيل...
ترتفع الأصوات في هذه العواصم وتقول: لابد من مساعدة إسرائيل، وليس هذا إلا استجابة لإسرائيل، بل تسلم الدعوات لرئيس وزراء إسرائيل ليعطى شهادة في الحقوق، وما هي هذه الحقوق؟ كيف يعطى شهادة في الحقوق من جامعة أمريكية أكبر مجرم للحرب قام في هذا القرن؟! وكيف تعطى شهادة أو دكتوراه شرفية في الحقوق للرجل الذي قتل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال بغير ذنب جنوه؟! والرجل الذي انتهز الفرصة التي مكنتها له بريطانيا التي كانت مسئولة عن شعب فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى فانسحبت وتركت الشعب العربي يقابل عصابات إسرائيل فقتل فيهم، قتل الرجال والنساء والأطفال واغتصب القرى والأملاك بطريقة لم تحدث في التاريخ؟!
قالوا عن "هتلر" إنه مجرم حرب، وماذا فعل "هتلر"؟ هل قضى على شعب دولة بأكمله كما قضى "بن جوريون" على شعب دولة بأكمله؟! ولكنا لا نستغرب هذا؛ لأن إسرائيل وقادة إسرائيل حينما قتلوا فى الشعب العربي إنما كانوا يقومون بهذا القتل تساندهم الصهيونية العالمية والاستعمار، بل ساندتهم أمريكا ورئيس أمريكا في هذا الوقت، وكانت الأموال تسلم لإسرائيل، وكانت نتيجة هذه الأموال التي سلمتها لإسرائيل زيادة في سفك الدم العربي واغتصاب حقوق العرب.
إننا اليوم نرى العالم من حولنا ونرى هذه الأنباء التي تعلن أن "بن جوريون" سيزور أمريكا ليستعديها على العرب، ونحن نقول لأمريكا: إذا كانت إسرائيل والصهيونية قد استعمرت أمريكا وسيطرت عليها وعلى مقدراتها، فإننا آلينا على أنفسنا وآلينا على أنفسنا أمام الله أننا سنبذل كل شيء؛ الأرواح والدماء ولن نكون تحت سيطرة أمريكا ولا تحت سيطرة إسرائيل. فليعطوا مجرم الحرب الشهادة الشرفية في الحقوق، فهذا يجعلنا نعلم ما هي قيمة الحقوق في أمريكا وما هي قيمة حقوق الإنسان في أمريكا. وهذا يجعلنا نؤمن أن علينا أن نقوى من أنفسنا وأن علينا أن نعتمد على الله وعلى أنفسنا لنحارب كل المعارك التي تدبر علينا، ولنحارب كل المعارك التي تجابهنا لنحافظ على الاستقلال، ولنحافظ على الحرية التي حصلنا عليها بالدماء والأرواح.
وهناك أصوات أخرى ظهرت في لندن وظهرت في واشنطن أيضاً، ظهرت الأصوات التي تعلن عن التصريح الثلاثي، فماذا هو التصريح الثلاثي بالنسبة لنا؟ لقد أعلن التصريح الثلاثي في عام ٥٠ وعادوا اليوم ليعلنوه مرة أخرى، ولماذا لم يعلن في العام الماضي؟ لأنهم كذبوا وكذبوا وصدقوا أنفسهم؛ لأنهم اعتقدوا أن هذه الوحدة قد تفككت، وأن هذه الأمة قد تفتت، وأنهم في طريق السيطرة على الأمة العربية جمعاء. وكانت إسرائيل تصدق أكاذيبها وتشعر بالاطمئنان، ولكن الفرصة في هذه الاحتفالات أثبتت للعالم أجمع أن هذه الوحدة أشد قوة مما كانت، وأن الشعب العربي مؤمن من كل قلبه وروحه ونفسه على أن يسير في زحفه المقدس؛ فهبت الدول الكبرى لتعلن التصريح الثلاثي؛ لأنها استشعرت أن هذا الزحف المقدس إنما يستهدف حقوق شعب فلسطين في بلدهم وفى أرضهم، ولأنهم شعروا أن لابد لهم من أن يحموا إسرائيل.. أعلنوا التصريح الثلاثي.
أما هذا التصريح الثلاثي بالنسبة لنا فليس إلا العدوان الثلاثي. نحن لم نشعر بالتصريح الثلاثي في الماضي ولكنا قابلنا العدوان الثلاثي، فالتصريح الثلاثي في فهمنا وفى إيماننا لا ينتج عنه إلا عدواناً ثلاثي كما حدث في عام ٥٦؛ ففي عام ٥٦ كان هناك التصريح الثلاثي ولكنا رأينا العدوان الثلاثي؛ الطائرات والأساطيل، هدم المدن، قتل النساء والأطفال، الغدر بكل معانيه. ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نطمئن إلى هذه التصريحات لأنها إنما تعبر عن النوايا العدوانية التي تستهدف أمتنا ثم تستهدف جمهوريتنا لأننا رفضنا أن ندخل في مناطق النفوذ، ورفضنا إلا أن تكون سياستنا سياسة مستقلة تنبع من نفسنا ومن ضميرنا.. تخرج من بلدنا وأرضنا، ورفضنا أن يكون بيننا أعوان للاستعمار أو عملاء، وصممنا على أن نطهر هذه الأرض الطيبة للمواطنين الشرفاء الذين رفعوا دائماً راية القومية العربية وراية الوحدة العربية، وانتصرنا وحققنا هذا الأمل الكبير.
إننا اليوم حينما نسمع أن فرنسا تسلح إسرائيل بالطائرات إنما نشعر بالثقة والاطمئنان. وقد قالت الأنباء اليوم: إن فرنسا ستسلم إسرائيل مزيداً من الطائرات. إن هذا يطمئننا على قوتنا وعلى مكانتنا وعلى وجودنا. وإننا اليوم سمعنا أن بريطانيا ستسلم إسرائيل غواصات، وإننا لا يرهبنا هذا لأننا نعلم من هم أعداؤنا، ولأننا نستعد لنقابل هؤلاء الأعداء.
إننا اليوم حينما نسمع هذا نشعر أننا استطعنا أن نحقق في هذه الشهور القلائل القوة الكبرى التي تزعج إسرائيل والصهيونية ومن هم وراء إسرائيل ومن هم وراء الصهيونية.
أما "بن جوريون" بالنسبة لنا فهو مجرم حرب قتل إخوة لنا في فلسطين.. وهو مجرم حرب؛ فبعد عام ٤٨ كان يقوم بغارات على القرى العربية العزلاء ليقتل ويقتل وليشفى غليله بالدماء العربية. وما الغارة الفاشلة التي قاموا بها في الأسابيع الماضية على قرية التوافيق إلا مثل للسياسة التي اتبعها "بن جوريون" في الماضي؛ فقرية التوافيق قرية عزلاء يسكنها عرب عزل، وكان "بن جوريون" يعتقد أنه يستطيع أن يقتل هؤلاء العزل؛ وبهذا يشفى غليله من سفك دماء العرب. ولكن الغارة خابت لأن الخسائر حاقت بهم، ولأن الجيش الأول استطاع أن يتنبه إلى خطتهم فدحر هذه الخطة وقضى عليها بأن سحب العزل من التوافيق ونصب الكمائن للإيقاع بالغدر الصهيوني والغدر الإسرائيلي. وكانت النتيجة أن وقعت العصابات الإسرائيلية بين نيران الجيش الأول فانسحبت تجر أذيال الخيبة والفشل والعار.
إننا حينما ننظر من حولنا ونسمع إلى تصريحات رجال إسرائيل، فاليوم هناك تصريح يقول: إن إسرائيل تريد الصلح مع العرب، وتريد نزع السلاح. وهذا كلام يهدف إلى التغرير بالرأي العام العالمي؛ لأن إسرائيل اغتصبت حقوق عرب فلسطين، ولأن إسرائيل لم تمتثل لقرارات الأمم المتحدة الخاصة بحقوق شعب فلسطين، ولأن إسرائيل رغم هذا كله تتبجح وتقول: إنها تريد أن تمر بضائعها أو سفنها من قناة السويس.. لأن إسرائيل تريد أن تخدع الرأي العام العربي. وردنا على هذا واضح وبسيط: إننا لن نتنازل عن حقوق شعب فلسطين وإننا لن نقبل عن حقوق شعب فلسطين بديلاً، وإن "بن جوريون" قبل العدوان الثلاثي على مصر بسبعة أيام قال وأعلن: أنه يريد أن يتفاوض مع مصر ليضع أسس السلام، وكان في هذا الوقت قد وضع أسس الغدر والخيانة والعدوان مع "أنتوني إيدن" ومع "موليه" في باريس.
كانت النية القتل وكان الكلام الذي أعلنوه للخداع، كلام عن السلام ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم السلام طالما كانت نية إسرائيل - هذه النية - القضاء على العرب أجمعين، عرب فلسطين أو العرب بين النيل والفرات، ولن يعود السلام إلا إذا عادت الأرض إلى أصحابها.
إننا ننظر من حولنا ونستمع إلى هذا كله، فنكون أشد تصميماً وعزماً وإيماناً على أن نسير في زحفنا المقدس لنبنى قوتنا، ونحن في نفس الوقت نسمع أعوان الاستعمار.. نسمع العواء من أعوان الاستعمار في أنحاء العالم العربي، أو في بعض أنحاء العالم العربي. هؤلاء الناس الذين توارثوا الخيانة عن آبائهم وأجدادهم، والذين وجدوا أن سلعتهم الوحيدة للبقاء في الأمة العربية هي أن يتحالفوا مع الاستعمار ضد الأمة العربية، وهى أن تكون الأمة العربية سلعة في أيديهم، يبيعونها بثمن بخس للاستعمار. هؤلاء الذين خرجوا سواء في تعليقات إذاعاتهم أو في صحفهم ليهاجموا الأوضاع في سوريا، وليهاجموا الأهداف التي أعلناها إنما كشفهم الشعب العربي، وكما قضى الشعب العربي على عناصر الخيانة وأعوان الاستعمار في الماضي، سيقضى أيضاً على عناصر الخيانة والاستعمار في الحاضر والمستقبل.
هذا - أيها الإخوة - هو موقفنا، ونحن إذا أردنا أن نثبت جمهوريتنا بين هذه الأعاصير والأحداث التي تدور من حولنا فعلينا أن نسير في طريقنا الذي أعلناه وآمنا به، علينا أن نبنى أمتنا فقوتنا في بناء أمتنا، ولن يمكن بأي حال أن نثبت هذه السياسة الخارجية المستقلة المبنية على عدم الانحياز والحياد الإيجابي إلا إذا ثبتنا دعائم جمهوريتنا في الداخل، ولتثبيت دعائم هذه الجمهورية في الداخل علينا واجب كبير؛ علينا أن نقضى على آثار الماضي التي فرقت بين أبناء هذا الشعب، وقد قضينا على هذه الآثار، وعلينا أيضاً أن نعمل ونعمل في كل الميادين؛ في ميدان الصناعة وفى ميدان الزراعة، وفى ميدان الإنتاج، وفى ميدان التطور.
إن قوتنا الداخلية هي الأساس الرئيسي الذي نعتمد عليه في سياستنا الخارجية، ونحن حينما نعلن السياسة الخارجية المستقلة وحينما نرد على كل من يتعرض لنا في الحال؛ فإنما نعتمد على قوة هذا الشعب المتماسك، وإنما نعبر عما يشعر به هذا الشعب الحر المستقل. ونحن اليوم - أيها الإخوة - في سبيل بناء جمهوريتنا وحماية هذه الجمهورية نعمل على تكوين الاتحاد القومي، والاتحاد القومي هو الوسيلة التي تحمى ثمرة كفاح الشعب العربي. وقد قلت في الماضي: إن كفاح الشعب العربي نتج عنه الجمهورية العربية المتحدة، ولم يكن هذا الكفاح إلا كفاح الشعب العربي بأجمعه، ولم يكن هذا الكفاح كفاح فرد أو أفراد أو عشرة من الأفراد ولكنه كفاح الشعب العربي كله.
واليوم أرى هذا الشعب العربي يكافح أيضاً في سبيل تدعيم هذه الجمهورية بكل إيمان وبكل عزم وتصميم، وأرى هذا الشعب العربي أيضاً وهو يوحد الجهود في الاتحاد القومي، وما الاتحاد القومي إلا الديمقراطية الحقيقية التي تنبثق في القرية والمدينة وفى كل مكان، وما الاتحاد القومي إلا الوسيلة التي نحمى بها المكاسب التي حققناها حتى لا نعطى فرصة لأعوان الاستعمار أو العملاء أو للذين لهم اتصال بالأجنبي من أن ينفذوا بيننا بوسيلة شرعية تحت اسم الحزبية، وما الاتحاد القومي إلا القضاء على كل عوامل الانتهازية والفردية التي رتبت الأحقاد والبغضاء، الاتحاد القومي هو أساس لتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن جميعاً.
وحينما زرت هذا الإقليم رأيت الاتحاد القومي بكل لجانه وبكل أفراده، رأيت الشعب، فالشعب هو الاتحاد القومي، ورأيت لجان الاتحاد القومي. وكنت أشعر بعد كل مقابلة مع لجان الاتحاد القومي أن هناك أمل كبير. فاليوم مثلاً - أيها الإخوة - حينما التقيت بكم بعد الغروب خرجت من هذا اللقاء وأنا أشعر في قرارة نفسي أن الشعب يسير في زحفه المقدس؛ لأنه استطاع أن يختار هذا الشباب المؤمن، الشباب الواعي، والشباب الذي يؤمن برسالة القومية العربية والوحدة العربية. الاتحاد القومي هو الشعب بأكمله ولجان الاتحاد القومي إنما هي تعبير عن إرادة هذا الشعب، وهو تعبير متطور على مر السنين وعلى مر الأيام وفق إرادة هذا الشعب ومشيئة هذا الشعب. رأيت الاتحاد القومي وقد وحد صفوف الأمة جمعاء، ورأيت الاتحاد القومي يمثل الأمل في كل أنحاء هذه الجمهورية. ونحن - أيها الإخوة - كما قلت في الماضي أمة تنظر إلى تاريخها وحاضرها ومستقبلها، روحها وقلبها وعقلها يمتزج الماضي مع الحاضر مع المستقبل، ولا يمكن أن نتنكر لماضينا، ولا يمكن أن نتناسى حاضرنا، ولا يمكن أن نتجاهل مستقبلنا.
ونتيجة هذا كله هو السياسة التي نتبعها اليوم التي تنبعث عن الدروس التي أخذناها من الماضي؛ فقد كانت الحزبية والفردية في الماضي هي سبيل الكراهية والبغضاء، وكانت سبيل التعطيل لكل الأهداف التي رأيناها. كانت هناك هتافات وشعارات مختلفة، ولكن الفرقة والحزبية لم تمكن هذه الهتافات وهذه الشعارات من أن توضع موضع التنفيذ. ولكن هذه الهتافات وهذه الشعارات كانت تعلن في مواسم الانتخابات ثم تطوى بعد هذا.
سمعنا عن هتافات تقدمية وهتافات إصلاحية وهتافات اشتراكية.. فماذا حدث من كل هذه الهتافات؟ كانت هذه الوحدة ووحدة الصف هي السبيل إلى وضع الاشتراكية الديمقراطية التعاونية موضع التنفيذ. كانت هناك هتافات وشعارات بالاشتراكية في الماضي وكان هناك إقطاع وكان هناك استغلال وكانت هناك تفرقة؛ لأن الخلاف والحزبية لم يمكن أي فرد من أن يضع هذه الشعارات موضع التنفيذ. ولو لم تقم هذه الثورة التي أعلنها هذا الشعب لما رأينا الاشتراكية الحقيقية وهى تطبق ولما رأينا الإصلاحات الحقيقية وهى تطبق. رأينا القضاء على الإقطاع ورأينا القضاء على العشائرية والتمييز بين أبناء الوطن الواحد، ورأينا توزيع أملاك الدولة على الفلاحين، ورأينا تحويل الأجراء إلى ملاك، ورأينا الفلاح وقد استرد حقه في أرضه التي يعمل فيها دائماً. هذه هي الاشتراكية التطبيقية وليست اشتراكية الهتاف، وليست اشتراكية الشعارات.. هذه هي الاشتراكية التي قبلها هذا الشعب حينما أعلن هذه الثورة وحينما أعلن أن هدفه هو إقامة مجتمع اشتراكي ديمقراطي تعاوني متحرر من الاستغلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وحينما قال الشعب هذا لم يكن بأي حال من الأحوال يبغى أن تردد هذه الجمل كشعارات أو هتافات، ولكنه كان يبغى أن توضع موضع التنفيذ، وحينما وضعت موضع التنفيذ إنما وضعت بواسطة هذا الشعب الذي ثار، لم يضعها جمال عبد الناصر ولم يضعها فرد من الأفراد؛ لأن هذا الشعب الذي ثار إنما كان يستهدف من هذه الثورة رفع راية القومية العربية، وكان يستهدف أيضاً أن يحقق الثورة السياسية والثورة الاجتماعية. وحينما رفعت راية القومية العربية ووضعت موضع التنفيذ وقامت الجمهورية العربية المتحدة صمم هذا الشعب على أن يسير في زحفه المقدس ليحقق الثورة السياسية والثورة الاجتماعية.
وكان لابد لنا حتى نحقق هذه الثورة السياسية من أن نقضى على الحزبية التي فرقت بيننا في الماضي والتي مكنت للاستغلال السياسي. وكان لابد لنا لكي نحقق الثورة الاجتماعية أن نقضى على الاستغلال الاقتصادي والاستغلال الاجتماعي، وكان لابد لنا حتى نحقق الثورة السياسية والاقتصادية أن نقضى على الإقطاع، وأن نقضى على سيطرة رأس المال على الحكم وأن نقيم بين ربوع جمهوريتنا الجيش الوطني القوى والعدالة الاجتماعية، والحياة الديمقراطية السليمة بدلاً من الحياة الديمقراطية المزيفة التي فرضها الاستعمار علينا لتفرق بيننا ولتقيم الخلاف بين الأخ وأخيه. فكان الاتحاد القومي هو الوسيلة التي يمكن بواسطتها أن نجمع صفوف هذا الشعب لنحافظ على ثمرات كفاح هذا الشعب، ولنقيم المجتمع الديمقراطي الاشتراكي التعاوني المتحرر من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
وكانت هذه - أيها الإخوة - هي خطوة على طريق الزحف المقدس الذي أعلنه هذا الشعب. كان لابد لنا من أن نسير في هذا الطريق لنبنى بلدنا ولنضع الاشتراكية التعاونية الديمقراطية موضع التنفيذ، وكان من الواضح لنا أن لا سبيل للديمقراطية السياسية إلا إذا قامت بين ربوع الجمهورية كلها ديمقراطية اجتماعية. فقد مررنا بتجربة الديمقراطية السياسية مع الإقطاع ومع سيطرة رأس المال، ومع التحكم والاستغلال، قابلنا هذه الديمقراطية السياسية في مصر وفى سوريا، فماذا كانت النتيجة؟ لم يتمكن الشعب بأي حال من الأحوال أن يضع أهدافه موضع التنفيذ، لم يتمكن الشعب الذي نادى بتكافؤ الفرص أن يتمكن من أن يضع تكافؤ الفرص موضع التنفيذ، أو الذي نادى بالاشتراكية أن يضع هذه الاشتراكية ويرى ثمرة لها غير الهتاف ورفع الشعارات. لقد رأينا هذا في الماضي فكان لابد لنا أن نقيم الديمقراطية الاجتماعية لتسير جنباً إلى جنب مع الديمقراطية السياسية، وكان لابد لنا أن نسير فى خطانا على هذا الطريق بطريقة لا تجعل فرصة لأن نقع في الاستغلال السياسي أو الاستغلال الاجتماعي أو الاستغلال الاقتصادي.
وكان الاتحاد القومي هو سيبل الأمان لتحقيق هذه الأهداف التي آمن بها الشعب والتي ضحى من أجلها وضحى في سبيلها. واليوم ونحن نجتمع في هذا المكان مع لجان مكاتب الاتحاد القومي في جميع أنحاء الإقليم السوري نشعر أننا سرنا خطوة كبرى على هذا الطريق.
وقد أعلنا في دستورنا الذي أعلن بعد الوحدة أننا سننظم جمهوريتنا، سننظمها على أساس من جمع المواطنين جميعاً في اتحاد قومي ليحقق الأهداف التي قامت من أجلها هذه الثورة التي أعلنت فى سنة ٥٨. فكان لابد لنا من أن نضع هذا البناء موضع التنفيذ على أسس ديمقراطية سليمة تنبع من القرية والحي وكان لابد للمواطن في كل أنحاء الجمهورية من أن تكون له الكلمة الأولى، وكلنا نعلم كيف حورب الاتحاد القومي في هذا الإقليم، وكيف حورب في هذا الإقليم وتعطل بعض الوقت عن أن يقف على أقدامه. كانت هناك محاولات لعدم إقامة الاتحاد القومي، وكان السبب لهذه المحاولات هو أن تستمر الحزبية في عملها لبعض الناس.. بعد أن أعلنوا أنهم قرروا حل الحزبية وحل أنفسهم رأوا في الاتحاد القومي الطوفان الذي سيقضى على الفردية والانتهازية فهبوا وقد تملكهم الذعر على أنفسهم، ولم يكن هناك سبيل لأن يتملكهم الذعر، هبوا وقد تملكهم الذعر على أطماعهم وعلى فرديتهم وعلى ما يفتعل في قلوبهم ونفوسهم ليمنعوا بكل وسيلة إقامة هذا الاتحاد. وتعطلت الأمور لأنني كنت أسعى دائماً لأن أجمع هذا الشعب بكل فئاته وبكل رجاله ونسائه، وكنت أسعى لأن ننسى الماضي ونتناساه، وأن نتجه إلى المستقبل بروح متجردة خالصة لله والوطن لنبنى هذا الوطن ونؤدي الرسالة التي ألقاها على عاتقنا.
وكنت أرى أن أمامنا السبيل لنتناسى كل ما حدث في الماضي، بل أمام هذا الشعب الطيب السبيل ليفتح ذراعيه ويغفر لكل من أخطأ في حقه في الماضي فقلب الشعب كبير وقلب الوطن قلب كبير. وكنت أرى أن علينا أن نسير بكل وسيلة من الوسائل لنجمع الصفوف ونوحد الصفوف، ولكنى كنت أرى.. كنت أرى الأطماع وهى تظهر بطريقة غير واضحة، والأنانية الفردية. وكان الاتحاد القومي هو الخطر الذي يهدد كل الأطماع ويهدد الانتهازية ويهدد الشيوعية ويهدد كل من يريد بهذا الوطن سوء، وكل من يريد أن يتحكم فيه عن طريق الاستغلال السياسي أو الاستغلال الاقتصادي أو الاستغلال الاجتماعي، أو عن طريق الاحتكار السياسي ورفع شعارات زائفة رفعت في الماضي ورأيناها رفعت ولم تنفذ.
وكنت أعلم الهجوم الذي وجه إلى الاتحاد القومي من أول يوم، وما هي فلسفة الاتحاد القومي؟ وما هي عقيدة الاتحاد القومي؟ وكنت أبحث عن فلسفة في الماضي لحزب من الأحزاب فلم أر فلسفة أو عقيدة في الماضي لحزب من الأحزاب.. فلم أجد عقيدة. كانت هناك شعارات، ونحن الذين وضعنا هذه الشعارات موضع التنفيذ، نحن الشعب لا الأفراد ولا القادة ولا الحكومة، الشعب الذي وضع هذه الثورة موضع التنفيذ.
كنت أسمع وكنت أرى ما يوجه إلى الاتحاد القومي وكنت أسمع الاتهامات؛ هذا خائن وهذا جاسوس. ولم يكن قلبي ليرضى بأي حال من الأحوال أن يقبل أن يكون بين أرض الوطن خائن أو جاسوس.. وكنت أحاول دائماً أن أجمع بين الصفوف وبين القلوب؛ لأن هذا هو هدف الشعب، ولم يكن لي إلا أن أضع إرادة الشعب موضع التنفيذ، الشعب الذي حملني الأمانة يوم قامت هذه الوحدة، الأمانة في أن أسير به وأسير معه في زحفه المقدس لتحقيق الأهداف الكبرى التي أعلنها والتي ضحى من أجلها؛ وكانت النتيجة الصبر والصبر الطويل.
وكانت النتيجة أن تعطل قيام الاتحاد القومي حتى حانت الفرصة وآن الأوان ليبدأ الاتحاد القومي ويقوم بعمله كما نص على ذلك الدستور. وبدأت الانتخابات، وكان هناك عشرة آلاف ليمثلوا أبناء الإقليم الشمالي في لجان الاتحاد القومي. وبدأت الأقاويل: عشرة آلاف جاسوس.. عشرة آلاف خائن، كلام لا يمكن لفرد أن يقبله، ولكنه كلام يعبر عن الحقد والكراهية، كلام يعبر عما يفتعل في نفوس هؤلاء الذين يريدون أن يغتصبوا هذه الأمة اغتصاباً، كلاماً لا يمكن أن يعبر بأي حال من الأحوال عن طبيعة هذا الشعب وروح هذا الشعب.. هذا الشعب الشريف المكافح. وكان يقال: إن نضال الأمة العربية احتكار على عشرة من الأفراد، أما هذا الشعب فلم يناضل. ولم أكن أؤمن أبداً أن هذا الشعب استطاع أن يطرد فرنسا بعشرة من الأفراد ولكنه طرد فرنسا بوحدة الصف والاستشهاد والدم، وفى كل بيت وفى كل مدينة نجد الذين استشهد لهم الإخوة أو الآباء أو الأجداد في الكفاح ضد فرنسا واستعمار فرنسا. وكنت أؤمن أن هذا القول إنما يقال حتى لا يقوم الاتحاد القومي، وحتى تكون هناك فرصة للحزبية لتعمل مستترة ومقنعة حتى تستطيع الفردية والانتهازية... ولكنى في نفس الوقت كنت أؤمن أن هذا الدرب يسير إلى سراب؛ لأن الحزبية أو الأفراد الذين يصممون على أن يسيروا في حزبيتهم لن يجدوا القاعدة التي كانت لهم في الماضي؛ لأن هذه القاعدة هي الشعب وهى من صميم الشعب، ولأن هذه القاعدة حينما كافحت إنما كانت تكافح وكانت تنطلق في كفاحها وهى تؤمن بحق هذا الشعب في الحرية والحياة. وكنت أؤمن أنه لا يمكن للانتهازية التي تريد السيطرة وتريد الزعامة وتريد التحكم أو تريد القضاء على الوحدة العربية أن تجد لها سبيلاً بين صفوفنا.
واليوم رأيت الاتحاد القومي، رأيت الشعب في الاتحاد القومي، في هذا الشباب في هذا الأمل الكبير الذي رأيته في كل مدينة وفى كل قرية، ورأيت الاتحاد القومي كالطوفان يكتسح في سبيله كل من يعمل ضد الجمهورية وضد أهداف الشعب، ورأيت الاتحاد القومي وهو يؤمن بأهدافه ويؤمن برسالته، ورأيت كل فرد من لجان الاتحاد القومي وهو يؤمن أن الاتحاد ليس وسيلة إلى غاية فردية ولكنه سبيل إلى حماية المكاسب الوطنية وسبيل إلى بناء هذا الوطن وجمع صفوفه، ورأيت الاتحاد القومي ولجان الاتحاد القومي وهى تهدف إلى أن تعمل على تطوير هذه الجمهورية. فالاتحاد القومي هو تمثيل للشعب في القرى وفى المدن، والقيادة لا تستطيع أن تقود إذا لم تعرف المشاكل وإذا لم تحل هذه المشاكل، والاتحاد القومي هو الذي يستطيع أن يعرف مشاكل الشعب، ثم يستطيع أن يحل هذه المشاكل إذا كان في قدرته أن يحلها، ثم يستطيع أيضاً أن يبلغ هذه المشاكل إلى السلطات الأعلى لتعمل على حلها بواسطة الحكومة. وقد قلت هذا في زياراتي والاتحاد القومي هو فعلاً التنظيم الذي يحقق لنا القضاء على الاستغلال السياسي؛ فلا يمكن في داخل الاتحاد القومي أن تقوم كتلة من التكتلات تعمل لدولة أجنبية أو تعمل لهدف يتنافى مع أهداف الجمهورية أو أهداف الشعب، ولا يمكن في الاتحاد القومي أن نرى أي انحراف يسيطر على أي مجموعة من أفراد لجانه، ولكن هذا لا يعنى أن أفراد الاتحاد القومي ليس لهم الحق في أن يناقشوا ويناقشوا بل يعارضوا أيضاً ما لم يقتنعوا به؛ لأننا نؤمن أننا نريد أن نقيم الديمقراطية السياسية الحقة، ونقيم بين ربوع بلدنا الحياة الديمقراطية السليمة.. ديمقراطية اجتماعية من أجل الشعب وديمقراطية سياسية من أجل الشعب. رأيت هذا في كل أنحاء جمهوريتنا.
واليوم ونحن نجتمع في هذا المكان لابد لنا أن نفكر من أن نكمل تنظيم هذا الاتحاد القومي حتى يمكن لنا أن نسير في تثبيت دعائم أمتنا، وحتى يمكن لنا أن نكتسح أكثر وأكثر مما اكتسحنا أعداء أمتنا وأعداء جمهوريتنا أو الخوارج على أهداف شعبنا، أو الخوارج على الرسالة التي آمنا بها أو الذين تخلفوا عن الزحف المقدس الذي آلينا على أنفسنا أن نسير فيه إلى النهاية حتى تتحقق كل الأهداف التي كافحنا في سبيلها.
هذا هو الاتحاد القومي، ونحن في أوائل أيام تكوين الاتحاد القومي لابد أن ننظم هذا الاتحاد، ولابد أن يجتمع في القريب العاجل المؤتمر الذي يجمع هذا الاتحاد في الإقليم الشمالي، ثم في الإقليم الجنوبي، ثم لابد أيضاً من أن يجتمع مؤتمر الاتحاد القومي الذي ينبثق عن لجان الاتحاد القومي عن الجمهورية بأكملها.
وبهذا نكون قد قطعنا الشوط الكبير في سبيل تدعيم جمهوريتنا ونظام جمهوريتنا، وبهذا يمكننا أن نقيم مجلس الأمة، وقد كنت أشعر أنني أستطيع أن أقيم مجلس الأمة في هذا الشهر، ولكنى في نفس الوقت كنت أحسب أن الاتحاد القومي كان لابد له أن يقوم قبل هذا الشهر، فلا يمكن أن يقوم مجلس الأمة قبل أن يقوم الاتحاد القومي؛ لأن هذا معناه تداخل في خطواتنا التنظيمية قد يضعف من دعائم بناء جمهوريتنا. واليوم بعد أن نظم الاتحاد القومي نستطيع في الأسابيع القليلة القادمة أن نكون مؤتمر الاتحاد القومي ثم نكون اللجنة العليا للاتحاد القومي، وبعد هذا نتجه إلى تكوين مجلس الأمة.
وأنا بهذا كنت أشعر أنه قد يكون من العسير على كما نص الدستور أن أعين أعضاء الأمة وحدي، وكنت أهدف أن يشترك معي الاتحاد القومي في تعيين أعضاء مجلس الأمة التي نص الدستور على تعيينهم.
فعلينا أن ننظم الاتحاد القومي في هذه الأسابيع المقبلة، وبتنظيم الاتحاد القومي لابد لنا أن ننتقل إلى تكوين مجلس الأمة. وأنا أؤمن أنه واجب علينا أن نقيم مجلس أمة واحد وبهذا ندعم الوحدة التي سرنا في سبيلها. ولن يكون هناك مجلس مصري ومجلس سوري بل سيكون هناك مجلس عربي يمثل هذا الشعب بروحه وبقلبه وبإيمانه.
بهذا - أيها الإخوة - ندعم أركان جمهوريتنا، وبهذا نستطيع أن نأمن على حاضرنا وعلى مستقبلنا، وبهذا نستطيع حينما نقول إننا سنقيم المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني المتحرر من الاستغلال بكل معاينه: السياسي والاقتصادي والاجتماعي فإنما نعنى ما نقول؛ نعنى الاشتراكية والديمقراطية والتعاونية، ونعنى القضاء على الاستغلال.
وحينما نقول أن لا حزبية فإنما نعنى لا حزبية، ولا شيوعية فإنما نعنى لا شيوعية، ولا أعوان للاستعمار فإنما نعنى أن لا أعوان للاستعمار، ولا انتهازية فإنما نعنى أن لا مكان للانتهازية، وحينما نقول إننا سنسير في طريقنا بالنظام الذي ينبع من نفسنا ومن قلبنا بمجموع هذه الأمة لتسودها العدالة وتكافؤ الفرص؛ فإننا نعنى ما نقول. وحينما نقول إننا سنبنى المصانع وسنبنى المزارع وسنبنى الرجال، حينما يقول هذا الشعب هذا فإننا نعنى ما نقول. وبعون الله وبهذا النجاح الذي رأيته في كل مكان، وبهذا الانتصار الذي وهبنا الله إياه سننتصر أيضاً في المستقبل بإذن الله بفضل وحدة هذا الشعب ووعيه وإيمانه. والله يوفقكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
٤/٣/١٩٦٠
المصدر: صحيفة الأهرام، عدد 5 آذار 1960م.
الجمل- إعداد: د. سليمان عبد النبي
إضافة تعليق جديد