«ويكيليكس»: تقرير سرّي للاستخبارات الأميركية.. اسرائيل الاكثر فشلا في اضعاف خصومها
بالتعاون مع «ويكيليكس»، ننشر تقريراً سرياً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بعنوان «جعل عمليات الاستهداف العالية القيمة أداةً فعالة في مكافحة التمرّد». التقرير جزء من سلسلة منشورات سرية تفصّل كيفية التعامل مع حركات التمرّد التي يواجهها الجيش الأميركي، والحكومات الحليفة لواشنطن، في مختلف أرجاء العالم. الدراسة التي أفرجت منظمة «ويكيليكس» عنها اليوم تختص بمسألة «التخلّص» من «الأهداف العالية القيمة»، أي قادة الحركات السياسية والعسكرية، الذين يمكن لاغتيالهم أن يؤثّر جدياً في مسار حركات التمرّد المعادية للمصالح الأميركية.
في التسريب الجديد لمنظمة «ويكيليكس» أُفرج عن دراسة سريّة أعدّها باحثو وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، تعنى بتحويل ما تسمّيه «عمليات الاستهداف العالية القيمة» الى أداة فعالة في مكافحة التمرّد. التعابير التقنية واللغة البحثية تخفيان وراءهما حروباً عنيفة وأساليب اجرامية، وتنظيراً للقتل والاغتيال. «مكافحة التمرّد» هو الموضوع العسكري الذي استقطب القسم الأكبر من اهتمام العقول والمخططين في المؤسسة العسكرية الأميركية، منذ حربي أفغانستان والعراق، وهو يعنى بكيفية تثبيت الاحتلال الأميركي في البلدان التي يغزوها، وهزيمة وتجفيف منابع «التمرّد» فيها (أي التمرد ضدّ الاحتلال والحكومات التي تتبع له – والتقرير جزء من سلسلة دراسات للوكالة تحت عنوان «الممارسات المثلى في مكافحة التمرّد»، يبدو انّها تهتم بمختلف جوانب الحرب ضد «المجتمعات العدوة»).
امّا «عمليات الاستهداف العالية القيمة»، فهي – فعلياً – تعبيرٌ أكاديمي ملطّف للـ«اغتيال» وللتخلّص من قادة الحركات العسكرية والشعبية التي تتمرّد على الاحتلالات الأميركية، أو تثور على حكم حلفائها. وأساليب هذه العمليات تتضمّن نظرياً، الى جانب الاغتيال، «وسائل غير مميتة» بحسب الدراسة، كالاعتقال والخطف، أو حتى الاغراء وعقد الصفقات بغية شقّ صفوف المتمرّدين؛ ولكنّ أغلب الأمثلة التي استعرضها الباحثون، من ايرلندا الشمالية الى العراق، كانت جردة لعمليات قتل واغتيال لقادة ميليشات وحركات وطنية.
«الأهداف العالية القيمة»، بحسب تعريف وكالة الاستخبارات، هي «أفراد وشبكات تؤدي ازالتهم أو تهميشهم الى اضعاف فعالية المجموعة المتمردة بشكلٍ غير متناسب (مع عددهم)». على طول الدراسة، ما من تفريق بين القادة العسكريين والسياسيين والمدنيين. و«الأهداف» التي استعملها التقرير كأمثلة تضع قادة مقاتلي الطالبان وابو مصعب الزرقاوي في فئة الاستهداف نفسها مع الناطق باسم «جيش تحرير التاميل»، أو القائد السياسي (المعتدل) أحمد بن بلا، أو حتى مع أدباء واعلاميين في الحركة الوطنية الفلسطينية كالشهيد كمال ناصر وغيره.
المعيار الوحيد هو «فعالية» الضربة وتأثيراتها المتشعبة على عملية اخماد التمرّد ككلّ، فالهدف من الكتيّب هو تزويد الجيش الأميركي واستخباراته بآلية «علمية» لاتخاذ القرار في عمليات «الازالة» هذه، لضمان أن تتمتع الاغتيالات بالفعالية القصوى، وألا تولّد آثاراً عكسية.
علم القتل
يتناول الكتيّب مسألة «التخلّص» من قادة الحركات المعادية وكوادرها كأي استشارة أخرى في مجال رسم السياسات وصنع القرار، ويُعطى للاغتيال والعنف اختصارات محايدة (HVT وغيرها)، تسمح بـ«عقلنة» القتل ودراسته كأي مبحثٍ أكاديمي بارد. استعمل باحثو وكالة الاستخبارات المركزية منهجية مقارنة، وعرضوا مختلف حملات «مكافحة التمرد» التي تضمنت «عمليات استهداف عالية القيمة» خلال العقود الماضية، ليستخلصوا الطريقة الـ«أفضل» لاستهداف قادة المنظمات المحلية خلال الحرب.
تستنتج الدراسة أن بعض العمليات كان أثرها بالغاً على حركات التمرد المستهدفة، كما جرى لدى اعتقال رؤوس وقيادة منظمة «الطريق المضيء» في البيرو، فانكسرت حركة التمرّد على نحو فوري، ولكن حملات الاستهداف، على الرغم من ضحاياها الكثر، لم تساهم في كثير من الحالات في ضرب حركات التمرّد، بل زادتها تصلباً ورفعت منسوب التعاطف الشعبي معها. تورد الدراسة مثال الاغتيالات الاسرائيلية بين عامي 2000 و2002 ضد قيادات «حماس» وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية، التي قوّت اللحمة بين المنظمات الارهابية وعزّزت الدعم الشعبي للقادة المتشددين، على حد تعبير محللي الـ«سي اي اي».
عبر هذه المقارنات، يعزل التقرير مجموعة عوامل يرى انها المحددات الرئيسية في تصفية الخصوم «ذوي القيمة العالية»، وهي تراوح بين عوامل تتعلق بالمنظمات نفسها (كالبنية ودرجة المركزية وتوافر «ملجأ آمن») وأخرى بسياسة الحكومة (درجة اختراق المنظمات المعادية، فعالية باقي وسائل مكافحة االتمرد، الخ). على «مكافحي التمرّد» اذاً – سواء كانوا جنوداً اميركيين في حملة خارجية، أو «خبراء» يعينون نظاماً حليفاً ضدّ الثائرين عليه – أخذ كل هذه العوامل في الحسبان. ويقدّم التقرير ايضاً مجموعة خلاصات، هي الـ«ارشادات» الرئيسية في حروب الاغتيال والتصفية، وأهمها أن تكون الاستهدافات جزءاً مكمّلاً لاستراتيجية أوسع في مكافحة التمرّد، تتضمن مختلف وسائل العنف والتأديب، وأن تكون الأجهزة الاميركية على دراية كبيرة ببواطن المنظمات العدوة، وطريقة عمل قياداتها وعملية انتقال السلطة فيها.
الإسرائيليون هم الأكثر فشلاً
من اللافت في الدراسة أنّ اداء الاستخبارات الاسرائيلية وعملياتها الخارجية، اللذين يحظيان بالدعاية والتبجيل في الاعلام الاميركي وكلام السياسيين، وحتى في سينما هوليوود، كانا في ذيل القائمة عندما قوّم التقرير السرّي مجموعة من حملات «الاستهداف» حول العالم. النموذج الأنجح، بالنسبة إلى تقرير الوكالة، كان النموذج الاميركي الجنوبي، في البيرو وكولومبيا، حيث تمكّنت حملة اغتيالات كبرى تصاعدت منذ عام 2007، بدعم وتسليح اميركيين بالطبع، من اضعاف منظمة «فارك» المتمرّدة على نحو كبير (بالفعل، أعلنت الـ«فارك» هذا الأسبوع وقف اطلاق نار من طرف واحد مع الحكومة الكولومبية وتعليق القتال).
في المقابل، كانت الاغتيالات الاسرائيلية، في كلّ مراحلها، فاشلة بالإجمال، أو ولّدت نتائج عكسية أضرّت بأمن الكيان الصهيوني؛ أكانت ضد الحركات الفلسطينية العلمانية في السبعينيات - كفتح والجبهة الشعبية وغيرها - أم ضدّ حماس وحزب الله في التسعينيات. برامج الاغتيالات الاسرائيلية لم تكن ناجحة بحسب معظم معايير الدراسة؛ والمؤلفون يشيرون مثلاً الى أن منظمة كـ«فتح» في السبعينيات، تملك بنية قيادة بالغة المركزية وتعتمد الى حد كبير على شخصيات القادة، كان بالإمكان اضعافها عبر اغتيالات مصممة بذكاء، غير أنّ الكثير من عمليات الـ«موساد» الخارجية ضدها كان فاشلاً، ومعظمها استهدف كوادر غير ذوي شأن أو لا علاقة لهم بالصراع العسكري، وبعضها نال من ابرياء أجانب، وسبب لاسرائيل حرجاً ومشاكل – هكذا يقول تقرير الاستخبارات المركزية الأميركية.
«حماية المعتدلين»
الكشف الأخير لـ«ويكيليكس» لا يظهر فقط الطريقة الباردة التي تنظر بها أجهزة القوة العظمى الى موضوع اعدام الخصوم، عبر الغارات والعمليات الخاصة، وتحويل الاغتيال الى «علم عسكري»، بل هو يفيد ايضاً في فهم الكثير من سياسات الولايات المتحدة وحلفائها حول العالم. على سبيل المثال، برغم أن التقرير يستنتج أن أكثر حملات الاغتيال لم تأت بالمردود المرجو منها، فإنّ محللي وكالة الاستخبارات لا يوصون بالتخلي عنها أو التقليل منها أو اعادة النظر فيها، بل ينصبّ همّهم على جعلها أكثر «ذكاءً» وفاعلية. في الوقت نفسه، يشدّد التقرير في توصياته على ضرورة توجيه عمليات الاستهداف ضد أكثر القادة تشدّداً وعنفاً وفي الوقت نفسه، على حماية المعتدلين ... ما يزيد الاحتمالية لعقد تسوية سياسية. وهي سياسة قد تفسّر – من زاوية «تآمرية» - التشكيلة التي انتهت اليها الهياكل القيادية في العديد من دول منطقتنا، من مصر الى فلسطين الى العراق وغيرها.
عامر محسن
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد