إسلام واحد وخطاب متعدد
تقدم سلسلة كتب «الإسلام واحداً ومتعدداً» الصادرة عن رابطة العقلانيين العرب ودار الفارابي مناسبة للمشاركة في حوار طويل ما زال على رغم تكراره يحتاج إلى مزيد من المعالجة ومواصلة النظر في الفارق بين الإسلام والخطاب الإسلامي، وربما يكون ثمة قبول اليوم أن هناك فارق في النظر والاعتبار بين الإسلام بمعنى النص الديني وبين الخطاب بمعنى التطبيق والفهم للنص.
وقد تكون العبارات التي اختيرت لكتب السلسلة (الإسلام الشعبي، إسلام المجددين، الإسلام الأسود، إسلام عصور الانحطاط) تشكل صدمة للقارئ المسلم الذي يرى الإسلام واحداً لا يختلف ولا يتعدد، ولكن قراءة الكتاب تدل على أن المعنى المقصود هو تطبيق الإسلام وفهمه في المجال الشعبي أو في إقليم مثل أفريقيا أو لدى فئة من المفكرين والمجددين، ولا تختلف في مفاهيمها عن مفاهيم أخرى أخذت قبولاً مثل «الإسلام السياسي».
فما من شك أن معنى النص وفهمه يأتي مختلفاً عنه، وربما يكون الوصول إلى المعنى الصواب مستحيلاً بمعنى الحكم عليه أو الجزم بصوابه «وما يعلم تأويله إلا الله» وهي مقولة قد تكون نسبوية متطرفة سواء كانت صواباً أو خطأ لكنها تعنى منطقياً أنه لا وجود للحقيقة والصواب ابتداء!
غير أن هذه المقولة وإن كانت تثير حفيظة كثير من المسلمين والاتجاهات الإسلامية فإنها تؤكد من جهة أخرى مقولة الإسلاميين عن سر صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، فذلك يجعل الفهم والتطبيق متغيراً مع استمرار المرجعية واعتقاد الصواب، وذلك أيضاً سر الإبداع الإنساني بعامة لأن الاعتقاد بعدم الصواب، وأن ثمة ما هو أفضل وأكثر صواباً هو ما يدفع الإنسان إلى مواصلة البحث والتفكير والعمل، ولذلك فإن العلم قائم على إدراك الإنسان لما يجهله، وكلما زاد إدراكه لما يجهله ازداد علمه، وربما تكون العبارة الأكثر صحة هي كلما زاد علم الإنسان زاد جهله، وكأن أعلم الناس أجهلهم، والواقع أني أقتبس هذه الفكرة من «مات ريدلي» أحد علماء الجينوم ومن المشاركين في اكتشاف الخريطة الوراثية التي اعتبرت من أهم الإنجازات العلمية في تاريخ البشرية، وكأننا نتعلم ونقرأ ونبحث لنعرف جهلنا وليس لنعلم، أو كأن العلم هو معرفة الجهل، ولكن الجهل ليس واحداً، فثمة جهل يقود إلى التقدم والاكتشاف والرفاه وزيادة العلم.
واليوم ونحن نشهد موجة تدين تكاد تشمل العالم كله بجميع أديانه في الوقت الذي تتقدم الأمم والمجتمعات تقدماً علمياً وتقنياً غير مسبوق في تاريخها فإننا مقدمون حتماً على صياغة رؤيتنا وأفكارنا الدينية بما ينسجم مع المرحلة العلمية والفلسفية التي وصلنا إليها، ولا نملك بذلك ضمانات للناس الحريصين على الدين والمجتمع والمبادئ عندما ندعو لإطلاق التفكير والسؤال والشك، ولكن الحل ليس في الحجر على السؤال والتفكير، فكما يعتقد بأنفسهم أولئك المدافعون عن المبادئ واليقينيات الحرص عليها، فلا حق لهم بأن يحتكروا هذا الحرص أو الوصاية عليها، لأنها ليست ملكهم ولا يعلمون إن كانوا بذلك يدافعون عنها بالفعل أم يضرونها، فالصواب لا يضره البحث والسؤال والشك، لأنه سيبقى صواباً بذاته وليس بدفاعهم عنه ولا بإيمانهم به، لأن الحق هو الحق مطلقاً ولا يكون كذلك بإيمان الناس به، ولا يصبح باطلاً بعدم إيمان الناس به، وإذا بقي الإسلام والدين بعامة راسخاً باعتقاد الناس وإيمانهم فلن يضره الشك والإلحاد ولن يزيد فيه رسوخاً وصواباً ذلك المنع من التفكير والاتهام لكل من يتجرأ بالشك والسؤال والبحث والتفكير وإعادة التفكير، بل إن المرجح هو العكس، فبعد مئات السنين من العمل الفكري والعلمي المتواصل في نقد المسيحية ومراجعتها لا تزال في أوروبا والغرب مهد النهضة العلمية الحديثة يزيد أتباعها والمؤمنون بها، وتكاد تكون الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة الأميركية هي القوة الأكثر تأثيراً في السياسة والمجتمع وفي الانتخابات العامة.
والواقع أن التدين في مستواه من حيث هو متطرف أو معتدل، متسامح أو متشدد، متقدم أو متخلف، منفتح أو مغلق يعكس الحالة الحضارية والمستوى التعليمي الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع والأفراد، ويكفي ملاحظة خريطة وجغرافيا الدين والمتدينين لملاحظة ظاهرة كون التدين منتجاً حضارياً وثقافياً يعكس مستوى وحالة الحضارة والمجتمعات، فالمجتمعات المغلقة يكون تدينها مغلقاً، والمتعددة الثقافة والمتسامحة تنتج تديناً متسامحاً، والمهزومة والمتخلفة تنتج التطرف، والمحتلة تنتج تدين المقاومة والاستقلال، وهي رؤية تنطبق على جميع الأديان والفلسفات بما في ذلك العلمانية والليبرالية، فكما يجب أن يكون هناك تمييز واضح بين الدين والمتدينين وبين الإسلام والإسلاميين، فيجب أيضاً التمييز بين العلمانية والعلمانيين وبين الليبرالية والليبراليين، وكما أن الدين لا يشكل بالضرورة شرطاً للتقدم أو التخلف فكذلك الأمر بالنسبة للعلمانية والليبرالية.
ونلاحظ في تاريخ الحركات والجهود الإصلاحية في الوطن العربي أن العلمانية والليبرالية بدأها علماء ومفكرون إسلاميون مثل رفاعة الطهطاوي، وعلي عبدالرازق، وخير الدين التونسي، وعبدالرحمن الكواكبي، وبدأ في مرحلة متأخرة الافتراق والاختلاف في الجذور، ويمكن على سبيل المثال ملاحظة أن كلاً من لطفي السيد ورشيد رضا كانا من تلاميذ محمد عبده، ولكنهما اتجها في ما بعد في وجهتين تبدوان مختلفتين جذرياً في رؤيتهما وفلسفتهما.
وبطبيعة الحال وكما يبدو في التاريخ والاجتماع فإن الدين مرتبط بالمدينة والتمدن، ولذلك فإنه يمكن بالنظر إلى حالة التدين السائدة اليوم وأنماطها واتجاهاتها المختلفة قياس حالة التمدن في مدننا ومجتمعاتنا.
وقد تسرب الجمود والانحراف والتخلف إلى الحياة الفكرية والثقافية للمسلمين مع تخلف العالم الإسلامي، وتشظيه سياسياً وتراجعه اقتصادياً، فالنموذج التطبيقي للإسلام بدأ بعد مرحلة التأسيس يتحول إلى تجربة تاريخية إنسانية تسهم المجتمعات والتحولات والبيئة المحيطة والأحداث في تشكيلها، ومن ثم كانت تنشأ أحكام فقهية وقراءات للنصوص الدينية قائمة على التفاعل مع البيئة والتحولات الزمنية الطبيعية وأحياناً الكوارث والهزائم.
وهكذا فإن الظاهرة الدينية، ينطبق ذلك على الإسلام والمسيحية واليهود تتشكل بين حيز المقدس وبين الحيز الدنيوي القائم على اللغة والمعنى المتوصل إليه، والتعبير البشري عن ذلك يكون وفق معطيات اجتماعية وتاريخية واقتصادية.
وكما غيرت النسبية عند اكتشافها عام 1905 جذرياً في الفيزياء والعلوم ثم الفلسفة فإنها ستغير حتماً في فم الدين وتطبيقه، ولذلك فإن تعدد الخطاب الإسلامي وتغير الفهم والتطبيق سيكون مسألة حتمية حتى في حيز الاتجاه الآخر نفسه والذي يعتقد أن المعنى من الوحي ولا مجال للاجتهاد فيه شهد ويشهد هو الآخر تحولات كبرى تقوم على تطور أصحابه العلمي والاجتماعي، فليست المذاهب والأفكار والاتجاهات القائمة اليوم هي نفسها ما كانت عليه قبل عقود وقرون من الزمان، هل يجرؤ على سبيل المثال أحد اليوم أن يقول إن العبودية والجواري والرق حلال أو يدعو لتطبيقها على رغم أنها كانت مقبولة وسائدة قبل فترة من الزمن، فهل كانت حلالاً وأصبحت حراماً؟ وهل تغير النص أم تغير المعنى أم تغير الفهم والخطاب؟
إبراهيم غرايبة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد