وجه «داعش» الجديد: مراجعات عميقة لمرحلة ما بعد «الخلافة»!
مهما كان حجمُ الهزائم التي تَلحَقُ بتنظيم «داعش»، وحتى لو خسر جميع الأراضي التي يُسيطر عليها في كل البلدان التي ينتشر فيها حالياً، فمن غير المتوقع أن نسمع منه قراراً بإلغاء «دولة الخلافة». غير أن معطيات كثيرة بدأت تتوافر من شأنها أن تشير إلى أن كواليس التنظيم القيادية منهمكة بشكل جادٍّ في إجراء بعض المراجعات العميقة، ليس على البنية التنظيمية فحسب، بل حتى على العقيدة العسكرية والأمنية، وكذلك على بعض جوانب العقيدة الدينية. وتجري كافة هذه المراجعات على وقع التطورات الميدانية التي تنحسر فيها سيطرة التنظيم بوتيرة متسارعة نسبياً، لا سيما خلال الأشهر الماضية، بفعل الحرب المفتوحة ضده منذ حوالي سنتين.
ولم تتخذ الحرب ضد التنظيم مساراً ثابتاً من حيث التقدم، بل هي أقرب إلى حالة المدّ والجزر. ولدى التنظيم تجربةٌ غنية من ماضيه القريب تُسعفه في تبرير هزائمه وترك المعنويات عالية بخصوص إمكان عودته أقوى. إذ بعد «حرب الصحوات» ضده في العراق بين عامي 2007 – 2009 واضطراره إلى الانسحاب من كافة المدن التي سيطر عليها قبل ذلك، استطاع التنظيم بعد سنتين من تلك الهزيمة أن يخرج من مخابئه الصحراوية التي لجأ إليها من دون أن يلغي مسمى «دولة العراق الاسلامية»، رغم أنه لم يعد يسيطر على أي مدينة أو بلدة.
ونفض التنظيم الغبار عن نفسه مخترقاً الأزمة السورية من الباب العريض الذي فُتِح فيها تحت مسمى «الجهاد»، ليتدرج في الصعود ومراكمة القوة وتوسيع مناطق السيطرة وصولاً إلى لحظة «كسر الحدود» وإعلان «دولة الخلافة» في التاسع والعشرين من حزيران من العام 2014، والتي تشكل ذروة توسع هذا التنظيم وتنامي قوته.
ويستند التنظيم إلى هذه التجربة لرسم صورة مغايرة لما يجري تداوله إعلامياً حول هزيمته وقرب ساعة الصفر للقضاء عليه. فهو يعمل على تعزيز قناعة لدى مقاتليه وأنصاره مفادها أن الانحسار الجغرافي ليس هزيمة، وكما أنه عاد أقوى مما كان عليه قبل حرب الصحوات ضده، فإنه قادر على العودة مرة جديدة في حال تعرض للهزيمة ثانيةً.
وعلاوةً على ما سبق، يُمثل التنظيم، باعتباره أحد تجليات تيار «السلفية الجهادية» أو «الجهاد المعولم»، شهادةً حيةً على أن هذا التيار كان من أبرز الرابحين من جراء الإعلان الأميركي عن الحرب على الارهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. إذ بغض النظر عن اسماء التنظيمات والفصائل التي تمثل هذا التيار، سواء «القاعدة» أو «داعش» أو «أنصار الشريعة» أو غيرها، فمن الملاحظ أن هزيمة تنظيم أو فصيلٍ هنا أو هناك لم تشكل عائقاً دون صعود التيار عموماً وزيادة انتشاره. بل إن سقف هذا التيار آخذٌ في الارتفاع كلما تقدمت الحرب ضد الارهاب، فهو كان منتشياً بإمارته في أفغانستان قبل القضاء عليها من قبل تحالف قادته واشنطن، أما اليوم فقد ربط بين دولتين وأنشأ عليهما «دولة الخلافة».
وضمن مفهوم «الارتقاء» الذي بنى عليه التنظيم، في نيسان 2013، قراره بخصوص إلغاء مسمى «جبهة النصرة» و «دولة العراق الاسلامية» واستبدالهما باسم «دولة الاسلام في العراق والشام» قبل أن يقرر تعديله إلى «الدولة الاسلامية» بعد إعلان «الخلافة»، يبدو جلياً أن المسميات ليست بذات أهمية في أدبيات التنظيم، إنما المهم هو الهدف الاستراتيجي الذي يضعه تيار «السلفية الجهادية» نصب عينيه وهو «الجهاد حتى يوم القيامة». وبالرغم من الخلافات الشديدة التي تصبغ العلاقة بين أبرز تنظيمات تيار «السلفية الجهادية» كـ «القاعدة» و «داعش»، فإنه من المؤكد أن هذه الخلافات لم تمنع التيار بشكل عام من مراكمة بعض الفوائد الاستراتيجية جراء تجربة تنظيم «داعش»، وهو بالتأكيد سيستند إليها لاحقاً لإكمال مسيرته سواء استمر «داعش» أم لا.
لكن التنظيم الذي يخوض منافسة تكاد تتحول إلى حرب مفتوحة ضد تنظيم «القاعدة» ضمن البيت السلفي الواحد، سيحاول وفق تصريحات قادته أن يبقي له دوراً قيادياً في منظومة «الجهاد العالمية» ويمنع منافسيه الآخرين من استغلال تراجعه الجغرافي للحلول مكانه.
وقد كانت اللهجة التصعيدية الغاضبة التي تحدث بها أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» مؤخراً ضد التنظيم ودعوة عناصره للانشقاق عنه، تعبيراً واضحاً عن مدى حدة المنافسة بين الطرفين. ولم يأت تصعيد الظواهري من فراغ فهو ايضاً خاضع لمعادلة المنافسة نفسها، ويعمل أحياناً وفق منطق رد الفعل لا غير. ويبدو موقف الظواهري مفهوماً خصوصاً بعد تسريب بيان صادر قبل أشهر عدة عن «اللجنة العلمية في الدولة الاسلامية» يصف «جبهة النصرة» بالردة والكفر، وهو موقف متقدم للغاية بين فصيلين يفترض أنهما ينتميان إلى التيار ذاته. وكان التنظيم اتهم مكونات «الجبهة الاسلامية» بالردة منذ أواخر العام 2014 لكنه امتنع آنذاك عن توجيه التهمة ذاتها إلى «جبهة النصرة» غير أن المراجعات التي تقوم بها قيادة التنظيم منذ أواخر العام 2015 فرضت عليها تغيير موقفها في العديد من القضايا.
وقد يكون أهم ما تغير هو العقيدة العسكرية لدى التنظيم. فلم يعد التمسك بالأرض والدفاع عنها من أولويات التنظيم. وقد عبر عن ذلك أبو محمد العدناني، المتحدث الرسمي باسم التنظيم، خير تعبير عندما أكد في خطابه الأخير أن خسارة الأرض غير مهمة وأن المهم هو «إرادة القتال». وهذا يناقض العقيدة السابقة التي كان يقوم عليها شعار «باقية وتتمدد». وقد يكون الجانب الجيد في هذا التغيير أنه يتضمن إقراراً من التنظيم بعدم قدرته على الحفاظ على الأراضي في ظل الحملات العسكرية ضده. أما الجانب السيئ فهو أن التنظيم يعي إمكاناته وحدودها جيداً وأنه بدأ بالتمهيد للانتقال المنظم من مرحلة حرب الجيوش إلى مرحلة جديدة قد تكون العناصر الأبرز فيها هي حرب العصابات والذئاب المنفردة ومجموعات الذئاب.
وقد كشف الاصدار الذي نشرته مؤسسة «الفرقان» لمناسبة مرور سنتين على إعلان «الخلافة» أن التنظيم قام بإجراء تعديلات جذرية على بنيته التنظيمية تمثلت بجانبين. الأول هو إلغاء منصب نائب زعيم «داعش»، والذي كان يتولاه أبو عبد الله البغدادي. والثاني تشكيل ما يسمى «اللجنة المفوضة» والتي تأتي في التراتبية بعد منصب الخليفة و «مجلس الشورى»، وهي ذات صلاحيات واسعة تتعلق بالإشراف على «الولايات» و «الدواوين» (وهي بمثابة الوزارات)، وعلى الهيئات والمكاتب. وقد جاءت هذه التعديلات استجابةً من التنظيم للصعوبات التي بات يواجهها لتأمين اتصالات منتظمة بخصوص تبادل الأوامر والقرارات والمعلومات بين المركز وبين الفــروع التي يخوض كل منها معارك ضارية ضد جهات مختلفة.
وقد لا يكون هذا السبب الوحيد وراء إجراء التعديلات السابقة، إذ من المحتمل أن يكون التقليل من صلاحيات «الخليفة» وتوسيع صلاحيات «اللجنة المفوضة» وسيلة من التنظيم للحفاظ على ارتباط فروعه به عبر اطماع بعض القادة بالصلاحيات الجديدة، وهذا ينسحب على «الولايات» ضمن سوريا والعراق وخارجهما أيضاً. ولا يمكن إنكار أنه رغم الهزائم التي لحقت بالتنظيم وخسارته جزءأ واسعاً من الجغرافيا، فإنه لم يتعرض لحالات انشقاق واضحة ومؤثرة، فما زالت التنظيمات التي بايعته خلال الفترة الماضية ملتزمة ببيعتها، بما فيها التنظيمات البعيدة الكائنة في دول نائية عن مركزه، مثل نيجيريا والفيليبين وغيرها.
واتخذ التنظيم خطوةً نوعية أخرى في سبيل الحفاظ على وحدته ومنع الانشقاقات عنه، خصوصاً في ظل التسريبات الغربية حول وجود خطة متكاملة من قبل بعض أجهزة الاستخبارات للتواصل مع «المقاتلين الأجانب» وإقناعهم بالعودة إلى بلدانهم، وما تزامن مع ذلك من حديث حول وجود عشرات المنشقين عن التنظيم لدى «فيلق الشام» في ريف حلب الشمالي. وتمثلت هذه الخطوة بمحاولة إنهاء الصراع داخله بين تيار الحازمي وتيار البنعلي، وهو من أكثر الصراعات الداخلية التي كانت تهدد وحدة التنظيم.
وتأتي محاولة إنهاء هذا الصراع بإجراءات تصّب في خانة التيار الحازمي الأكثر تشدداً، لتؤكد مدى الانقلاب الذي يحصل داخل التنظيم بسبب التطورات الميدانية. لأن التنظيم مع بداية حملة «التحالف الدولي» ضده، حاول محاربة التيار الحازمي وأعدم عدداً من كبار رموزه من أمثال أبو عمر الكويتي وأبو الخطاب التونسي وأبو سهيل المصري، وكان يتوخى من ذلك خطب ود الناس المقيمين في مناطق سيطرته والذين طالما تذمروا من هذا التيار بسبب وحشيته المفرطة. لكن مع فشل التنظيم في الحفاظ على المدن وبدء مرحلة انحساره الجغرافي، لم يعد لهذه السياسة أي مسوغ، لذلك تخلى عنها التنظيم وأخذ يقترب أكثر من التيار الحازمي. وهذا يعود إلى سببين: الأول منع هذا التيار من التأثر بموجة الانشقاق المحتملة. والثاني لأن أفكار التيار مناسبة لتأسيس المرحلة الجديدة التي ينتظرها التنظيم بعد انتهاء «دولته».
وهذا يعني باختصار أن تنظيم «داعش» بات يحكم على جميع الناس في كل أصقاع العالم ما عدا المبايعين له على أنهم «كفار» و «مرتدون»، وهو تنظير فقهي ضروري للحكم بجواز استهداف الجميع بغض النظر عن جنسياتهم أو أماكن إقامتهم أو صفاتهم مدنية أو عسكرية، وبالتالي تسويغ عمليات «ذئابه المنفردة» ضد المدنيين في كل مكان. فالتيار الحازمي لا يتبنى مبدأ «العذر بالجهل»، وبالتالي فإن الانسان يكون كافراً حتى لو كان يجهل أن ما يقوم به يجعله يقع في الشــرك. كما تم تسريب بيان آخر من «اللجنة العلمــية» في التنظيم يعتبر فيه أن جميع الناس المقيــمين في العراق وسوريا قد وصلتهم «الدعوة الاسلامية» وبالتالي كل من رفض البيعة هو كاــفر بعد أن قامت عليه الحجة.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد