سعاد جروس تكتب عن خريجي الاتحاد السوفياتي الراحل
الجمل ـ سعاد جروس : «الله يطعمكم الحج والناس راجعة», قالها أبو عبده قبل أن يطوي الجريدة ويرميها جانباً. أما الخبر الذي قرأه, فكان عن انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول لرابطة خريجي الجامعات والمؤسسات التعليمية السوفياتية والروسية فرع اللاذقية, تحت شعار €لنعمل معاً من أجل تعزيز علاقات التعاون مع الدول والشعوب الصديقة الداعمة لقضايانا في البناء والتطوير€. طبعاً الخبر لم يهمل أسماء الحضور الرسميين, مع لمحة لماحة عن فحوى كلمات الافتتاح التي تناسب كل خبر رسمي من دون تمييز. ولم يرد في الخبر تفاصيل أخرى.
وكما أصابت الدهشة أبو عبدو, أصابتنا مثله, وكررنا قوله مع بعض النقصان والزيادة: «يطعمكم الحج بعد أن رجعت الناس وشبعت رجعة». من المعاينة الأولية للخبر, يتضح احتمالان إما أن يكون من صاغ الخبر لا يعلم بعد برحيل الاتحاد السوفياتي طيّب ثراه, أو أن رابطة الخريجين هي التي لم تعلم. وفي الحالين لا بد لهم من استدراك ما فاتهم وتحري التغييرات الهائلة والفراغ الكبير الذي خلفه رحيل الصديق السوفياتي العزيز.
أيضاً, نحن نفهم أن تهدف الرابطة لتعزيز العلاقة مع روسيا, لكن كيف السبيل لتعزيزها مع الدول السوفياتية المتبخرة! بعدما انفرط عقدها وسقطت صريعة الهوى الأميركي!! الأفضل تسميتها رابطة الأحلام البائدة, لاستذكار واستحضار أيام العز الاشتراكي, حين كان بإمكان خريج الاتحاد السوفياتي التفاخر بشهادته المعمدة بعرق الفقراء, على خريج أميركا والجامعات الغربية الامبريالية المتوحشة. وقد لا يقتصر الأمر على التفاخر لا بل قد يتطور, لدى النفوس المرتابة, إلى درجة كتابة تقرير أمني يخرب البيوت العامرة بتهمة معاداة الاشتراكية, كما جرى مع طبيبين جارين أحدهما خريج موسكو والآخر خريج لندن. ولهذين قصة تستحق أن تروى لما فيها من عبرة وعظة؛ طبيب لندن €أي المتخرج من لندن€ ذهب والده إلى الحج بعد أن نجا من محنة خطيرة, بعدها تمنى على ولده معالجة الفقراء مجاناً, فانصاع الابن الطبيب, وطبب الفقراء ببلاش؛ وبالنسبة إلى باقي أفراد الشعب الكادح وغير الكادح وضع لهم تسعيرة معقولة, اعتقاداً منه أنه إذا فعل الخير لا بد من أن يكرمه الله, وفعلاً أكرمه, وتكاثر عليه المرضى حتى تحولت عيادته محجاً للفقراء والأغنياء معاً. أما الثاني طبيب موسكو فشاء له طموحه أن لا يكون مؤمناً سوى بالقرش ففرض تسعيرة كشفية عالية, من دون مراعاة لعليل محتاج أو غير محتاج. فلم يؤم عيادته سوى أمثاله من المؤمنين بالطب الشيوعي, وكان ذلك من باب الحياء, لا من باب العلم. وبما أن العيادتين الحيط إلى الحيط, بدا فرق الإقبال عليهما هائلاً, وبدل أن يفكر طبيب موسكو بنقل عيادته إلى مكان آخر, اعتقد أنها حرب رأسمالية ضد الاشتراكية, فدبج تقرير «أخو أخته» اتهم فيه زميله بالترويج لأفكار معادية للخط الأممي, والدليل شهادته اللندنية!! وزعم بأنه يغري الفقراء بالعلاج المجاني, بينما يحقنهم بالمصل الإمبريالي. فشُحط طبيب لندن الى التحقيق وهات سين وجيم, ولولا سمعته الطيبة ومكانته الاجتماعية المرموقة التي حققها بفعل الخير, وشهادة بعض أولي الأمر المتنفذين لصالحه, لم تنته تداعيات التقرير الكيدي بأسبوع. واعتبر التقرير ليس أكثر من عداوة كار.
حدث هذا قبل عقدين ونيف أيام كانت الاشتراكية تسرح وتمرح في المدارس والجامعات, وتتجلى تطبيقاتها بالطوابير أمام المؤسسات. الآن ونحن نقف على أطلالها مع اقتصاد السوق المفتوح, ما الجدوى من رابطة تستذكر أيام السوفيات, سوى نكء الجروح والقروح؟ والأهم أنها تذكرنا بأننا أسأنا إلى الاشتراكية, وبهدلناها على أرضنا ونحن بأمسّ الحاجة إليها. فأصلح الله المؤتمر التأسيسي, إلا إذا كان الخريجون يريدون الاعتذار عن تقصيرهم في تحقيق أفكار كان يجب أن تعطي ثمارها. أما إذا كان الهدف التفاخر بما أنجزوه, فمن الأنسب تسميتها «رابطة النصر» لأن لدينا أكثر من 20 ألف خريج من الاتحاد السوفياتي الراحل, كان لغالبيتهم كي لا نتهم بالتعميم أياد بيضاء في إيصال واقع التعليم الجامعي الى ما وصل إليه, لأن أصدقاءنا السوفيات جزاهم خيراً على أفعالهم, لم يقصروا مع طلابنا ومنحوهم شهادات دكتوراه على «أبو جنب», فأصحاب المبادئ الاشتراكية التي تقوم على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص, عاملوا طلابنا سواسية كأسنان المشط المتفوق والفاشل, فجلبوا شهاداتهم من هناك, بينما واسطاتهم تسبقهم لتفصيل مناصب على مقاسهم في الجامعات, ولنحصد ما حصدنا من ازدهار نحسد عليه, بحيث لا يمكن لنا التنكر لفضلهم على مشروع الإصلاح, فلولا صنائعهم لما احتجنا اليوم لإصلاح ما أفسده خراب التعليم, إن لم نقل خراب الذمم ايضاً. فشكراً للأصدقاء السوفيات على أطنان شهادات «الدال» التي منحت بالجملة والمفرق, وبعضها بأثمان أقل من سعر التكلفة, لا تتجاوز حجم حقائب سفر مليئة بكلسات نسائية وملابس داخلية برلون وقطنية وسجاير حمرا تشجيعاً للصناعات الوطنية, والعودة بشهادة قد الحيط تزين صدر المكتب والبيت, مع كتب كارل ماركس ولينين ودمى روسية للذكرى... الله يرحم تلك الأيام.
ولكي لا نندم, نحن بحاجة ليس إلى رابطة يعمل أعضاؤها على إنعاش الصداقة والتذكير بأفضالها, وإنما الى محمية لخريجي الاتحاد السوفياتي, قبل أن ينقرضوا ونترحم على أيام تعليم «أخو البلاش» وتوفير فرص التعليم للجميع, تلبية لحاجة سوق البطالة الى العاطلين من العمل. ومع هذا ربما ترحمنا على ما مضى, لأن الآتي غير مضمونة نتائجه مع اقتصاد السوق المفتوح. وها هي طلائعه, أولها اتساع الشرخ الطبقي وما سوف يخلفه من حرمان التعليم, مع التبشير بأنه لن يحرمنا حياة أكثر سوءاً.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
التعليقات
سأغني مقالة
ان قراءة المقال
اعجبتني جرأة
إضافة تعليق جديد