بعث السينما السورية بعد 78 عام
ثمانية وسبعون عاما مضت على ظهور أول فيلم سوري, ومع ذلك فإن مجموع ما قدمته السينما السورية بكافة جهاتها المنتجة لم يتجاوز مئة وستة وخمسين فيلما روائيا طويلا, أنتج القطاع الخاص منها مئة وخمسة أفلام, أي أكثر من ضعف ما انتجه القطاع العام.
ويُسجل للقطاع الخاص الريادة في إطلاق الفيلم السوري الأول, ثم إنتاج سبعة عشر فيلما قبل الإنتاج الأول للقطاع العام, وليتمّ بعد ذلك, رفع وتائر الإنتاج إلى الذروة التي عرفها تاريخ السينما السورية. لكن الغريب في سيرة هذا القطاع الحيوي, رغم تجربته المديدة والمنوعة هو عدم قدرته على ترسيخ أسس وتقاليد وخطط إنتاجية قابلة للاستمرار والتطوير, حسب متطلبات التصنيع وحاجات العرض والتوزيع, فقد تعثرت خطواته بشكل لافت, وعانى انقطاعات كثيرة وطويلة, وتعرض للمنع والتقريع, وأقفلت معظم شركاته, وغادره أغلب المنتجين والفنيين, تحديدا حين كان يسعى وراء الإنتاج الجيد والهادف من الافلام.
وإلى ذلك, لم يلق القطاع السينمائي الخاص حظه الكافي من الدعم والتوثيق الدقيق والاهتمام الإعلامي.
التحقيق الآتي سوف يلقي الضوء على المفاصل الرئيسة في هذه السيرة المتباينة الوجهات, بانتظار أن تنفتح آفاق ورؤى جديدة أمام القطاع الخاص, كي يستعيد دوره الحساس في عملية البناء والإنتاج.
في مرحلة الانتداب الفرنسي على سوريا €19201946€ ظهرت أولى الأفلام السورية بجهود مجموعة من المغامرين الذين حاولوا ولوج هذا العالم الساحر بقدراتهم الذاتية, لكن نقص الخبرة والامكانات المادية من جهة, والعراقيل التي وضعتها السلطات الفرنسية أمام هؤلاء المغامرين, ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى, حدّ من المشاريع والأحلام وأوقفها عند التجارب الأولى, حيث لا يمكننا أن نحصي طوال تلك المرحلة سوى ثلاثة أفلام روائية صامتة, أُنتجت بالأبيض والأسود, وفي فترات متباعدة. وتفيد الوثائق والمراجع ذات الصلة أن أول فيلم سينمائي سوري ظهر العام 1928 بعنوان «المتهم البريء», من إنتاج شركة «حرمون», سيناريو وتصوير رشيد جلال وإخراج أيوب بدري, عن قصة مستوحاة من أحداث حقيقية وقعت في دمشق إبان حكم الملك فيصل, وتدور حول عصابة عاثت فساداً وألقت الرعب في النفوس. ومع هذا الفيلم تكون سوريا ثالث بلد عربي عرف الإنتاج السينمائي بعد تونس ومصر, بصرف النظر عن اختلاف المقدمات والنتائج في كل بلد على حدة.
وفي العام 1932 تأسست شركة «هيلوس فيلم» وأنتجت فيلما يتيماً بعنوان «تحت سماء دمشق» من إخراج اسماعيل أنزور, وفي العام 1936 أنتج أيوب بدري فيلمه الثاني «نداء الواجب» عن ثورات فلسطين ضد الانكليز مستعينا بأرشبف السينما الغربية لتصوير المعارك.
وإذا كان الفيلم السوري الأول, حسب رأي الناقد والمؤرخ جان الكسان, قد لاقى إقبالا كبيرا وعاد بالربح على الشركة المنتجة لدى عرضه على الجمهور, فإن الفيلمين الآخرين لم يحظيا بالإقبال نفسه, بسبب ظهور الأفلام الأجنبية الناطقة, مما أدى إلى تكبد المنتجين خسائر كبيرة منعتهم من الاستمرار في المغامرة التي لم تسفر عن قيام صناعة سينمائية, لكنها أفرزت وعياً بضرورة قيامها.
في عهود الاستقلال الأولى, حاول بعض المنتجين المغامرين التأسيس لشركات سينمائية بقدرات ذاتية, تشكّل أرضية صالحة لقيام صناعة سينمائية وطنية مستقلة, تعتمد الكفايات والخبرات الفنية المحلية, ولهذا عمد هؤلاء المغامرون إلى استيراد المعدات اللازمة, وقام بعضهم بتصنيعها محلياً, كما حاولوا الاعتماد على العناصر الفنية الوطنية بالكامل لتحقيق أفلامهم. وقد برزت في هذا السياق ثلاث تجارب أساسية.
فبعد مرور عام على استقلال سوريا, قام نزيه الشهبندر بانشاء استديو جهزّه بمعدات سينمائية معظمها من صنعه, وفي العام 1948 أنتج وصور وأخرج أول فيلم سوري ناطق بعنوان «نور وظلام» من تأليف وسيناريو محمد شامل وعلي الأرناؤوط وتمثيل رفيق شكري وإيفيت فغالي وأنور البابا وحكمت محسن ونزار فؤاد وسعد الدين بقدونس.
في العام 1950, تأسست في حلب «شركة عرفان وجالق» وبعد عام قامت بإنتاج فيلم «عابر سبيل» من إخراج وتصوير أحمد عرفان وتمثيل المطرب المعروف نجيب السراج, وفي العام 1951, عمل الفنان زهير الشوا على تأسيس مصنع صغير للأعمال السينمائية, وأنتج وأخرج في بداية الستينيات أول أفلامه «الوادي الأخضر», وهو من تمثيله أيضا, إضافة إلى أميرة ابراهيم ودلال الشمالي وأكرم خلقي وخالد حمدي, وقصة الفيلم مستوحاة من أحداث حقيقية وقعت في بلدة «دير عطية», وتتناول الخلافات العائلية حول أرض زراعية ومياه السقي.
وفي العام 1963 بدأ زهير الشوا بتصوير فيلمه الثاني «وراء الحدود» الذي يتناول قضية فلسطين, لكن الفيلم لم يكتمل بسبب شح التمويل, وفي العام 1966 أنتج وأخرج الشوا فيلمه الثالث والأخير «لعبة الشيطان» عن قصة سعيد كامل كوسا, وتمثيل أميرة ابراهيم ونجوى صدقي ونجاح حفيظ, وتدور الاحداث حول محام متزوج يقع في حب غانية, وحين تخونه يحرق وجهها بالنار, ويدخل السجن, ويفقد مهنته وأسرته, لكن القدر يتدخل لمصلحته في نهاية المطاف.
في مرحلة الستينيات والسبعينيات, ظهرت توجهات جديدة لدى القطاع الخاص, تمثلت في تاسيس العديد من الشركات السينمائية ورفع وتائر الإنتاج والإفادة من الخبرات والمعدات الفنية والتقنية في لبنان ومصر, ففي هذه الفترة تأسست تسع عشرة شركة خاصة للإنتاج السينمائي, ست عشرة منها قامت في دمشق, وهي: «أفلام تحسين قوادري», «أفلام محمد زرزور», «أفلام محمد فاروق», «أفلام زياد مولوي», «أفلام سمير عنيني», «زنوبيا فيلم» €أسسها صفوح عبد القادر الدوجي€, «طارق فيلم», «أفلام فايز سلكا», «الغانم للسينما» €أسسها عبد الرزاق الغانم€, «أفلام فتنة وإغراء», «سيريا فيلم» €أسسها محمد الرواس€, «أفلام أحمد أبو سعدة», «أفلام خالد الغزي», «شام فيلم» €أسسها رفيق السبيعي€, و«سميراميس فيلم», كما قامت في حلب ثلاث شركات, هي «أفلام قبلاوي وزلط», «أفلام محمد السردار», «أفلام طيارة وأكتع»... وقد بلغ عدد ما أنتجته هذه الشركات مجتمعة ما بين الأعوام €19641977€ ستة وسبعين فيلما, أي أن هذه الأعوام مثلت الفترة الذهبية بالنسبة الى الإنتاج السينمائي السوري, ففي هذه الفترة أنتج القطاع الخاص حوالى نصف ما أنتجته السينما السورية من أفلام بكافة قطاعاتها, منذ بداياتها وحتى اللحظة, ولا سيما إذا أضفنا إلى هذا العدد مجموع ما قدمه القطاع العام الذي دخل ساحة الإنتاج السينمائي في أواخر الستينيات.
كانت شركتا «القوادري» و«الزرزر» من أغزر الشركات المذكورة إنتاجاً, حيث أنتجتا حوالى خمسين فيلما, أي ما يعادل نصف ما أنتجه القطاع الخاص بمراحله كافة, بينما تميزت «شركة الغانم» عن مثيلاتها بتوجهها نحو الإنتاج الجيد, وقد تباينت كثيرا معدلات الإنتاج السنوي بين عام وآخر في هذه المرحلة, وعلى سبيل المثال, أنتج القطاع الخاص العام 1969 فيلمين فقط, الأول «خياط للسيدات» إخراج عاطف سالم, تمثيل شادية ودريد لحام ونهاد قلعي, والثاني «الفلسطيني الثائر» إخراج رضا ميسر, وفي العام التالي أنتج القطاع الخاص ثلاثة أفلام منها «ثلاث عمليات داخل فلسطين» إخراج عبد الرحمن كيالي, وارتفع العدد العام 1974 إلى ستة عشر فيلما, وهذا الرقم يمثل ذروة الإنتاج السينمائي, ليس في هذه المرحلة فقط بل في تاريخ السينما السورية أيضا... ومن الأفلام المنتجة في ذلك العام: «غوار جيمس بوند» إخراج نبيل المالح وإنتاج القوادري, و«امرأة من نار» إنتاج كيلاوي زلط, سيناريو وإخراج رضا ميسر وتمثيل ناهد يسري وصلاح ذو الفقار وأديب قدورة وزياد مولوي ومحمد خير حلواني, و«بنات للحب» إخراج وإنتاج رضا ميسر, و«حب وكاراتيه» إنتاج زياد مولوي.
أما في العام 1976 فقد انخفض العدد إلى ستة أفلام, منها «صيد الرجال» إنتاج «زنوبيا فيلم», قصة وسيناريو فوزي الدبعي وإخراج بشير صافية وتمثيل حياة قنديل ومحمود جبر وعصمت رشيد ومها الصالح, و«أموت مرتين وأحبك» إنتاج «الغانم للسينما وفايز سلكا», سيناريو إغراء عن رواية عبد العزيز هلال رإخراج وتصوير: جورج لطفي الخوري وتمثيل إغراء وناجي جبر وعمر خورشيد ونجاح حفيظ وعبد اللطيف فتحي, وفي العام الذي تلاه عاد الإنتاج وارتفع إلى أحد عشر فيلما, منها «زواج على الطريقة المحلية» إنتاج سمير عنيني, إخراج مروان عكاوي وتمثيل رفيق سبيعي ووليد توفيق وفاديا خطاب, و«شاطئ الحب» إخراج انطوان ريمي وتمثيل شمس البارودي وحسن يوسف وأسامة خلقي.
ويمكننا القول عموما, إن هذه المرحلة تميزت بغلبة الكم على النوعية, إذ تركز إنتاج القطاع الخاص على ما يعرف بالسينما التجارية, ممثّلة بالأفلام الغنائية والكوميديات الخفيفة وأفلام المغامرات والميلودراما, وقد حاول المنتجون السوريون أن يحاكوا ما أنتجته السينما المصرية في هذا الاتجاه, حتى أن أغلب ما أٌنتج من أفلام كان ينطق باللهجة المصرية لضمان توزيعه ورواجه في الدول العربية, ولهذا السبب أيضا اهتم هذا القطاع بمد جسور العمل المشترك مع نجوم ومخرجين لبنانين ومصريين, وقد لاقت هذه الافلام رواجا عربيا عاد على منتجيها بالربح الذي مكّنهم من استمرار نشاطهم الإنتاجي, وكانت بداية هذا الاتجاه في العام 1964 مع فيلم «عقد اللولو» إخراج يوسف المعلوف وبطولة الفنانة اللبنانية صباح, وفي هذا الفيلم ظهر الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي بالزي الشعبي السوري للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة, وتكرر ظهورهما بمعدل فيلم أو فيلمين في العام, ومن هذه الأفلام «اللص الظريف» إخراج يوسف عيسى بطولة نيللي €العام 1968€ و«زوجتي من الهيبيز» إخراج عاطف سالم وبطولة هويدا €العام 1973€ و«صح النوم» إخراج خلدون المالح €العام 1975€.
ويمكننا القول أيضا, إنه في السنوات الأخيرة من عقد السبعينيات, بدأ القطاع الخاص يهتم بنوعية ما ينتج, فكان أن ظهرت في العام 1977 مجموعة من الأفلام المهمة التي تولتها «شركة الغانم», وأحدثت بظهورها نقلة نوعية على المستويين الفكري والفني في نتاج هذا القطاع, وهي: «لا تقولي وداعا للأمس» قصة وسيناريو وإخراج: محمد شاهين وتمثيل إغراء وأسماء خلقي وعمر خورشيد ونبيلة كرم, و«غابة الذئاب» إخراج محمد شاهين, وهذا الفيلم فضح رجال المقاولات الذين يضحون بكل ما هو إنساني من أجل الحصول على المزيد من المال والأرباح, وقد مثّل هذا الفيلم سوريا في مهرجان «موسكو» الدولي €العام 1977€ ونال قبول الحضور, و«الطريق إلى السلام» إخراج أمين البني, وهو فيلم وثائقي طويل تناول القضية الفلسطينية منذ بداياتها وحتى اتفاقية كامب ديفيد.
العد التنازلي
مع انتهاء العام 1977, تعززت النزعة نحو إنتاج الجيد من الأفلام لدى القطاع الخاص, لكن العد التنازلي في وتائر الإنتاج كان قد بدأ, وما إن انتهى عقد الثمانينيات حتى كاد الإنتاج السينمائي الخاص أن يتوقف, فخلال الأعوام €19771987€ لم يقدم القطاع الخاص غير ستة عشر فيلما, وقد بلغت ذروة الإنتاج السنوي التي حققها في تلك الفترة, أربعة أفلام, قُدمت في العام 1983, بينما أكتفى بفيلم أو فيلمين سنويا في الأعوام الأخرى, مع حدوث انقطاعات طويلة منذ العام 1987. ومن الأفلام المهمة التي أنتجها القطاع الخاص حتى هذا التاريخ «عائد إلى حيفا» إخراج قاسم حول €العام 1981€, وأفلام دريد لحام الأخيرة التي جهدت كي تستثمر الكوميديا لطرح قضايا قومية واجتماعية مهمة, وهي: «امبراطورية غوار» €1982€ إخراج مروان عكاري, و«الحدود» €1983€ انتاج محمد الرواس سيناريو محمد الماغوط, وهذا الفيلم نال الجائزة الخاصة لجمعية نقاد السينما في مصر وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان «فالينسيا», و«التقرير» €1986€ سيناريو محمد الماغوط وإخراج دريد لحام.
توقف إنتاج القطاع الخاص ثلاث سنوات بعدها, ثم أنتج في العام 1990 فيلمين: «الكفرون» لدريد لحام, وهو فيلم روائي طويل للأطفال, و«ثعالب المدينة» إنتاج وليد طرابلسي وإخراج محمد شاهين وقصة وسيناريو وتصوير جورج لطفي الخوري وتمثيل صباح السالم وناجي جبر ومحمد العقاد وليلى جبر.
مرة أخرى, يتوقف هذا القطاع عن الإنتاج لمدة تسع سنوات, ليعود في العام 1999 ويقدم فيلمين, هما: «المرابي» إنتاج وتوزيع الغانم للسينما وإخراج محمد شاهين وسيناريو رفيق أتاسي, عن رواية لمحمد إبراهيم العلي, ومن تمثيل أمانة والي وعصام عبجي ومنيرة عزيز وحسام تحسين بك ونجاح حفيظ ومحمد العقاد, و«الجرة» إنتاج «شركة النجم», وهو أول فيلم رسوم متحركة طويل للأطفال في سوريا.
في العام 2000 أنتجت «شركة الشام» فيلم «الرسالة الأخيرة», إخراج باسل الخطيب وتمثيل أيمن زيدان ونورمان أسعد وطلحت حمدي وسامر المصري وأيمن رضا, وأحداثه تجري في الأربعينيات, في بلدة يرزح أهلها تحت سيطرة الانتداب الفرنسي ونفوذ الأغوات وضغط الفقر, ليعود إليها بعد غياب طويل أحد أبنائها الذي يحلم بتغيير حياة الناس وإحقاق العدالة.
وفي العام 2001 أنتجت «شركة الفرسان» فيلم «قمران وزيتونة» بالاشتراك مع المؤسسة العامة, وهو الحدث الأول من نوعه منذ تأسيس القطاعين, وبعدها, توقف الإنتاج السينمائي الخاص مرة ثالثة حتى العام 2005, حين أنتجت شركة الشام فيلم «العشاق» من إخراج حاتم علي وسيناريو أمل حنا, وهو أول إنتاج سوري خاص يستثمر تقنيات «الديجيتال» لمصلحة السينما, ويدخل مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الرابعة عشرة من مهرجان «دمشق السينمائي الدولي».
إن التجارب القليلة التي حققها القطاع الخاص في السنين العشرين الماضية أثبتت أهليته لإنتاج أفلام مهمة على المستويين الفكري والفني ورائجة على المستوى الجماهيري, حملت الجديد في كل تجربة, وأوجدت حلولاً إنتاجية مبتكرة, لكن الغريب في الأمر أن هذه التجارب لم تتكرر, ولم تسفر عن حراك إنتاجي, حالها في ذلك حال تجارب سينما القطاع العام, وبحيث يظل السؤال عالقا: هل المشكلة في القوانين الناظمة وسوء الإدارة والرقابة والإعلام, أم في عدم الإيمان بجدوى الفن السابع؟
وفي الحالين, فقد آن الآوان كي تجتمع الجهود لحل الأزمة الخانقة التي تعانيها السينما السورية بقطاعاتها كافة
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد