أهل الدين والديمقراطية
يحاول المؤلف سيد القمني كما يقول في مقدمة هذا الكتاب رد وتفنيد كثير من المسلمات القومية الإسلامية، ومناقشة ما يراه الناس حقيقة مطلقة بينما هو الباطل المطلق.
هو في الفكر نقد للثوابت، وهو في السياسة معارضة للسائد، وهو في القيم، مع احترام العقل والبحث والتعلم الذي أغلقت أبوابه منذ أكثر من ألف عام.
الإسلام دين شامل متفاعل مع واقع زمانه ومع الإنسان، صنع للعرب دولة هي السياسة بعينها، وأقام اقتصادا مركزيا للقبائل المتشرذمة، وأنشأ الفنون والثقافة والعلوم، وتحاور مع الأديان والثقافات الأخرى.
ولكن الأزمة في التمسك بغير الصحيح من الدين وإضفاء القدسية على حلول ومواقف قدمها الإسلام في ظرف وزمان محدد بالواقع المحيط بحسبانها حلولا ومواقف صالحة لكل زمان ومكان، برغم أن الزمان غير الزمان والمكان غير المكان.
فالتطور الهائل في العالم اليوم بفضل العلم ومكتشفاته قد غادر مكاننا وزماننا إلى مساحات جديدة وفصل جديد من تاريخ الإنسانية، يحتاج عقلا وفهما ومواقف وقرارات وحلولا غير ما كان يحدث في جزيرة العرب عند إنسان بسيط فطري، ومواقف أقل تعقيدا من اليوم بما لا يمكن أن يقارن أصلا بدنيانا شديدة التعقيد.
وقد نشأت للمسلمين بسبب هذا الفهم المغلوط للإسلام مشاكل مستعصية مع الحداثة، تعود في معظمها إلى رفض حق الإنسان أن ينجز، وإنما عليه أن يستقبل الإنجاز جاهزا كاملا متكاملا كما جاء في دين الإسلام، وهو أمر ربما يعود إلى طبيعة الحياة البدوية البسيطة في الأساس، حيث يعمل البدوي بقدر ما يجلس، وينتظر مطرا تجود به السماء.
بينما الحداثة بشكل عام هي منجز الإنسان وكده وعقله وعمل يديه، بل هي رفض ونقد كل منجز جاهز، ومن الطبيعي أن تقوم ثقافة العربي على مرجعية مقدسة جاهزة، لا حل معها ولا اختلاف ولا مخالفة لأنها كمطر السماء ونبات الأرض لا دخل له فيها، فمن الطبيعي إذن أن يتصادم مع الحداثة بكل قيمها.
ولكن الإسلام الذي تقدم بالأمة خلال القرون الأربعة الأولى إلى مواقع حضارية وعلمية متقدمة لا بد أن يكون قادرا على مواصلة التقدم لو أن المسلمين أعادوا النظر في أنفسهم ومناهجهم وطريقة قراءتهم للنص.
فيبدو أن هناك اختلاطا ما في المسألة يؤدي إلى التباسها، هو أن الدين في حد ذاته ليس طرفا في الموضوع، إنما هو خارج اللعبة وبريء من التخلف مثلما هو بريء من التقدم، وأن الإسلام كدين في ذاته لم يكن عنصرا في إنجازات الرازي والفارابي وابن الهيثم، وليس عنصرا في اختفاء العلماء المسلمين.
ومع الإسلام نفسه تقدمت دول أخرى في شرقي آسيا أطلق عليها لقب النمور الآسيوية، وبالإسلام نفسه تعيش بقية دول المسلمين في مؤخرة الأمم.
إن المشكلة ليست في الدين ولا في أي دين، لكنها في كيفية استثمار هذا الدين، فهناك من استثمره في التقدم وهناك من يستثمره في التخلف، وهناك من احترم الدين فصانه بعيدا عن الألاعيب السياسية ودسائس المشايخ والسلاطين، وهناك من يستثمره حفاظا على خط فكري نظري واحد ليظل سيد الموقف في كل شأن وكل أمر.
وبهذا الموقف لا تشغله الأمة ولا الناس ولا الدين، بقدر ما تشغله سيادته وسيطرته على العقل المسلم، واستمرار هذه السيادة السلطوية المستمدة في استعباد الناس.
ويبدو أن سبب التخلف هو رجال الدين أنفسهم بتحالفهم الانتهازي عبر التاريخ، ولخطابهم الذي يعود للقرون الوسطى إذا ما قورن بلغة الحداثة اليوم.
ففي الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الفصل بين السلطات يتحدث المشايخ عن الدمج الكامل بين السلطات الدينية والدنيوية في دولة إسلامية.
عندما تمر الأمم بمرحلة من الشيخوخة والزهايمر تفقد نظرتها الصحيحة للقضايا وأدوات المعرفة والعلم والحكم، وهناك إشارات وأعراض كثيرة على الشيخوخة لدى المسلمين في التعامل مع كثير من المسائل التي تحتاج إلى صدمة وحسم لتستعيد المجتمعات والأفراد القدرة على التقدم ومواكبة العصر.
نلاحظ اليوم عددا لا حصر له من المشكلات والأحداث التي تعبر عن هذا الخرف، مثل إشغال الفقه والفكر في مسائل الحجاب والحيض والنفاس والكراهية والتحريض والنقاب، والطعام الإسلامي، والطب الإسلامي، وحملة تكفير علنية للمجتمع والدولة والقانون والدستور والحريات.
إن الإرهاب هو النتيجة الطبيعية والمفترضة لسوء السياسات التي استخدمت الدين في أغراضها لجر الشعوب عن رضا وإيمان، والغريب أن التفاعل مع التكنولوجيا أنتج آلة عملاقة من الفضائيات والصحف والكاسيت ومواقع الإنترنت لترويج التخلف والإرهاب.
والدراسات العلمية في الغرب والانفتاح على تجربته الحضارية والثقافية والتقنية أنتجت فيما أنتجت حجما كبيرا من العمل الإسلامي في الاستشفاء بالعسل والحبة السوداء، والعودة إلى حياة السلف الصالح في اللباس والطعام والتكفير والهجرة والعنف.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الحريات يتحدث قادة الصحوة الإسلامية وعلماؤها ومشايخها عن حد الردة والخروج عن المعلوم من الدين بالضرورة، وعدم الاجتهاد مع وجود النص، وتهدر دماء الكتاب والمفكرين.
وفي الوقت الذي تتحرك فيه الدنيا في وثبات عملاقة في الاقتصاد والعلم والمعرفة يدعو المشايخ إلى الثبات والعودة إلى خير القرون واحتقار الزمان الحاضر ومنجزاته إلا على سبيل الاستخدام للتطرف والعنف والتخلف.
مازال الشباب المسلم بل والمجامع الفقهية يدرسون تراثا فقهيا لا يمكن بحال قبوله في العصر الحاضر، مثل فتاوى "الأرض التي أجلي أهلها عنها" و"إذا فتح الإمام بلدا عنوة إن شاء قسمها بين الغانمين وإن شاء أقر أهلها عليها، وإن شاء قتل الأسرى أو استرقهم، أو تركهم في ذمة المسلمين، وإذا أراد الإمام العودة ومعه مواش يعجز عن نقلها ذبحها وحرقها".
هذه أحكام فقهية وردت في كتب تدرس حتى اليوم في الأزهر، مثل "الاختيار"، وعندما نفرض الجزية على الناس الذين نحتل دارهم مقابل عدم قتلهم وإقامتهم في دارنا (التي كانت دارهم) يجب عندما يأتون لدفع الجزية أن "يطال وقوفهم، وتجر أيديهم وجوبا لقوله تعالى "وهم صاغرون" (انظر روض المربع، ص 199).
"ويمنعون من بناء كنائس، ومن بناء ما تهدم منها ولو ظلما" "ويمنع من قراءة القرآن ولو رجي إسلامه" فكيف يدعون إلى الإسلام؟ "ويجوز استخدام الورق غير المحترم في التغوط، مثل ما كتب فيه علوم الفلسفة أو المنطق، أو بورق التوراة والإنجيل (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ج1، ص 73).
وهذه نماذج قليلة مما تفيض به كتب التراث التي تدرس في الجامعات والمدارس وتتداول في المكتبات وبين أعضاء الجماعات الإسلامية والمتدينين اليوم.
وقد أورد كثير من المعاصرين فتاوى شبيهة في كتب صدرت حديثا وتتداول وتدرس في المدارس والجامعات، تصف الأشاعرة والصوفيين الذين هم أغلب المسلمين اليوم بالضلال والابتداع، "وهؤلاء الذين بنوا الأضرحة على القبور أباح الله دمهم ومالهم لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدا لهم".
يجب أن نصلح ثقافتنا بأيدينا قبل أن تصلحها لنا الولايات المتحدة الأميركية، وهذا الموقف السلبي المتمسك بأشياء لا تستحق التمسك سيذهب بتلك التي تستحقه.
فليس كل التاريخ الإسلامي مآثر يجب أن نتمسك بها وندافع عنها، بل إن فيه الكثير من الأخطاء التي يجب أن نخجل منها ونعتذر عنها، وإن كانت مقبولة أو متبعة في سياق الزمان والمكان، فلا يجوز التمسك بها أو الدفاع عنها اليوم.
ويكفي أن تبرر بما كان عليه العصر، ولا أن تقبل حكايات وتقاليد كانت متبعة على أنها من الدين، ويساق الإعجاز العلمي لتأييدها، فربما يتغير العلم في اكتشافه وتطوره على نحو آخر.
ونحتاج اليوم أن نؤكد بوضوح مواطنة غير المسلمين من أهل البلاد العربية والإسلامية الذين استوطنوها منذ آلاف السنين وقبل مجيء الإسلام، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات، ويجب أن تقف فتاوى الجزية لتحل محلها عقود المواطنة والمساواة التي هي جوهرية في الإسلام أكثر من الجزية.
وقد أخذت الدول والمجتمعات في إدارتها وتنظيمها لنفسها بتقاليد وتشريعات راسخة من الانتخابات والاحتكام إلى الأغلبية وفصل السلطات، وفي تطبيقها على مدى مئات السنين تطورت كثيرا وتمأسست وامتدت إلى التفاصيل والفلسفة وأنماط الحياة والتعليم والسياسة والاقتصاد.
وإذا كان المسلمون في غياب عن ذلك فيسعهم أن ينظروا في تجارب الأمم وإنجازاتها وحضارتها، ويخرجوا من زمن ماض سحيق لم يعد مما كان موجودا فيه موجود اليوم، لأن تطبيق الأفكار والمقولات كما هي قبل مئات أو حتى عشرات السنين سينشئ كارثة سياسية واجتماعية.
فالدول التي قامت ونشأت على عقد اجتماعي حول المكان والناس المقيمين فيه سيعرضها للانقسام والنزاع والحرب الأهلية تقسيمهم إلى طوائف وشيع رغم أنهم مواطنون، وسيترك ذلك في نفوس بعضهم جرحا غائرا يدفعهم إلى الاستعانة بالدول الخارجية أو محاربة دولتهم ومجتمعهم، وفي أحسن الأحوال الانطواء والشعور بالظلم الذي لا يجوز أن يشعر به مواطن.
فالعالم اليوم يتحول إلى قرية كونية تختلف فيها الأعراق والأديان وتتوحد إنسانيا ومصلحيا، ومازلنا نصارع من أجل تأسيس مفهوم الوطن الكلاسيكي إزاء رياح الوطن والجماعة التي تكفؤنا كلما حاولنا النهوض.
وما يحدث في العراق ومن قبل في لبنان شاهد على الضرورات الكبرى التي يجب أن نلتفت إليها في بناء الأوطان والدول وتنظيمها.
وهذه العودة إلى الطائفية والقبلية والعنصرية تشكل منظومة التخلف، وتهدد الاستقرار والتنمية ومعاش الناس وأمنهم، وإذا أدرجت في سياق المقدس والجهاد فإنها تتحول إلى كارثة عظيمة تدمر كل شيء.
المواطنة هي المعني البسيط الذي يتجمع حوله الناس، وأساس التماسك الاجتماعي المؤدي إلى الإصلاح، ودون ذلك يظل الإصلاح سرابا نلاحقه دون أن نصله أبدا.
ونظرية الوطن القائم على أساس الدين أو الطائفة أو العرق مع تكفير ورفض فكرة الوطن الأرض ينطوي على فتنة ومغالطة ومصادمة لحقائق التاريخ والجغرافيا.
ولكنه للأسف الشديد رغم ذلك يجد أنصارا أتباعا ومؤيدين ومنظرين من كل الفئات والطبقات، تتحدى وتكفر كل من يخالفها، دون توقف للحظة واحدة لتصور تطبيق هذه الأفكار والمقولات على أرض الواقع.
وهذه في الأصل فكرة بدوية قبلية كانت تخاف من الضياع والانقسام والتفكك في الصحراء، وكان الحل في التشديد على تماسك الأفراد وتغليظ العقوبة على المخالف، لأنه يهدد الجماعة كلها في ظرف جغرافي شديد القسوة، حتى تشابه الأفراد تماما في الزي والسلوك والطقوس والتحية والتفكير.
ولكن الإنسانية تجاوزت هذه المرحلة البدائية المجتمعية، وأنشأت حول الأرض مصالح ومنجزات حضارية مستقرة تحتاج إلى تشريعات وتنظيمات وثقافة قائمة على المصالح وحماية الأرض وعلاقتها السلمية والتعاونية مع الدول الأخرى، لأنها لم تعد جماعات هاربة مثل الأشباح.
ولكنها مجتمعات مستقرة في مدن تنظمها مصالح مستقرة ثابتة وتربطها بالأرض التي تعيش عليها روابط تدعو إلى الاستقرار والبقاء لا إلى الرحيل إلى أي مكان، وتحتاج أن تنظم علاقتها مع الدول الأخرى على النحو الذي يحمي المصالح المشتركة وينظمها.
وربما لأننا اليوم لا ننتج ولا نبدع ولا نكتشف لا نرى مصالحنا في الاستقرار والعدالة والتسامح والتنظيم القانوني والإداري فليس لدينا شيء نخاف عليه سوى متاعنا الزائل الذي نحمله معنا ونمضي به في أرض الله الواسعة!
ولكن ذلك لم يعد ممكنا ولا متقبلا حتى في الخيال، فالأوطان مرتبطة بالأرض أكثر من الجماعة ولا مناص من عقد اجتماعي قائم على المواطنة المرتبطة بهذه الأرض والتفكير على هذا الأساس.
- الكتاب: أهل الدين والديمقراطية
- المؤلف: سيد القمني
- عدد الصفحات: 322
- الناشر: دار مصر المحروسة، القاهرة
- الطبعة: الأولى/2006
عرض/إبراهيم غرايبة
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد