سحر خليفة في «أرض» أنطون سعادة
اقتتالنا على السماء، أفقدنا الأرض»، بهذه العبارة لأنطون سعادة، تستهلّ سحر خليفة روايتها الجديدة «أرض وسماء» (دار الآداب) التي توقّعها مساء اليوم في «قصر الأونيسكو» في بيروت. العبارة ذاتها أوحت للروائية الفلسطينية (1941ـ نابلس) عنوان كتابها، فـ «هذا القول هو محور هذا الزمن الرديء. نحن ما زلنا نعاني لعنة الطائفية. وأنطون سعادة كان من أوائل من نبّهوا إلى خطورة الطائفية. لهذا اخترت الكتابة عنه. نحن أشد ما نكون بحاجة إلى مراجعة فكر سعادة ونضالاته» وفق ما تقول لـ «الأخبار». إذاً، يدور الكتاب في فلك مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي» في انعطافة مهمة للروائية التي كانت مشغولة بواقع النساء في المجتمع الفلسطيني والعربي، قبل أن تقرّر تفنيد أسباب الهزيمة من خلال تقديم تجارب مناضلين فلسطينيين وعرب. هكذا، تعدّ «أرض وسماء» الجزء الثالث والأخير من الثلاثية التي ضمّت أيضاً «أصل وفصل» و«حبي الأول»، فما الذي أرادت إيصاله عبر الشخصيات التي نجدها في الروايات الثلاث، مثل ربيع، أمين، ليزا ونضال؟ إجابتها تمحورت حول فنيّة العمل الروائيّ، فـ «الشخصيات هي عماد الرواية.
لا رواية بدون شخصيات أساسية وثانوية. ولولا وجود الشخصيات التي أشرت اليها، لاعتبرنا «أرض وسماء» سيرة حياتية لشخصية تاريخية، إلّا أن وجودها وتفاعلاتها مع الشخصية الرئيسية، أي سعادة، هما ما نقل العمل من السيرة إلى الرواية. هذه شخصيات مختلقة، غير حقيقية، لكنها فعلت مفعول الكومبارس، أو المختبر والمحك لتأثير أفكار سعادة وأفعاله وتفاعلاته. بعيونها المختلفة، نرى سعادة، كل من وجهة نظره، وبذلك نحصل على منظور بانورامي شبه موضوعي للفكر والفعل والأحداث. باختصار، هذه لعبة أدبية معروفة لم أخترعها، لكني استفدت منها».
صحيح أنّ الرواية ليست سيرة سعادة، لكنّ الأخير استحوذ على مساحتها الأكبر حتى أصبحت أقرب إلى السيرة، فيما كان التركيز في «أصل وفصل» و«حبي الأول» على الشخصيات المتخيّلة، فمرّ الحديث على ثورَتَي عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني ضمن الأحداث التي جرت مع الشخصيات. تقول خليفة: «سعادة هو البطل الرئيس في روايتي. اخترت الكتابة عنه الآن، لأنّ فكره ونضاله هما الأفضل لهذا الوقت. الطائفية تحيط بنا اليوم في كل قطر. انظر الى العراق، وسوريا ومصر ولبنان، وإلى كل بقعة في العالم العربي، ماذا ترى؟ أين هو الربيع العربي؟ لعنة الطائفية أصابته وجعلته خريفاً، بل شتاءً موغلاً في البرد والتصحر. وما لم نقاومها، كما فعل سعادة، فمصيرنا مظلم شديد السواد، وهذا ما حذّر منه سعادة، واستشهد أثناء مقاومته». تصمت قليلاً قبل أن تضيف «في «أرض وسماء»، أردت أن أقول: فلنتعلم من التاريخ وأخطائه. نحن ما زلنا نلف وندور في حلقات مفرغة من حيث هيمنة السياسيين النفعيين العديمي الكفاءة والنزاهة، ومن حيث الانقسام الطائفي، وتراجعنا الاجتماعي وانهياراته، والخضوع لإرادة الغرب وشيوخ العشائر والقبائل. كانت لدينا ثورات عظيمة، وثوّار عظماء جاؤوا بأرقى الأفكار والنظريات والممارسات. لكن الجو المتخلّف، بحكامه الخاضعين لإرادة الأجنبي، والمؤسسات الدينية الموغلة في التخلف والرجعية، وقصور معظم الشرائح الاجتماعية عن اللحاق بركب التحديث والتقدم، هزمتنا كما هزمت سعادة. لو أنّه لم يهزم، بل عاش ليحقق أحلامه بالدولة المدنية الحديثة، فهل كان لبنان كما هو الآن؟ هل كانت سوريا في هذا الدمار والرعب والعبثية؟ هل كنا أضعنا فلسطين؟ هل كنا خسرنا العراق؟ كل هذه الأسئلة تدور في ذهني وأنا أحاول البحث عن أجوبة مدفونة في التاريخ».
قبل إنهاء دردشتنا، سألناها عن المناضل «أمين» الذي يموت في نهاية الرواية. هل أرادت خليفة بذلك إعلان وفاة المؤسسات الحزبية؟ تجيب سريعاً: «أمين الحزبي مات كمناضل لم يتخلّ عن مبادئه. رغم استشهاد سعادة، وتشتت الحزب، إلا أنّ أمين مات وفياً لحزبه. وإن أردت أن تعرف إن كنت أؤمن بأهمية الأحزاب، رغم أني لم أكن حزبية يوماً، فأنا أقول بملء الفم إن الأحزاب ضرورية جداً في هذا الوقت حيث الانفلات والتشرذم ينخران مجتمعاتنا العربية. ماذا رأينا حين انفجر الربيع العربي في محاولة لتعديل المسار؟ رأينا التنظيمات الإسلاموية والسلفية تقطف الثمار في ظلّ تشرذم القوميين واليساريين والليبراليين. وأبرز مثال ما حدث في مصر. لا يمكن أن نفوز في مواجهة الإسلامويين والسلفيين أو الإرادات الأجنبية ونحن مشتّتون ومشرذمون. أما بالنسبة إلى الشباب ودورهم الريادي، فهذا واقع. هم من فجّروا الربيع العربي وأطاحوا الأنظمة العتيقة، لكنّهم أيضاً بحاجة إلى التنظيم. الأحزاب ضرورة وجودية لا سياسية فقط. الشعب بحاجة إلى قيادة تخطط وتبرمج وتوحّد الصف. ومن أين تأتي القيادة؟ من الجيش؟ هذا مرفوض. من المؤسسات الدينية؟ طبعاً مرفوض. تنزل من السماء؟ انتهى عصر المعجزات». في نهاية دردشتنا معها، تقول «يكفيني فخراً أنّي فتحت نافذة أدبية على رجل شبّهه البعض بغيفارا، وشبهه البعض بأرسطو حين قتلوه لأفكاره. قال لنا قبل رحيله، كأنّه يعرف ما حل بنا: إن اقتتالنا على السماء يفقدنا الأرض. بفضل الدين كما فُسر واستُثمر، عدنا قبائل غلّفها الجهل والتناحر».
منير الحايك: الأخبار
إضافة تعليق جديد