باسل الخطيب: القصيدة السينمائية
ورث باسل الخطيب، (1962)، عشق الصورة، عن قصائد أبيه الشاعر الراحل يوسف الخطيب ووالدته «بهاء الريس» (شقيقة الشاعر الراحل ناهض الريس)؛ متمماً سيرة صاحب «رأيتُ الله في غزة» عبر عشرات الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي ما برح يذكّر فيها بموطنه الأول، فمن مسقط رأسه «دورا» (جنوب الضفة الغربية) - مدينته الفلسطينية التي لم يرها قط - ساق المخرج السوري/ الفلسطيني، قطعان أحلامه عن تلك البلاد.
فالفتى الذي فتح عينيه على جبال الألب في هلفرسوم بهولندا لم يمضِ وقتٌ قصير حتى عرف أنها بلاد أُخرى غير تلك التي كان والده الشاعر يتغنى بها في قصائده الغاضبة: «عام 2010 قدّر لي أن أزور غزة للمرة الوحيدة في حياتي. وقتذاك وقفت شاهداً على آثار العدوان الإسرائيلي؛ أذكر عندها كيف حملتُ بيديّ طفلاً فقد بصره بسبب القنابل الفوسفورية التي أُلقيت على مدرسته. أمسكتُ به وهو يقف مخاطباً المئات ممّن تجمعوا إحياءً لذكرى الضحايا من أطفال فلسطين. كان طفلاً في عالم من العتمة والسواد يبشرنا بالنور والسلام؛ لكن وبعد عودتي سألني كثيرون ما هي الرسائل التي حملتها إلى غزة؛ فأجبت بأنني لم أحمل أي رسالة إلى غزة، بل حملتُ من هناك إلى العالم بأسره رسالة وحيدة، وهي أن غزة تعلّمُنا جميعاً كيف يكون حب الأوطان، وكيف تكون التضحية من أجلها؛ غزة بل وفلسطين كلها علمتنا كيف يكون الصبر والإيمان والثبات؛ فاليوم حياة طفل فلسطيني أهم عندي من كل شيء في هذا العالم، اليوم لقمة خبز لطفل فلسطيني أبدى من كل القيادات التي تتاجر بحياة ودماء شعب فلسطين...اليوم حلم طفل فلسطيني بالسلام والحرية هو حلمٌ أدفع حياتي ثمناً من أجله».
انتقل الفتى مع أسرته بحكم عمل والده في أكثر من جهة إعلامية؛ فمن أمستردام إلى بغداد فدمشق صاغت هذه الأمكنة تاريخه الشخصي الكثيف؛ لتكون العاصمة السورية المدينة التي سيترعرع بين أحيائها؛ حائزاً الشهادة الابتدائية من مدرسة «الحرية» عام 1973؛ وليكمل بعدها تحصيله الإعدادي في «ابن خلدون» المدرسة التي نال منها الشهادة الثانوية عام 1980؛ حاجزاً له مقعداً لدراسة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق؛ وماهي إلا سنوات حتى انتقل الشاب المتمرد من دراسة لغة شكسبير إلى دراسة السينما التي تعرّف إلى فنها في معهد «فغيك» (موسكو - 1987) منجزاً أول فيلم له بعنوان «جنون» (1982) محققاً أربعة أفلام روائية قصيرة بعد إنهاء دراسته في بلاد بوشكين، كان أبرزها «قيامة مدينة» (1995)، «مسارات من نور» (1995)، «الحركة الخامسة» (2000).
الرسالة الأخيرة
أول أفلامه الطويلة أتت بعنوان «الرسالة الأخيرة» (2001) عن سيناريو للكاتب قمر الزمان علوش؛ وفيه استعاد الرجل فترة الأربعينيات في سورية، مطلاً على مرحلة من الغليان الاجتماعي للطبقات التي تحركت آنذاك على سلطة الإقطاعيات والبرجوازية الريعية المدعومة من الانتداب الفرنسي: «بعد هذا الفيلم بقيت أعمل في التلفزيون وعيني على السينما، لكنني في الوقت نفسه كنتُ مديناً جداً لتجربتي على الشاشة الصغيرة، فلولا هذه السنوات الطويلة في العمل وراء كاميرا الشاشة الفضية؛ لم يكن لتتشكل لدي هذه المعرفة الأكيدة مما أريد أن أقدمه للجمهور الجديد، والأهم كيف أقدمه، لكنني على يقين أن فكرة المسلسل ذي الثلاثين حلقة سوف تتراجع وتتلاشى، كوننا سنقبل على زمن لن يبقى فيه المشاهد قادراً على متابعة عرض يمتد على هذه المساحة الواسعة زمنياً، فمثل ما كان الماضي للسينما، المستقبل أيضاً سيكون لها، ولهذا أستطيع القول إنني أحاول دائماً التفرغ لمشروعي في السينما برغم كل ما قدمته على مدى سنوات عديدة من شغلي في التلفزيون، فالفيلم السينمائي هو الأبقى دائماً في الذاكرة والوجدان الجمعي لأي شعب من الشعوب المتحضرة، وأكثر بما لا يقاس من أي عرضٍ تلفزيوني».
انتصر الخطيب لما عُرِف بالرواية التلفزيونية في أعماله التي نحت إلى مقاربة لغة الفن السابع في التلفزيون؛ سواء من حيث العمل على تنظيف الحوارات الدرامية والكادر من الثرثرة الزائدة لمصلحة لغة بصرية أنيقة، أو حتى من خلال تمرين عين الجمهور اليومي على حساسية مغايرة لرغبة سوق المحطات العارضة، فكان أن حقق أعمالاً تاريخية واجتماعية عن مراحل حاسمة من حياة السوريين والنضال الفلسطيني، كان أبرزها: «هوى بحري» عن رواية بالعنوان نفسه لقمر الزمان علوش، و «رسائل الحب والحرب» للكاتبة ريم حنا، و «نزار قباني - سيرة ذاتية» و «أنا القدس» عن نص من كتابته مع تليد الخطيب و «عائد إلى حيفا» عن رواية غسان كنفاني: «من المهم القول إن السينما هي الضرورة الثقافية اليوم في بلادنا بعد سنوات من الانتشار الهائل للفضائيات العربية التي دعمت الأعمال التلفزيونية، هذا الدعم الذي أعتبره من تبعات هزيمة الـ67، وتملصا من مسؤولية المثقفين عن تحقيق أفلام قادرة على تأكيد الحق الفلسطيني، في حين تقوم إسرائيل بإنتاج أفلام ملفقة عن حقائق مزوّرة مدعومة بدعاية صهيونية عالمية كاذبة. أتذكر هنا فيلم «الخروج» الذي أنتجته هوليوود أواخر خمسينيات القرن الفائت عن رواية لكاتب صهوني اسمه «ليون أوريس» إذ تحدث هذا الشريط عن عودة اليهود إلى فلسطين وقيام ما يدعى بالكيان الإسرائيلي، عندها قُدم هذا الشريط في كل من بلدان أوروبا وأميركا وبدعاية كبرى من صالات العرض، حتى أن «غولدمائير» قالت عن هذا الفيلم آنذاك بأنه «حقق لإسرائيل من الانتصارات ما لم تحققه كل الحروب مجتمعة التي خاضتها ضد العرب».
أزمنة متداخلة
بعد غياب دام عشر سنوات عاد الخطيب إلى البحث عن ضالته السينمائية؛ منجزاً «مريم» (120 دقيقة)، فيلمه الروائي الطويل الذي سيعيده بقوة إلى واجهة المشهد السينمائي العربي؛ حاصداً العديد من الجوائز عن هذا الشريط (الجائزة الكبرى مهرجان الداخلة، بالمغرب) حيث بدأ «الخطيب» عبر «مريم» ثلاثيته عن «المرأة في زمن الحرب» متبعاً إياها بفيلم «الأم» عن سيناريو مشترك مع شقيقه تليد الخطيب وفيلم «سوريون» الذي كتب له السيناريو بنفسه: «أعتقد أنني اعتمدت في الأشرطة الثلاثة أسلوبية واحدة؛ لكن أجزم أنها مختلفة عن بعضها من جهة رواية الحدث وتصعيده ومعالجته بصرياً، فبرغم أن شخصيات الأفلام الثلاث تحتفي بالمرأة كعنوان للتحرر والثورة الاجتماعية؛ إلا أنني في «مريم» عملتُ على بناءٍ زمني متداخل ومعقد وأعتقد أنه كان من العيار المأساوي الثقيل؛ أما في «الأم» فلجأت إلى حكاية إنسانية بسيطة مستوحاة من حادثة واقعية جرت في سورية أثناء سنوات الحرب المنصرمة؛ طبعاً الحكاية والمعالجة السينمائية هنا أبسط بكثير من «مريم» الذي كان يتوقف على مقاطعته بين أزمنة عدة، وهذا ما عدتُ إليه في فيلمي الأخير «سوريون» الذي اتكأتُ فيه على تداخل زمني لرواية حيوات شخصيات مزقتها الحرب؛ وحرمتها من أجمل شيء فيها.
الزمن الدائري الملفوف بصياغة مونتاجية حاذقة في أفلامه الروائية الطويلة؛ جعل من السينما التي يعمل عليها «الخطيب» أقرب إلى مناخ الحلم، فالأجواء الرمادية الماطرة والشخصيات الصامتة المنعزلة داخل بيوتها البعيدة؛ تركت بصمة خاصة لهذا المخرج في الفيلموغرافيا السورية، لكن أين أفلامكَ عن فلسطين؟ يجيب: «عندما تفكر كسينمائي بتقديم عمل عن فلسطين سترى أنه لا أحد يرغب في هكذا نوع من الأعمال، ولا يريدون أن يقدموا شيئاً لهذا الجرح المفتوح، ولا أخفيكَ أنني حاولتُ مع العديد من السينمائيين الفلسطينيين أن ننجر مشروعاً عن الحق الفلسطيني، لكن كل مرة كان الخذلان حليفنا».
عندما أنظر اليوم إلى ما يحدث في فلسطين، فأنا لا أرى ولا أدرك ما يحدث إلا من خلال ما كان يراه ويفكر به والدي الراحل يوسف الخطيب محددا بشكل واضح وحاسم موقفي من كل ما يحدث، يقول الخطيب متابعاً: «لقد كانت فلسطين وستبقى الوجهة الأولى والأخيرة، وأحد أسباب مؤمراة إغراق سورية في حرب كونية غير مسبوقة، لا يمكن أن نقرأه إلا استكمالاً للمخطط الجهنمي لطمس قضية فلسطين، الذي تتجلى عناصره اليوم بمزيد من القتل والتشريد للشعب الفلسطيني وبإلغاء كلمة فلسطين من الخرائط العالمية، والتكالب المشين للبعض بالارتماء في الكيان الصهيوني وإرضائه بكل الوسائل الممكنة، وجعل من ساند فلسطين وشعبها عبر العقود الماضية، سورية تحديداً، تدفع ثمن مواقفها الوطنية والنبيلة والعادلة تجاه الفلسطينيين. اليوم بِتُّ لا أرى سورية وفلسطين إلا وطناً واحداً وشعباً واحداً ومصيراً واحداً. واذا كانت فلسطين قد ابتليت ببعض الزعامات الخائنة والفاسدة، فإن الشعب الفلسطيني قادر على إلقاء هذه الزعامات إلى مزبلة التاريخ، وايجاد كفاءات وطنية قادرة على الدفاع عن قضيته العادلة، وهو قادر مثلما ثبت عبر سنوات طويلة من كفاحه، على الثبات اليوم أكثر من أي وقت مضى».
انتهى صاحب «جليلة» مؤخراً من تصوير فيلمه الجديد «الأب» الذي يطل فيه على الجحيم السوري من زاوية مختلفة؛ مشرِّحاً مرةً أخرى الأسباب الخفيّة لوقوع الزلزال: «الأب يحاكي أحداثاً حقيقية وقعت في سورية خلال الحرب المأساوية التي تعيشها اليوم، ويقارب بعض انعكاسات آثار هذه الحرب على حياة ومصائر شخصيات الفيلم، فهو هو حكاية عائلة سورية يروي قصتها في سعيها للبقاء على قيد الحياة من خلال مواجهتها مجموعة من التحديات والاختبارات، ويُبرٍز فيها بعضًا من قيم وثوابت هذه الشخصيات، والتحولات الأخلاقية التي تطرأ عليها، فأحداث الفيلم تمضي في سياق زمني واحد ومتواتر، وفي إيقاع متصاعد يراكم كماً كبيراً من المشاعر والانفعالات في فضاء بصري تملأه الوحشية والقسوة سواء على مستوى الأفعال الخارجية أو النوايا المخفية».
اليوم، يقضي «الخطيب» شهراً إضافيا في الجزائر لتحقيق فيلمٍ تاريخي هناك عن سيرة «عبد الحميد ابن باديس» عن سيناريو كتبه الأديب رابح ظريف؛ وفيه يعكف الخطيب على تناول الشخصية الإصلاحية للعلامة الجزائري؛ مسلطاً أدواتِه الفنيّةَ على حقبة كثيفة من تاريخ المغرب العربي: فيلم «بن باديس» يتناول جوانب من حياة العلامة الجزائري، الذي يعتبر من رجال الاصلاح في الوطن العربي ورائد النهضة الاسلامية، ومؤسس جمعية العلماء في الجزائر، إذ كان له دور بارز في ردّ الاعتبار للكثير من قيم الاسلام الحقيقية، وفي الحفاظ، من خلال مؤلفاته ودروسه، على الهوية العربية والمسلمة للشخصية الجزائرية، والتي كان يعتبرها واحدة من ثوابت الوجود والبقاء في مواجهة الاستعمار الفرنسي الذي كان يسعى لطمس هذه الشخصية سواء من خلال الممارسات العسكرية الدموية، أو من خلال بث روح الإحباط واليأس في هذه الشخصية من خلال تضييق سبل الحياة عليها».
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد