جراح المسلمين وسياسات الهوية
أنتج الاحتداد السُنّي - الشيعي في المشرق العربي حالة من المظلومية، تكاد تنطبق على الطوائف الإسلامية كافة، لا سيما لدى الطائفتين الكُبريين السُنية والشيعية. إثر الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، تفاقم خطاب التظلّم عند السُنّة العراقيين في ضوء معطيات وتبدلات إقليمية ومحلية، رافقها انتشار النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين؛ ما دفع الملك الأردني عبدالله الثاني العام 2004 إلى الحديث عن «هلال شيعي» يبدأ من بغداد مروراً بطهران ودمشق ليصل إلى لبنان. وكان رئيس المجلس النيابي نبيه بري أطلق شعاراً تلطيفياً «هلال شيعي في قمر سُني» في حواره مع صحيفة «الأهرام»، وجاء شعاره في معرض الردّ على سؤال: «مَن يُغذّي الفتنة السُنيّة الشيعية؟».
يشعر السُنّة في العراق أن ثمة تهديداً متصاعداً يهدد وجودهم التاريخي. هذا التوجس تنامى في التجربة اللبنانية بعد اتفاق الطائف الذي شهد مواجهة سنية - شيعية، و «جرت العادة – على حدّ تعبير المؤرخ أحمد بيضون - من يوم أن نشأ لبنان المعاصر، أن ننظر إلى مجتمعه على أنه مخترَق بخط إجمالي فاصل وواصل ما بين المسلمين والمسيحيين». أحدث استشهاد الرئيس رفيق الحريري (2005) كشخصية سنيّة مدنية عابرة للطوائف ولها وزنها السياسي، إقليمياً وعالمياً، تبدلاً في مزاج عموم اللبنانيين وعند السُنّة تحديداً، فأصاب «الاغتيال المقتلة» الطائفة بصدمة جرحية تركت تداعيات مؤلمة على الوضع اللبناني المتشظي، وقد رأى الكاتب والمحلل السياسي فؤاد مطر أن «اغتيال الحريري» بمثابة «كربلاء سنية».
يُستفاد من سجل «الربيع العربي» أنه أيقظ «القلق النائم» الذي تتخبّط به الجماعتان الكبريان، خصوصاً في المشرق العربي الذي تتعرّض دوله لتفكك وانهيارات، فولدت المعادلة السياسية الآتية: صحوة الإسلام الشيعي مقابل انكفاء/ أو دفاعية الإسلام السني. وفي موازاة هذه المعادلة، إن كانت صحيحة، تتصاعد الفتن المذهبيّة والطائفية، التي تحوّلت أهدافها السياسية التاريخية إلى أطر إيديولوجية وعقدية صلبة/ طاردة، تشكّل هوية الجماعات الدينية التي تمرّ في وضعية من الانغلاق على ذاتها ومحيطها والمتعادية مع خصومها في الدين.
طرح المؤرخ التونسي هشام جعيط في كتابه «الفتنة الكبرى: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر» مصطلحاً أطلق عليه «مجال عليّ»، قاصداً بذلك السمة الاعتراضية على السلطة المُقامة منذ «اجتماع السقيفة»، التي آلت لاحقاً إلى نشوء حركات شيعية ثورية تحوّلت فرقاً دينية، في إسلام ينهض بطوائفه ومذاهبه على تأويلات مختلفة، أضفت عليه ثراء ودينامية وحيوية يعتمل فيها الديني والسياسي. لقد نشأ عن استبعاد الخلافات الإسلامية المتعاقبة لـ «مجال علي» مظلومية لدى الشيعة تراكمت عبر العصور، فأدّت إلى تفعيل المنافسة مع «المسلمين الآخرين»، وأسست لحراك خفي وثوري، تبدّت معالمه التأسيسية الرسمية في محطتين متباعدتين تاريخياً: قيام الدولة الصفوية (1501-1736)، والثورة الإسلامية في إيران (1979) التي أقلقت محيطَها وجيرانها تحت شعارات «تصدير الثورة الإسلامية»، فقابلتها حماسة التبشير لدى السلفيات السُنية، تفاقمت حدتها في السنوات الأخيرة، كما لو أننا أمام تنافس محموم على الإسلام وهويته وجماعة المؤمنين. إن الانشقاق السياسي الذي ظهر منذ ألف وأربعمئة سنة يمتدّ إلى الزمن الراهن ويرسم هوية الجماعات الدينية، معزّزاً تشنّجها على طول الخطوط السُنيّة الشيعية.
تطوّر المظلومية لدى السُنّة والشيعة العرب رافقه بروز «سياسات الهوية» في الخطابات السياسية والدينية والتعبوية؛ فعبّرت عن نفسها من خلال الرموز الدينية والإفراط في التديّن والطائفية السياسية، فلم تنتج إلاّ مزيداً من التشنج السياسي بامتدادته الإقليمية وموروثه التاريخي وذاكراته المتنازعة وأحاسيس المنافسة.
إن الصراعات السياسية في العراق ما بعد صدام حسين أنتجت تبدلات في الهويات الطائفية. وفي تحليل هذه الظاهرة يرى الباحث في «معهد الشرق الأوسط» في الجامعة الوطنية في سنغافورة، فنار حدّاد، أن «في العام 2003 وجد العرب العراقيون السنّة أنفسهم ضعيفي التجهيز للتنافس في العراق الجديد. وكانت لغة التظلم الإثني الطائفي والنسب المئوية السكانية الإثنية الطائفية غريبة لمعظم العراقيين العرب السُنّة. نتيجة لذلك وبعد العام 2003 جاءت ثقافة الهوية الطائفية والتظلّم الطائفي سواء بشكل متعمّد أم لا على حساب العرب السُنّة، تحديداً لأنهم لم يملكوا أسطورة متفردة للتظلم الطائفي، في بيئة سياسية عرفت إلى حد كبير الضحايا على طول الخطوط العرقية والطائفية. ومن ذلك الحين، غدت الأهمية السياسية للهوية الطائفية وسياسات السلطات العراقية وسلطات الاحتلال وانعدام الاستقرار، شعوراً بالتطويق بين العراقيين العرب السُنّة الذين شهدوا تباعاً ترسيخ الهوية السنية في العراق والترسّخ بها على نحو لم يسبق له مثيل».
على المقلب اللبناني أصبح خطاب المظلومية سمة من سمات الطائفة السُنية – بالاضافة إلى المكوِّن المسيحي الأشد قلقاً على الميثاقية اللبنانية بفعل العوامل الداخلية والتحولات الجارية في الإقليم - بحيث تراكمت بشكل دراماتيكي – من دون تغييب العامل السوري قبل القرار 1559 الذي لعب على تناقضات التركيبة اللبنانية - بفعل صاعقين: استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وضريبة الجوار السوري بعد انفجار الحراك الاحتجاجي وتحويله عنوة نحو العسكرة، فتصاعدت أصوات القيادات السنية ضد «الاضطهاد» الذي يتعرّض له السُنّة في سوريا. وفي موازاة الاستقطاب الطائفي بين السنة والشيعة، يخشى سُنة لبنان على مكاسبهم السياسية إزاء نهوض طوائف وتراجع أخرى. غير أن التركيبة اللبناني على سلبياتها غير قابلة للاختراق والهضم أو ممارسة الهيمنة من قبل طائفة واحدة. التجارب الماضية تقدّم لنا الكثير من الدروس.
يمكن النظر إلى القلق السُنّي من زاوية أخرى بعيداً من التنافس السياسي مع الشيعة. أصاب انفجار المد الجهادي «الداعشي» المسلمين السُنّة بجرح في هويتهم الدينية والمدنية، فباتوا اليوم في حالة دفاعية ضد كل الكلام حول اتهامهم بالإرهاب. ولا ريب في أن معظم المسلمين السُنّة ضد العنف الجهادي سواء أتى تحت راية «القاعدة» أو «داعش» أو أي تنظيم إرهابي آخر. إلى ذلك فإن العنف الشيعي الديني/ السياسي المتمثل بالميليشيات الشيعية المنتشرة في أماكن النزاع، يشكل تهديداً لمعظم المسلمين الشيعة، إذ يضعهم في قلب المواجهة مع الطوائف الأخرى، ويهدّد وجودهم وحركة التمدين المتراكمة عندهم في المجتمع والدولة.
الحاصل أن الطائفتين تتواجهان وتتصادمان على وقع تفكك الدول العربية الذي يصاحبه طرح مشروع فيدراليات الهويات الدينية والمذهبية كمرحلة عبور للخروج من المأزق السياسي، غير أن هذا السيناريو غير قادر على تخطي الأزمات المستفحلة فهو يعمل على تأجيجها وتعقيدها.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد