إستراتيجية البغدادي لمواجهة حرب أوباما
ليست هذه المواجهة العسكرية الأولى التي تجري بين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش» من جهة وبين الولايات المتحدة من جهة ثانية، فالطرفان اختبرا احدهما الآخر جيداً على مدى سنوات فوق أرض العراق.
ولا شك أن كلاً منهما سيعتمد، بشكل أو بآخر، على نتائج الاختبارات التي خاضها منذ العام 2003 إلى العام 2011 في تحديد إستراتيجيته التي سيختارها لخوض المواجهة الحالية في سوريا. وبينما سمع العالم كله ما هي الإستراتيجية التي تبناها الرئيس الأميركي باراك أوباما، يبقى السؤال عن إستراتيجية زعيم «داعش» أبي بكر البغدادي.
تشير أوساط «الدولة الإسلامية» إلى أن البغدادي يعتبر نفسه أمام تحدٍّ مصيري كبير، لكنه لا يرقى إلى مستوى «حرب موت أو حياة»، إذ لدى قيادة «داعش» ثقة غير محدودة بأن نتيجة هذه الحرب لن تكون أسوأ من نتائج الحروب السابقة التي عجز فيها الأميركي عن إتمام مهمته المعلنة بـ«القضاء على الإرهاب»، وبالتالي لا يتملكها أي قلق حول مصير «دولتها ووجودها». على العكس، تعتبر قيادة التنظيم المتشدد أنها استطاعت رفع سقف «الجهاد» عالمياً، عبر إعلانها «الخلافة الإسلامية» أول شهر رمضان الماضي، وأن أي تجربة «جهادية» جديدة لن تقبل بسقف أدنى منه بعد الآن.
وتوصيف المواجهة بأنها «تحد مصيري» لم يمنع البغدادي من إعطاء إشارات واضحة إلى أنه راغب في استعجال هذه المواجهة، التي سبق له توقع حدوثها في خطابه «الله يعلم وأنتم لا تعلمون»، وتبدى ذلك جلياً من خلال إقدامه على ذبح الرهائن الغربيين حتى قبل أن يحسم أوباما موضوع إستراتيجيته.
وبغض النظر عن كون توقع البغدادي مبني على معطيات واقعية، أم مجرد خطاب دعائي لتحفيز مقاتليه، إلا أنه من المعروف أن أدبيات «داعش» تبرز بشكل واضح مصطلح «الاستدراج»، الذي يعني استفزاز الخصم لإجباره على إرسال قواته، ما دام أن «داعش» لا يمكنه إرسال مقاتليه إلى الأراضي الأميركية لمواجهتها هناك، وهذه الآلية اعتمدها وآمن بها زعيم تنظيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن. لذلك لا يلتفت «داعش» كثيراً إلى انتقادات خصومه «الجهاديين»، الذين اتهموه مؤخراً، وعلى رأسهم زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني، بأنه يتحمل نتيجة تصرفاته مسؤولية تشكيل التحالف الدولي لاستهداف الإسلام و«الجهاد» في الشام والعراق.
وإذا كان الرئيس الأميركي يكرر يومياً أنه لن يرسل قوات برية إلى العراق أو سوريا، الأمر الذي فهمه «داعش» على أنه محاولة للتملص من مصيدة الاستدراج الذي أعدها له، إلا أن المتحدث الرسمي باسم التنظيم أبو محمد العدناني بدا واثقاً، في خطابه «إن ربك لبالمرصاد» قبل حوالي أسبوعين، أن واشنطن سترسل قوات برية وأن «مجاهديه» سيكونون بانتظارها.
ولا شك أن بدء بعض المسؤولين الأميركيين بالحديث عن إمكانية إرسال قوات برية، سواء أميركية أم عربية، بعدما تبين لهم عدم كفاية القصف الجوي، يشير بشكل أو بآخر إلى أن قيادة «الدولة الإسلامية» تقرأ في كتاب مفتوح، وهو ما يفسره البعض على أنه استفادة من خبرات الماضي، بينما ينظر إليه البعض الآخر بريبة، ويعتبره من قبيل المؤامرة.
والحال كذلك، فإن البغدادي يميز بين مرحلتين: الأولى هي الحالية التي تتمثل بالقصف الجوي، ويعتبر أن الهدف منها ينبغي أن يكون تقليل الخسائر قدر الإمكان، لا سيما بالآليات والمدفعية والدبابات، رغم أنه لم يدفع ثمن واحدة منها، وذلك نظراً لأهميتها في المرحلة الثانية. لكنه خلال مرحلة القصف لن يستطيع الاكتفاء بالاختباء وتحصين مقاتليه وأسلحته، لأن هناك مهمة عليه استكمالها، وهي الاستمرار في استفزاز خصمه لدفعه إلى إنزال قواته البرية، أياً كانت جنسيتها، على أرض المعركة، حيث تبدأ المرحلة الثانية.
وقد يكون إصرار «داعش» على اقتحام مدينة عين العرب في الشمال السوري إحدى خطوات الاستفزاز، لا سيما أن «الدولة الإسلامية» يدرك جيداً أن واشنطن لم تحسم أمرها ببدء القصف الجوي ضده إلا عندما اقترب مقاتلوه من محيط مدينة أربيل الكردية في العراق، كما أنه يعلم جيداً أن أنقرة تعتبر اقترابه من حدودها خطاً أحمر، لن تتردد بالرد عليه بكل الوسائل، بما فيها العسكرية. وقد سبق للجيش التركي أن قصف أرتال «داعش» في السابق لمجرد سلوكها طريقاً يؤدي إلى مناطق محاذية لحدودها، كما حصل في الراعي شمال حلب قبل أشهر عدة، فكيف إذا سيطر على مدينة كاملة مثل عين العرب؟
ومرةً أخرى تقرأ قيادة «داعش» من كتاب مفتوح، وكأنها كانت تعلم بمخطط أنقرة بإقامة «منطقة عازلة». وبغض النظر عن كون الأمر يتعلق بخبرة أو مؤامرة، فمما لا شك فيه أن تعقيدات الموقف تجعله مفتوحاً على كل الاحتمالات، وتجعل من الصعب فك طلاسمه بالاعتماد فقط على ظاهر الأمور أو انطلاقاً من مواقف مسبقة.
وانسياقاً وراء أدبيات «الدولة الإسلامية»، ورغم غرابة أن يبذل تنظيم ما كل هذه المساعي لحشد الجيوش ضده، ودفعهم إلى قتاله جواً وبراً، فإن الأمر يبدو طبيعياً، ولا ينطوي على أي درجة من الغرابة؛ أولاً لأن «داعش»، أو غيره من التنظيمات «الجهادية»، لا يستطيع العيش إلا في مناخ الفوضى، والاستقرار عدوه الذي يمكن أن يتواجد معه في مكان واحد، لذلك تعمل هذه التنظيمات على افتعال الفوضى واستدامتها مهما بلغت خسائرها في سبيل ذلك، لأن البديل الوحيد لذلك هو أن تخسر وجودها ذاته في حال توقفت الفوضى.
وثانياً لأن «داعش»، في منافسته على قيادة «الجهاد» العالمي، يدرك أنه لن يكون بمقدوره التقدم، طالما أنه متقوقع في المنطقة بمنازلة «العدو القريب»، وبما أنه لا يملك أدوات إرسال مقاتليه إلى «العدو البعيد» لمحاربته، فإنه يفضل أن يستدرجه إلى أرضه، ليجتمع له قتال العدوين مع بعضهما، وهذا يكسبه شرعية إضافية في أوساط «الجهاديين»، أي مزيداً من التمويل والمتطوعين للقتال، ما يعني بشكل أو بآخر سحب البساط من تحت أقدام منافسيه، وعلى رأسهم زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري.
ويبدو أن واشنطن هذه المرة تقرأ من كتاب مفتوح، إذ في الوقت الذي تتحضر فيه للانسحاب من أفغانستان، حيث معقل الظواهري، فإنها تعد العدة لاقتحام «أرض الخلافة» معقل البغدادي.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد