الإنجيل برواية القران
الإنجيل برواية القرآن، كتاب، للباحث في تاريخ الأديان الأستاذ فراس السواح، عمل يأخذ أهميته من خلال المقاربة لأهم نصين دينيين في العالم، حيث يناقش الكتاب القضايا الخلافية بين الإنجيل والقرآن، بموضوعية بعيدة عن الانغلاق والتعصب. في حفريته هذه، يحاول الخروج من السياجات الدوغمائية التي تتمترس خلفها العقلية الصراطية في كلا الفريقين، ولنكتشف معه أن هذه الهوة تكاد تضيق كثيراً بشكل يسمح بالتواصل بدلاً من القطيعة التي يعمل عليها أصحاب المشاريع الراديكالية، فإبقاء هذا الشرخ هو بمثابة شريان تتغذى عليه الأصوليات الدينية والتي من خلاله تعيد إنتاج صراعها مع الآخر على خلفية معتقديه.
من هنا تصبح الحاجة ماّسة لتقريب وجهات النظر وتحويل الخلاف إلى اختلافات في وجهات النظر، تأخذ بالاعتبار خصوصية كل دين وذلك عبر الحوار الذي أراده مدخلاً لهذا العمل كما يقول: " على أنني في التركيز على نقاط الالتقاء لا أدعي وجود تلاقي كامل بخصوص كل المفاهيم، فالاختلاف موجود، والحوار وحده كفيل بإظهار الاختلافات الحقيقية وفرزها عن الاختلافات الوهمية النابعة من سوء فهم كل طرف للآخر". (ص7). هذا هو التوجه، فإلى أي مدى كان البحث مقنعاً في تبديد الهواجس العالقة في الأذهان، تساؤلات نسوقها علها تقربنا من "الحقيقة".
لنبدأ معه بمسألة مريم العذراء، حيث يعتبر "أنه في مقابل صمت الأناجيل الأربعة- مرقس، متّى، لوقا، يوحنا – عن أصل مريم وحسبها ونسبها والذي نجد له نموذجاً عنه في قول متّى: "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس" (متّى:18). فإن الرواية القرآنية تنسبها إلى سلسلة الأنبياء العظام في تاريخ الوحي الإلهي، وتجعلها سليلة أسرة نبوية مصطفاة على العالمين "إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذريةً بعضها من بعض والله سميعٌ عليم " (آل عمران:33-34). ". (ص88).
أيعقل أن تكون مريم بهذا النسب وتسكت عنه الأناجيل؟ وماذا عن الحقيقة التاريخية التي أوردها القرآن، وأين الرأي البحثي والأكاديمي الذي عوّدنا عليه السواح حول هذه المعلومة. يبدو القفز فوق هذه المعضلة واضحاً، ويصبح سهلاً حين يتم استحضار عداوة اليهود لمريم ويسوع المسيح. كما يقدمها: "وتدافع الرواية القرآنية عن سمعة مريم التي حاول اليهود طوال تاريخهم تلطيخها واتهامها بالزنى"فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ..وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً" (النساء:155-156). فلقد استخدم اليهود شخصية مريم في سياق انتقادهم للمسيحية والحط من قدر يسوع الذي وصفوه بأنه ابن غير شرعي لمريم من جندي روماني يدعوه التلمود بانتيرا. وقد غادر بانتيرا هذا فلسطين بعد أن حملت منه مريم. وقد كان للعثور على شاهدة قبر لجندي روماني من مدينة صور الفينيقية، توفي في ألمانيا، كتب عليها: تيبريوس جوليوس عبدي بانتيرا، دور في إعادة فتح هذا الملف الذي لم يغلقه اليهود حتى اليوم". (ص89).
"في هذا الشأن يقول الباحث Morton Smith في كتابه Jesus the magicianأن الاسمين الأولين في هذا الاسم المركب هما تيمناً باسم الإمبراطور تيبروس الذي خدمه هذا الجندي أثناء حكمه، والاسم الثالث "عبدي" هو اختصار للتعبير السامي "عبد شمس" وأما بانتيرا فهو ترجمة للاسم السامي "فهد" وهو الاسم الأصلي لهذا الجندي. ثم يتساءل ما إذا كانت هنالك صلة بين هذا البانتيرا وبانتيرا التلمود". (ص90).
مع أن باحثنا يهتم بكل أثر يشير إلى اليهود، نراه هنا ينقل الرواية دون أي تعليق على الرغم من أهميتها، وهو أمر يمكن فهمه، لاسيما حين يعتبر أن : "من أهم خصائص إنجيل يوحنا تركيزه على كراهية يسوع لليهود، وسعي اليهود لقتله منذ البداية والتخلص منه. فيما جعل الإزائيون – مرقس، متّى، لوقا – من النخبة اليهودية المتمثلة بالفريسيين والكتبة والناموسيين علماء الشريعة خصوماً ليسوع، يرومون هلاكه بداعي إفساده للعقيدة. وقد وصف يسوع اليهود بأبشع الأوصاف منها: أولاد الأفاعي وقتلة الأنبياء وأولاد إبليس". (ص17).
المسيح الذي يطالب مريديه بمحبّة أعدائهم قبل محبته لا يمكن أن يكون مليئاً بالكراهية نحو شعب بأكمله، وما قيل عن لسانه يندرج تحت وصف النخبة التي لم تقرّ بنبوته، وهذا الأمر ليس حكراً على اليهود الذين لهم شريعتهم، من هنا يمكن فهم عدم إتباعهم إياه وتحديداً، عندما طالبوه، أن يظهر لهم معجزاته، فما كان منه إلا أن تذرع بعدم إيمانهم وأن "لا كرامات لنبي بين قومه".
أما اعتبار الكراهية التي يتضمنها جملةً، إنجيل يوحنا على اليهود هي "ميزة" شيء بحاجة إلى التوضيح كي لا يفهم منه أنه يتبنى مثل هذه التهمة إن لم نقل التوجّه، يخرج الباحث عن موضوعيته، فلو كان كل الشعب اليهودي "أولاد إبليس" فما الذي يفعله المسيح بينهم! هذا الكلام يجب ألا يتم تمريره بسرعة إذ من غير المنطقي اجتزاء الحقائق، وتقديمها بشكل منقوص، لأننا نعلم أن غالبية المسيحيين لا يؤمنون بمحمد كنبي، فهل يجوز لنا أن نصفهم بـ"القردة والخنازير"! ألا يجب احترام معتقد الآخر كي يتمكن هذا الآخر من احترام معتقدنا حتى لو لم يؤمن أو نؤمن به!. وهو ما يحيلنا إلى الكلمة الخلافية بين المسيحيين والمسلمين، لكلمةparaqletos والتي على ضوئها استمد الإسلام شرعية ولادته، ونسخه للشريعة المسيحية.
" فكلمة paraqletos فسرها مترجمو العهد الجديد بأنها تعني "المعزي" على خلاف السريان الذين أبقوا الكلمة على حالها. أما "أحمد" الواردة في القرآن، فتعني بالعربية "الأكثر حمداً" و"الأكثر تمجيداً" (…) هناك من الباحثين من يعتقد أن كاتب إنجيل يوحنا لم يستعمل في الأصل كلمة بارقليط paraqletos وإنما استعمل كلمة بيرقليط periqlytos المشتقة في اللغة اليونانية القديمة من جذر يفيد معنى التمجيد والحمد والثناء وأن الخلط بين الكلمتين قد جرى فيما بعد على أيدي النساخ. فإذا كان كذلك، فإن الكلمتين الإنجيلية والقرآنية تتفقان في المعنى". (ص109).
على ضوء ما تم استعراضه، هل نفهم أن كلمة periqlytos موجودة بالفعل في النسخ الأولية قبل أن تنسخ خطأً؟ أم أننا أمام تصوّر ذي شكل منطقي غير موثق كبحث أثري، وهو ما يجعل الباب مفتوحاً على الاحتمالات. نأمل ألا تكون الغاية منها مهما كان نبلها بديلاً عن الحقيقة التاريخية، والتي وحدها كفيلة بإنهاء هذا السجال العبثي بين الديانتين، ونحن هنا لسنا أمام كلمة عادية أصابها الخطأ ولم يفطن لها قارئو الإنجيل. ولو سلّمنا بحقيقة ما يذهب إليه، فما المطلوب! أن تّقر المسيحية بإسلام ينسخ شريعتها، على اعتبار أن "أن الدين عند الله الإسلام" و"ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". مؤكد أن الكاتب قد لا يرمي ذلك، ولكن ما قيل لا يمكن أن يفهم إلا في هذا السياق.
مفهوم ابن الله:
في المفهوم التأسيسي لكلمة ابن الله يرى الأستاذ فراس أن اليهود تأثروا بالتراث الكنعاني، الذي يعتبر أن الملوك بعد الموت هم أولاد للآلهة، حيث النبوة التي تجمع بين الملك والإله إيل ليست إلا صلة مجازية تعبر عن الوضع المميز للملك…فالملك المسيح الذي اختاره الرب لحكم إسرائيل، هو ابن بالتبني لله. وصلة الأبوة والنبوة التي تجمع بينهما هي نوع من المجاز اللغوي الذي يعبر عن مكانة الملك (الذي كان يدعى بمسيح الربّ) عند الله. وفي ظل العقيدة التوحيدية الصارمة لكتاب العهد القديم، لا يوجد لدينا أي نص سواء في الأسفار القانونية أو غير القانونية، يمكن أن نستشف منه إلوهية أحد من البشر". (ص190). مادمنا بفكرة التأسيس التاريخية، نزيد على فكرة التوحيد في العهد القديم عبارة "لا إله إلا الله" ( الآية 32 كتاب صموئيل الثاني، فصل 22 المزمور 18). لنقول، وحدها القراءة التاريخية تستطيع فهم النصوص الدينية لأديان الوحي الثلاثة، فكما يمارس السواح قراءته التاريخية لنصوص العهد القديم، عليه ألا يستثني الإنجيل والقرآن. لقد ورد في القرآن: "وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا قاتلهم الله أنى يؤفكون". ( التوبة: 30 ). فما رأي باحثنا في هذا الكلام، بعد أن أشار إلى العقيدة التوحيدية الصارمة للعهد القديم!
في إنجيل يوحنا ترد كلمة "ابن اله" في بعض المواضع، مغايرة للطرح الذي ساقه المؤلف كمجاز لغوي، رغم محاولته تطويع النص الإنجيلي كي يتفق مع القرآن، إلا أن الحجج تبدو غير مقنعة، ولننظر ماذا كان تفسيره للآيات التالية:
* أنا والآب واحد (10 :30)
* الآب فيّ وأنا فيه (10 :38)
* والذي يراني يرى الذي أرسلني (12: 45)
* والذي رآني فقد رأى الآب (14: 9)
* صدقوني أني في الآب والآب فيّ وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها (14:14 ).
" في الحقيقة لا يمكن تفسير هذه الأقوال في ضوء ما سبق، إلا بافتراض أن يسوع كان يتفوه بها تحت ضغط حالة وجد صوفيّ ميّزت التجربة الصوفية المشرقية منذ القدم، واستمرت لدى المسلمين. وقد اصطلح على تسمية الأقوال الصادرة في مثل هذه الحالة بـ"الشطح". (ص200).
ألسنا هنا أمام طبيعتين للسيد المسيح واحدة إلهية والثانية بشرية، وإلا كيف نفسر هذا الكلام والذي يفهم منه أن المسيح هو الله، وهل تكفي كلمة "شطح" لتبرير ما قيل. المسيح يشطح فيصبح إلها، ولا يتدخل جل جلاله، ليلومه كما فعل مع النبي محمد في حادثة الغرانيق، خصوصاً وأن الأمر كان يتكرر. يبدو أن استنطاق النص وتوظيفه في خدمة الفكرة التي يرغب المؤلف في إيصالها هي السائدة مع الأسف.
يسوع "الكلمة":
نتابع على ذات الإشكالية عند بولص الرسول إذ يقول: "يا لعمق غنى الله وكلمته وعلمه..، لأن منه و به كل الأشياء. له المجد إلى الأبد". ( رومية11: 33-36 ). المقطع الإشكالي ليس هنا بل في التالي، الذي يفهم منه وجود إشارة إلى إلوهية المسيح حيث يقول: "أولئك الذين هم بنو إسرائيل، ولهم التبني والمجد والعهود والشريعة والعبادة والمواعد، والآباء ومنهم المسيح من حيث أنه بشر. وهو فوق كل شيء إله مبارك أبد الدهور. آمين" ( رومية9: 4-5 ).
يعتبر المؤلف أن: "هذا المقطع يتخذ معنيين حسب استخدامنا لعلامات التنقيط التي لم تكن مستخدمة في الكتابة اليونانية القديمة، فإذا وضعنا نقطة بعد جملة "وهو فوق كل شيء" تغدو جملة التبريك الأخيرة موجهة للآب لا للابن "ومنهم المسيح من حيث هو بشر، وهو فوق كل شيء. الله مبارك أبد الدهور. آمين". وبقي الخلاف حول موضع النقطة قائماً حتى حسمته الترجمات الإنكليزية الحديثة للكتاب المقدس…منها الترجمة الإنكليزية الحديثة ( new English bible) وهي الآن الأكثر اعتماداً لدى الباحثين، حيث وضعت نقطة في الموضع المشار إليه أعلاه". (ص206).
سوف نسّلم جدلاً بموضع النقطة كما أشار، لكن بالمقارنة أيضاً بين عبارة "لأن منه وبه وله كل الأشياء" مع عبارة "من حيث إنه بشرٌ. وهو فوق كل الأشياء". نجد أن الإشكالية لم تزل قائمة على اعتبار أن المسيح "الكلمة" هو فوق كل شيء، فما الخلاصة التي توّصل إليها السواح؟ "هذه الوقفة المطولة عند الألقاب المتعلقة بالطبيعة الفائقة ليسوع في العهد الجديد (المسيح ابن الإنسان، ابن الله، الابن) هي أن يسوع يشغل المرتبة العليا في سلم الكائنات الأرضية تقع على الحدّ الفاصل بين اللاهوت والناسوت، ولكنه دون الله". (ص208).
إن ما خلّص إليه السواح من أن يسوع هو الحد الفاصل بين اللاهوت و الناسوت لا ينفي احتمال حلول اللاهوت في الناسوت، ففي الرواية القرآنية " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً" ( مريم 17 ). "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه.." ( النساء 17 ). في الأولى واضح حلول روح الله في المسيح وليس روحاً من عنده أو من روحنا. وهو بخلاف الثانية "وروحٌ منه"، كذلك تؤكد الآية الثانية بأنه كلمة الله. وهو ما جاء في إنجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الله،…. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه…" ( يوحنا1: 1-14 ). وعلى اعتبار أن المسيح "نور العالم" وهو "الكلمة" التي كانت في البدء، هنا يصبح الابن غير مخلوق!.
يقول السواح: "أنه في سفر أعمال يوحنا المنحول وهو من الأدبيات الغنوصية، وردت "الكلمة" بين ألقاب يسوع "المجد لك أيها الكلمة، المجد لك أيها النعمة، المجد لك أيها الروح.." (ص217). في هذا الكلام تأكيد لما نشير إليه، من أن هناك تباينات كثيرة، تفتح النص على قراءات عدة، حيث كل قراءة كانت تنطلق من الخصوصية الثقافية والمعرفية المحيطة بها، ولأن النص الديني يتضمن "الحقيقة المطلقة" اعتبرت كل جهة بأنها صاحبة المشروعية الحقيقية في فهم النص، وهو ما جعل الحقيقة حكراً على كل قراءة، فمن هنا كان يتم إنتاج وتوليد الصراع.
يبقى هناك ملاحظة حول فكرة "روح الله"، ففي إنجيل متّى يقول: "فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء وإذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامةٍ وآتياً عليه، وصوت من السماء قائلاً" هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". ( متّى3: 16-17 ). المشكلة هنا في حلول روح الله في يسوع إذ مرة يحل به وهو طفل في المهد كما ورد في القرآن والأناجيل الأربعة، ومرةً بعد العماد في الماء. أيهما نصدق، أم أن في الأمر حكمة!.
قبل أن نختم بإشكالية الصلب، نشير إلى نقطة غفل عنها المؤلف، وهي أن القرآن يعتبر أن الوحي جبريل هو الوسيط بين الأنبياء والله. بينما لا نجد له هذه المكانة في العهد الجديد بل والقديم، فالوظيفة المنوطة بجبريل مع النبي محمد مختلفة تماماً عما هي عليه في العهدين، الأمر الذي يبقي الأبواب مشرعة على كثير من القراءات والأسئلة.
إشكالية الصلب وموت يسوع المسيح:
الرواية القرآنية التي تقدم اليهود كقتلة للأنبياء تقول: "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍ منه مالهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ". ( النساء: 157-159 ).
يرى الأستاذ فراس: "أن في النص فجوات لا نستطيع ردمها إلا بإتباع الظن، والنص القرآني لا يقدم لنا أي معونة في جهدنا العقيم هذا. فكيف تراءى للناس موت يسوع على الصليب بينما كان في مكان آخر؟ كيف أنجاه ربه من الصلب وبأي طريقة؟ ". (ص132).
لحل هذه المعضلة الخلافية كان لا بد من الاستعانة بالكتابات الغنوصية والتي ترى " أن موت المسيح قد تراءى للناس وما هو بالحقيقة الفعلية، وبعض هذه الكتابات يستخدم فكرة إلقاء شبه يسوع على شخص آخر صلب في مكانه، وهو ما جاء في "أطروحة شيت الكبير" التي عثر عليها في نجع حمادي. وفي نص "أعمال يوحنا"- المنحول – نجد التلميذ يوحنا الحبيب يلجأ إلى جبل الزيتون بعد أن اسلم يسوع إلى الصلب، وهناك يظهر له يسوع ويقول له: بالنسبة لهم هناك في الأسفل أنا مصلوب في أورشليم، وأتجرع الخل والمرار وأطعن بالحراب..ولكنني لست ذلك المعلق على الصليب، ولم أعان أياً من تلك الآلام". (ص132).
رغم أن الأناجيل الأربعة تضج بفكرة الصلب وآلام المسيح، إلا أن السواح يبدو مصمماً على استنطاق الأناجيل لتتطابق مع الرواية القرآنية، وحين لا تخدم هذه الأناجيل فكرته، نراه يستعين بالأعمال المنحولة والكتابات الغنوصية. هنا أريد أن أورد مقطعاً يعطي فيه كاتبنا رأيه وهو: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية". ( يوحنا3: 12-15 ). حيث يشرح: "والحية التي يشير إليها يسوع هي حية النحاس التي رفعها موسى على عصا بأمر الرب بعد أن سلط عليهم الحيات لتلدغهم، فكان من لدغته حية ينظر إلى حية النحاس فيشفى. فيسوع الذي سيرفع على الصليب يشبه تلك الحية النحاسية، لأن كل من يؤمن بالآثار الخلاصية لصلب يسوع يحصل على الحياة الأبدية". (ص183).
"فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً". ( أعمال2:36).!.
إن فكرة صلب يسوع المسيح في العهد الجديد تشبه تماماً فكرة صلب العبد البار المتألم في العهد القديم وتكاد تكون حرفية، وإنه لأمر طبيعي أن تتأثر الديانات والثقافات فيما بينها، لكن من غير المعقول أن تتطابق الديانات أو تكمل بعضها على اعتبار أنها معطى نهائي، وتحديداً التوحيدية، الواحدية. على هذه الأخيرة أن تحترم فكرة الاختلاف فيما بينها، كي لا تلغي إحداها الأخرى، كما عليها أن تتواضع قليلاً وتحترم باقي المعتقدات الدينية والإنسانية ومن ضمنها الأفكار التي لا تقر بحقيقة إنزالها السماوي، على مبدأ عدم الإكراه، إذ من غير المقبول اليوم، إلزام كل البشرية بخطاب مكونه غيبي، كان موجه لعقول في بداية تشكلها. هذه الديانات مطالبة اليوم أن تتشارك مع الآخرين، لا أن تكون وصية عليهم.
* الإنجيل برواية القرآن / فراس السواح
دمشق: دار علاء الدين، ط1، 2011
بشير عيسى
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد