محنة الشعب والحكومة والمعارضة
الجمل ـ بشار بشير: لاشيء عادي أو إعتيادي في الأزمة السورية ابتداءً من توصيفها هل هي أزمة داخلية بين الحكومة والمعارضة أم هي ثورة شعبية على النظام أم حرب أهلية أم حرب إقليمية أم حرب عالمية على سورية. لعل هناك توصيفات أخرى أيضاً و لكل وصف واسم مطلقيه ومريديه ومروجيه ومقتنعين به سواء كانت قناعتهم ذاتية أو مدفوعة الأجر. إذا عدنا إلى ماقبل الأزمة سنجد أن اكثر الشعب السوري – منتقد - وهي حالة ماقبل المعارضة أو هي حالة كل مواطن معارض كلامياً فقط وفي الحقيقة فإن الإنتقاد عادة شعبية سورية وإنتقادات السوريين تطال كل شيء ولا يسلم منها أحد ولعل من النادرين الذين سلموا منها إلى حد كبير الرئيس بشار الأسد . هذا لا يعني أن السوريين ما كانوا يحلمون بوجود معارضة منظمة وفاعلة إن لم يكن لضرورة وجود معارضة بإعتبارها جزء من الجو السياسي فعلى الأقل على سبيل التغيير والتنويع بعد الأعتياد لحوالي نصف قرن على الحزب الواحد.
بعد مخاض طويل ومسترخي ومائع ولدت فجأة معارضة سورية ولكن للغرابة لم يفرح أغلبية السوريين بهذه الولادة، و قلة من أرسلوا الورود والتبريكات.. فهذه الولادة كانت على غير مايأمل السوريين فالمولود بدأ بالصراخ بلكنة لم يستسيغوها، هم كانوا يريدون أو يتوقعون معارضة تصرخ من دمشق أو على الأقل من حلب واستغربوا أن تصرخ المعارضة من درعا وأن يكون أول ما صرخت به هو تمجيد لمناقب العشائر النشامة وأن يكون بداية مطالبها هو حل مشاكل الأراضي الحدودية وحفر الآبار (أريد هنا أن أذكِّر بأن الكثيرين عرفوا أن قصة قلع أظافر الأطفال هي مجرد بروباغندا إعلامية للتجييش، وقد أثبتت الأيام بعد ذلك هذا) لم يكفِ السوريين أن المعارضة المنتظرة قد ولدت في المكان الخطأ بالنسبة لهم حتى فوجئوا بتحول المعارضة إلى ممارسة العنف والتخريب وهذا أتى في الوقت الخطأ تماماً فالمزاج العام في سورية كان قد بدأ يسترخي لأول مرة منذ عقود على وقع بحبوحة اقتصادية و أمنية وكان آخر ما يمكن أن يقبله هو "ثورة" بالوقت الخطأ كان لا يمانع بل وينتظر ظهور معارضة مدنية حزبية سلمية أما ثورة ريفية فكان من الصعب قبولها وتأييدها في المدن وحتى في بعض الأرياف (باستثناء مدينة درعا لم تنخرط ولا مدينة سورية من الثلاثة عشر مدينة الكبرى في التظاهرات وفيما بعد بالحراك المسلح) وسرعان ما ازداد التمايز أو الابتعاد بين الكتلة الأكبر من السوريين وبين الحراك الذي أصبح حركة مسلحة تقاتل الجميع: الشعب والحكومة بعشوائية،إعتماداً على عقائد دينية مستوردة لم يستسغها السوريون سابقاً وأخافتهم لاحقاً عندما شاهدوا أفعالها في دول الربيع العربي ومن ثم على أرضهم .
ماحصل في سورية وبدأ على شكل مظاهرات شعبية وتحول سريعاً إلى عصيان فإشتباكات مسلحة فحركة تكفيرية وكل ذلك تحت اسم معارضة النظام الذي لم يستقر خصومه على وصف له، فهو تارة ظالم ومرة سفاح وأحياناً كافر وحتى عميل، هو تخبط وعشوائية وجهل يشكلون جزءا أساسيا في بنية المعارضة وأفكار مشغليها..
وهكذا نتيجة العشوائية والجهل وجدت المعارضة السورية ووجد الخارج الذي يُشَغلها بأن الأمور تسير بالمقلوب جموع تتظاهر و تشتبك بالسلاح مع النظام دون أن يكون لها مطلب موحد أو إيديولوجيا محركة أو مرجعية زعامية (لا أقول قيادة لأنه كان هناك من يقود ويحرك) أومرجعية سياسية . وسارع الجميع من الداخل والخارج لتصحيح الأمور وبدأت محاولات خلق زعامة للثورة والنتيجة كانت فشل كامل جرب الداخل والخارج كل المتوفر من الشخصيات فلم يحصد سوى نتيجة واحدة سقف الشعب أصبح أعلى من سقف النظام في قبول المعارضة وهذه سابقة تاريخية تسجل لسورية أن يكون أسهل على الشعب إحتمال حرب حقيقية وحشية من أن يحتمل المعارضة المطروحة أمامه، بينما النظام ولأن من واجبه تهدئة الأمور والتحول من الأشتباك المسلح إلى الأشتباك السياسي أضطر إلى التصرف ببراغماتية والقبول (إلى حد ما) ببعض المطروح من المعارضة . لشرح ما سبق أقول أن المعروض للسوريين الآن هو إما:
- زعماء تشكيلات مسلحة ذاق السوريون منهم الأمرين وتأكدوا أن أحداً منهم لا يشبه لا تشي غيفارا ولا ديغول .
- زعماء مجالس خارجية للمعارضة ينتمون لقطر والسعودية أكثر مما ينتمون لسورية .
- معارضين داخليين لا يتقنون إلا الإنتهازية يشجعون جرائم المسلحين وخيانات المعارضين الخارجيين لأنها تظهرهم كالخيار الأفضل.
هذه محنة سورية والحكومة االسورية والسوريين... فسورية أابتليت بهكذا معارضة، والحكومة مضطرة لتعويم جزء من هذه المعارضة.. والسوريون وجدوا أن تحمل الحرب أسهل من إحتمال هذه المعارضة بمجالسها و ائتلافاتها و تنسيقياتها وألويتها وكتائبها .
هل الأمور بهذا السوء ؟ لا أظن، فهناك من يعول عليه : رئيس الجمهورية الذي بكل إخلاص وأمانة يستخدم التفويض العام الذي منحه إياه السوريون لصالح سورية لا لصالح زعامته . والجيش العربي السوري المكتفي بالقيام بمهامه العسكرية بنجاعة دون أن يتدخل إطلاقاً بالسياسة كما اعتادت سورية لعقود، وهكذا فليس على سورية سوى أن تتحمل قليلاً بعد ريثما ينهي الطرفان السابقان مهمتهما، أي تفكيك الأزمة وتفكيك المجموعات المسلحة ليقدمان بيئة جديدة ومناسبة تمكن السوريين من تشكيل مناخهم السياسي كاملاً بما فيه معارضة حقيقية ووطنية .
قريباً سيكون على السوريين تحمل مسؤولياتهم فالتاريخ يقول أن كل أزمة كبرى تؤدي لإنعطافات مصيرية، فإما أن يكون الشعب الذي تعرض للأزمة شعب حي يحمل داخله بذرة الحضارة ويستطيع تنميتها فينعطف بعد الأزمة إلى الإزدهار (كما حصل لإيران بعد الحرب مع العراق وكما حصل لليابان بعد الحرب العالمية الثانية) وإما أن يكون مستنكفاً عن العمل بإخلاص وغير قادر على الانفتاح الفكري ليستقر في قاع الأزمة وقاع الحضارة، هذا إن استقر على الإطلاق.
الجمل
إضافة تعليق جديد