الطائفية بين الدوافع والوقائع
الموضوع الطائفي كان دائماً في فكر الإنسان العربي المسلم منذ زمن. فهو موجود في حياتنا السياسية والثقافية. نشعر دائماً بوجود أطراف مختلفة عنا، وهناك من يختلف معنا لأسباب لا نعرفها بالضبط، شخص يعرف اسمك فيتخذ منك موقفاً سلبياً، إنها ظاهرة عامة بين العرب والمسلمين. إذا لم يسعفه الاسم يلحقه بأسئلة: من أين أنت؟ وطن؟ منطقة؟ مدينة؟ وحتى من أي قرية؟ كل ذلك للتعرف إلى هويتك الطائفية أو المذهبية.
إذاً، الأمر ليس مستورداً، بل بعض أسبابه من صنع أيدينا، وجزء من واقعٍ اجتماعي قد لا نعترف به على الصعيدين المذهبي والطائفي.
لكن من الصعب الربط بين ما جرى ويجري الآن، وبين ما جرى سابقاً عبر التاريخ في بلادنا من صراعات حملت عناوين مشابهة لبعض صراعات اليوم بخاصة على الصعيد المذهبي. فالخلاف القائم لا يشكل امتداداً للخلافات السابقة، رغم أنّ هناك من يريد أن يسقط الماضي على الحاضر، ويرى في سُنّة اليوم وشيعته طرفي صراع يعود إلى الماضي. والواقع أني لا أعتبر سُنّة اليوم هم سُنّة التاريخ، ولا شيعة الحاضر هم شيعة الماضي. التاريخ يقول إن هناك مناطق شيعية أصبحت سُنية وبالعكس. تعددت التنقلات والتبدلات، وكانت هناك دول وصراعات وأمراء بالغلبة، والأمير الغالب ينقل شعبه معه، فالناس على دين ملوكهم. والغلبة دخلت في الفقه الإسلامي وأصبحت جزءاً من مقوماته وشرعيته.
وعلينا أن نتعلم التاريخ، لا لنسقطه على حاضرنا، بل كي يساعدنا على فهم هذا الحاضر بصورة أفضل. شهدت أواسط القرن الثامن عشر نوعاً من المهادنة الإجبارية بين الكيانات القائمة في العالم الإسلامي. وربما كانت حروب محمد علي ضد الدولة العثمانية ومعها الخرق الأبرز لتلك المهادنة. هذه المهادنة ترافقت مع عاملين هما في أساس ظاهرة الصراعات الطائفية والمذهبية التي شهدتها بلادنا على مستويات مختلفة:
1ــ أصبح للمسألة المذهبية وقبلها للمسألة الطائفية بعد اجتماعي، فهي عنصر من عناصر الهوية، التي يحملها فرد أو منطقة وأحياناً بلد بكامله. وعرفت كيانات المنطقة نوعاً من الثبات في اللون الطائفي والمذهبي.
2ــ في هذه اللحظة كان هناك عامل جديد يدخل المنطقة، هو النفوذ الغربي الذي بدأ يتدخل في صراعات المنطقة.
منطلقاتها ونتائجها
شهدت بدايات القرن العشرين انتقال المنطقة من واقع إلى آخر. ووقعت بكاملها تحت الاحتلال الغربي المباشر، ورسمت الحدود بين الدول، التي قامت على أسس تحتضن عوامل الصراع داخل كل دولة من هذه الدول، أو بينها وبين دولة أخرى أو أكثر.
وهكذا نجد ثلاثة أقطار عربية (لبنان ومصر والسودان) تتعرض للانقسام الطائفي مسلم _ مسيحي. وشهدت أخرى صراعات عرقية: عربية _ كردية (العراق) وعربية _ أفريقية (موريتانية والصومال) وعربية _ أمازيغية (دول شمال أفريقيا) وثالثة شهدت صراعات قبلية (اليمن والصومال)، فضلاً عن الخلافات الحدودية التي وصلت في أحيان قليلة إلى الحرب العسكرية.
على الصعيد المذهبي يمكن القول إن بلادنا لم تشهد صراعات مذهبية، بعكس ما هو حاصل اليوم، حيث شبح الفتنة المذهبية يتهدد أجزاءً واسعة من ديار العرب والمسلمين وبعض مناطق وجودهم في العالم غير الإسلامي. ولا يلغي هذه الحقيقة بروز حالات مذهبية في هذه أو تلك من الدول وانعكاسها في قوانين ومظاهر وسياسات، ولكنها لم تنتقل إلى حالة من حالات الصراع، الذي يتهددنا اليوم. وأبرز هذه الحالات كانت مع تشكل العراق وانتقال الحكومة فيه في ظل الانتداب البريطاني، إلى النخبة السُّنية بحكم استمرار عناصر الإدارة العثمانية، ما أقصى الأغلبية الشيعية. والأمر نفسه حدث في لبنان في ظل الانتداب الفرنسي، حيث كان الجانب السُّني (مع شراكة درزية) الذي حاز حصة المسلمين في الحكومة الجديدة، وذلك دون دور حقيقي للشيعة، رغم الاعتراف بهم الطائفة الثانية عدداً بعد الموارنة. هذا لم يمنع قيام جبهة مسلمة للمطالبة بحقوق المسلمين حيث كانت السلطة الفعلية بيد المسيحيين الموارنة.
الحالة المذهبية الثالثة شهدتها المملكة العربية السعودية، التي أقامت دولتها في ظل حكم مذهبي، وهي بذلك سابقة على كل الحالات الأخرى. حصلت نتيجة ذلك صراعات وحروب وعزل وتكفير بين المسلمين، ولكنهم ظلوا في مأمن من شيوع الفتن بينهم، واستمر ذلك على امتداد القرن الماضي. لكن أحداث العقدين الأخيرين من ذلك القرن تأثرت عميقاً بالثورة الإسلامية في إيران، هذه الثورة أحدثت زلزالاً كبيراً في كثير من الدول وبين الأحزاب والمفكرين، وعلى صعيد بحثنا نقلت الشيعة إلى واجهة الحدث السياسي دون أن يكون ذلك بالضرورة هدفاً من أهدافها. وهكذا أصبح الشيعة، لأول مرة في التاريخ الحديث، في مقدمة الحالة السياسية (ربما على عكس ما تدعو إليه معظم مدارسهم الفقهية). في الواقع، إن الثورة الإيرانية أحدثت أمرين: وضعت الإسلام في مقدمة التيارات الفكرية والسياسية في المنطقة، بل وفي العالم، ووضعت الإمامية - فقهياً وسياسياً - في مقدمة المذاهب الإسلامية الأخرى، ولذلك كان نسق المواجهة مع هذا الانقلاب الكبير متعدداً.
الأنظمة العربية سعت إلى الاستفادة من المسافة التي أحدثتها الثورة بين إيران والدول الغربية، فوثقت من تحالفاتها مع هذه الدول، وبدأ الحديث عن الخطر الإيراني، وكان غزو الأراضي الإيرانية مقدمة لما عرف بالحرب العراقية - الإيرانية، التي تغذت من الخلافات المذهبية وعملت على أحيائها، لكنها فشلت في إحداث استقطاب شيعي - سني. لكن ذلك لم يمنع بعض الأنظمة من توظيف اللغة المذهبية ضد معارضيها، حتى العلمانيين منهم، فكل حركة اجتماعية (حتى المحتجة على رفع سعر الخبز أو المحروقات) هي حركة شيعية أو وراءها إيران. وبدأ الكلام، وإن على نطاق محدود، على خطر تشييع السُّنة، وبدأت عبارة الخطر الإيراني ترد مع الحديث عن الخطر الإسرائيلي أو تسبقه.
وهناك نسق موقف آخر داخل الحركات الإسلامية والفكرية، فكان هناك تنافس أحياناً وصراع أحياناً أخرى. وكان المد الثوري الشيعي المنبثق من إيران يمتد إلى مساحات واسعة من العالمين العربي والإسلامي وجعل الآخرين يسمعون، ربما لأول مرة، إيجابياً عن الشيعة.
ويمكن الحديث عن ثلاثة تيارات ظهرت بين أتباع المذاهب الإسلامية السنية حول الموقف من الثورة في إيران:
أولاً: تيار يباهي إيران في ثورتها ويريد أن ينجز ثوراته.
ثانياً: تيار يسعى إلى تحجيم ثورة إيران، ويحدّ من تفاعلاتها داخل الحالات السُّنية.
ثالثاً: تيار سعى إلى توظيف العلمانية الفكرية لمواجهة إيران الدينية، وهذا التيار بصفته الفكرية وواقعه المذهبي كان يسعى إلى تحصين نفسه مرتين:
مرة بسُنيته ضد إيران الشيعية، ومرة بعلمانيته ضد الحركات الإسلامية، بشقيها السُّني والشيعي.
هذه الأمور لم تُحدِث حتى ذلك الوقت صراعاً بين الشيعة والسُّنة، بل حدث صراع بين الأنظمة نفسها وبين بعضها وبين شعوبها. وكما تعودنا في السابق، فكل حراك كان يوصف بالشيوعي حتى يسقط الاهتمام الشعبي به. والأمر نفسه تكرر، فأصبحت الشيعية بدلاً من الشيوعية. ولكن حتى ذلك الوقت لم تكن هناك حالة سُنية متأزمة ضد الشيعة، بل كانت هناك حركات متباينة في المواقف. هذا الأمر جرت في ظله أكبر حرب في المنطقة، هي الحرب العراقية _ الإيرانية، وكانت حرباً لا تختلف عن الحروب العالمية الكبرى، انتهت الحرب إلى صراعات أخرى أشد وطأة منها حروب الخليج على العراق، وحصل ما حصل في العراق. وأصبحت الحالة الشيعية هي الشيطان. الحالة الشيعية دفعت الضريبة مرتين في ظل صدام، وفي ظل الحرب الأميركية، ولكن لم يحصل الصراع حتى الآن.
والآن يمكننا أن نعرض لأحداث كانت على صلة مباشرة في نقل الحالة السنية _ الشيعية إلى مستوى جديد يمهد للفتن واحتمالات اندلاع الصدامات المسلحة:
أولاً: اغتيال الحريري في لبنان، مع أنه لم يكن ضد الوضع العراقي الجديد، لكن الخلاف الحريري _ السوري، الذي سبق الاغتيال والذي تبعه من خلاف سعودي _ سوري انعكس صراعاً داخل الأمة وانفك الرباط بين دوائر سعودية وسورية، كان من مصلحتها دائماً ضبط التوترات المذهبية. وتبادلت هذه الدوائر الاتهامات التي لم يغب عنها هذه المرة التحريض المذهبي.
ثانياً: الأمر الذي أظهر «الحاجة الماسة» للسلاح المذهبي (لنقل هذه الحالة المذهبية إلى حالة استنفار شامل تضع جماعات وشعوباً في مواجهة بعضها البعض) تمثل بنتائج المواجهة في صيف 2006 بين حزب الله وإسرائيل ومن راهن معها على ضرب ذلك الحزب، حيث ظهر أن الأمر ليس نزهة وأن حزب الله ليس حالة عابرة وأنه قوة حقيقية، وهذه القوة لن تغلب بالشأن العسكري وقوة السلاح، بل يجب أن تغلب بوسائل أخرى. من أهم هذه الوسائل المفترضة كان تصعيد الصراع الشيعي _ السُّني وجعل حزب الله طرفاً رئيسياً فيه.
هذان الحدثان صحيح أنهما أبرزا حساسية المسألة المذهبية في المنطقة وأهمية اللعب عليها، ولكنهما كانا بحاجة إلى ما يثبت وجود القابلية لإيقاد نار الفتنة. وما ساعد في تحقق بعض عناصر هذه القابلية ما شهده العراق من تطورات وأحداث بعد احتلاله عام 2003، وصولاً إلى إعدام صدام حسين والطريقة التي جرى بها وأثره على المسلم العادي الذي لم يتقبل هذا الأمر وأثاره وجعله يقف موقفاً سلبياً، ليس فقط ضد المسؤولين المباشرين عن ذلك، بل ضد الشيعة بعامة.
واكتملت معظم عناصر القابلية هذه مع الاختلاف الكبير بين أطراف وأحزاب وقوى سياسية سُنية وأخرى شيعية أولاً حول أحداث البحرين (رغم نأي المعارضة هناك بنفسها عن أي سلوك أو قول مذهبي)، وثانياً حول الأزمة السورية التي اكتسحها منذ البداية الخطاب والفعل الطائفيين والمذهبيين.
في الأزمة السورية تقف المنطقة أمام نموذج من الحرب جديد كلياً عليها يتداخل فيها المذهبي والسياسي والاقتصادي من جهة والمناطقي والإقليمي والدولي، وفي ظلها بدأ التجييش المذهبي وإعداد الجيوش السرية والمعلنة. كل ذلك يجتمع ويضع المنطقة على مشارف الحرب الكونية الإسلامية الأولى ولا مخرج لتفاديها إلا أحد أمرين: إما فرض وصاية دولية مجدداً على المنطقة التي تظهر قصوراً متمادياً في إدارة نفسها بنفسها وحل خلافاتها، وإما أن يثبت الإسلاميون أنهم على قدر الآمال التي علقت عليهم، فيعملوا على تصويب مساراتهم قبل أن يهزموا أنفسهم بأنفسهم.
قال بعضنا إن السُّنة والشيعة وجهان لعملة واحدة، ونسي هذا البعض أن وجهي العملة لا يرى أحدهما الآخر، وبالتالي لا يعرف بعضهما بعضاً. المكاشفة والحوار الصريح مقدمة لا بدّ منها، وهذا على الأقل يتطلب التخلي عن سياسة الوجهين واللسانين.
عبد الحسن الأمين
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد