المحكمة الجنائية الدولية بين العدالة ونظرية المؤامرة

12-07-2008

المحكمة الجنائية الدولية بين العدالة ونظرية المؤامرة

الجمل: تناقلت رسائل الإعلام العالمية، تسريبات المحكمة الجنائية الدولية، القائلة بأن تقرير المدعي العام المتعلق بقضية دارفور سيصدر خلال الأيام القادمة، وسيكون الرئيس السوداني عمر البشير من أبرز المطلوبين للمثول أمام الإدعاء.
• المحكمة الجنائية الدولية وملف دارفور:
اندلع الصراع بإقليم دارفور السوداني الواقع في غرب السودان، في عام 2003م، وما كان لافتاً للنظر، أن الإعلام الأمريكي والغربي قد اهتم بالتسويق لأزمة دارفور، بما يفوق حجم الأزمة الحقيقي، والتي بدأت بالأساس كصراع بين الرعاة والمزارعين على خلفية الجفاف والتصحر الذي ضرب الإقليم، إضافة إلى تداعيات انتشار السلاح بين قبائل الإقليم بسبب الصراع التشادي- الليبي، والصراع التشادي- التشادي، والصراع الداخلي في جمهورية إفريقيا الوسطى، وجميعها صراعات انتقلت عدواها إلى إقليم دارفور بسبب انفتاح الحدود السياسية وتداخل القبائل والمجموعات الإثنية العرقية ذات الروابط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية العابرة للحدود.
بدا واضحاً منذ بداية الصراع أن الإدارة الأمريكية كانت أكثر نشاطاً وبذلاً للجهود من أجل تدويل صراع دارفور، واستخدامه على غرار ملف يوغسلافيا ورواندا، ووجهت إدارة بوش اتهاماتها للحكومة السودانية بارتكاب المذابح والجرائم ضد الإنسانية في دارفور، ونظمت أكثر من 500 منظمة يهودية أمريكية أضخم حملة سياسية في الولايات المتحدة، حملت اسم وشعار (من أجل إنقاذ دارفور)، وكانت الحملة بقيادة وزعامة النائب الديمقراطي اليهودي الأمريكي الشهير جوليبرمان.
 فشلت كل تحقيقات الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، ومنظمات حقوق الإنسان في إثبات حدوث المذبحة في الإقليم، وبرغم ذلك لم تتراجع الإدارة الأمريكية عن مزاعم حدوث المذبحة، وفي غمرة الصراعات والخلافات الدولية في مجلس الأمن الدولي نجحت أمريكا بالتحالف مع فرنسا وبريطانيا في دفع مجلس الأمن إلى إصدار قرار تحويل ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية.
• المحكمة الجنائية الدولية: من آليات العدالة" إلى "آليات نظرية المؤامرة":
تقول المعلومات بأن المحكمة الجنائية الدولية قد تم إنشاءها في عام 2002م، لتكون محكمة دائمة الوجود من أجل محاكمة الأفراد والأشخاص المسئولين عن ارتكاب المذابح والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب إضافة إلى جريمة العدوان، برغم أن ولاية هذه المحكمة لا تمنحها الاختصاص أو الصلاحية القانونية الدولية لعقد المحاكمات المتعلقة بجريمة العدوان.
تم إنشاء المحكمة في 1 تموز (يوليو) 2002م، بموجب التوقيع على معاهدة روما التي شكلت الأساس القانوني لقيام المحكمة، وما هو مثير للجدل في اختصاص المحكمة هو أنها تعطي نفسها الصلاحية لعقد المحاكمات القضائية للجرائم المرتكبة قبل أو بعد هذا التاريخ، وهي سابقة ملفتة للنظر، لأنه وكما جرت العادة أن يصدر القانون وتتم المحاكمات بدءاً من لحظة صدور القانون ولاحقاً، فإن عقد المحاكمات المتعلقة بالجرائم السابقة للقانون هو في حد ذاته أمراً غير متعارف عليه، لأنه من غير الممكن محاسبة الآخرين بتاريخ سابق للقانون.
كذلك من اللافت للنظر والمثير للجدل أن الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت تدفع باتجاه إصدار القرارات الدولية لمحاكمة خصومها بواسطة المحكمة الجنائية الدولية، قد رفضت مراراً وتكراراً التوقيع على اتفاقية روما إضافة إلى أنها حذرت بشكل تام من مغبة استخدام هذه المحكمة في محاكمة الأمريكيين، وأعلنت رفضها المسبق لمثول أي أمريكي أمام هذه المحكمة.
وما هو مثير للجدل أكثر من ذلك هو أن السودان لم يوقع على اتفاقية روما المتعلقة بالمحكمة، وبالتالي وبحسب بنود القانون الدولي، فهو غير ملزم بنظام المحكمة.. ولكن برغم ذلك، أصدر مجلس الأمن الدولي قرار بتحويل ملف إقليم دارفور السوداني إلى المحكمة الجنائية الدولية.
حتى الآن، وبرغم جرائم الحرب المرتكبة في العراق، وأفغانستان، والأراضي الفلسطينية، والبلقان، فإن المحكمة الجنائية الدولية لم تنظر أو بالأحرى لم يقم مجلس الأمن الدولي بتحويل أي ملف يتعلق بالجرائم المرتكبة في هذه المناطق لها، وتشير الوقائع إلى أن القضايا التي تنظر فيها المحكمة تتضمن:
- ملف أزمة شمال أوغندا
- ملف أزمة الكونغو
- ملف أزمة إفريقيا الوسطى
- ملف أزمة دارفور.
وعلى هذه الخلفية، تشير التحليلات إلى الطابع المتحيز الذي تتسم به ولاية واختصاص هذه المحكمة، فملف شمال أوغندا قصد به محاكمة زعماء وعناصر جيش الرب الأوغندي المعارض لنظام الرئيس الأوغندي يوري موسفيني حليف إسرائيل وأمريكا، والذي أكدت المعلومات تورطه في مذابح راوندا، وملف الكونغو قصد به محاكمة الحركات المسلحة الكونغولية التي تحارب في إقليم شرق زائير، وتبدو غرابة الموضوع، في أن فصائل التمرد الكونغولي الرئيسية يبلغ عددها ستة، جميعها تحارب ضد النظام الكونغولي، ولكن منها على وجه الخصوص ثلاثة فصائل لا تكتفي بشن عملياتها ضد الحكومة الكونغولية وإنما ضد الشبكات الإسرائيلية الناشطة في تهريب الألماس واليورانيوم من شرق الكونغو إلى إسرائيل، وقد شددت هذه الفصائل سيطرتها على مناجم الألماس واليورانيوم الموجودة في إقليم كاسينجاني الكونغولي.. مما أدى إلى حرمان الإسرائيليين من الحصول على خامات الألماس واليورانيوم التي كان يتم نقلها سراً بواسطة طائرات المهرب اليهودي الروسي الشهير فيكتور بوت التي كانت تذهب محملة بالأسلحة وتعود إلى إسرائيل محملة بخامات الألماس واليورانيوم من شرق زائير.
ملف إفريقيا الوسطى، قصد به محاكمة عناصر وزعماء حركة التمرد المناهضة للنظام الموالي لفرنسا، أما ملف إقليم دارفور، فقصد به كما هو واضح جملة من الأهداف، والتي أبرزها:
- إفشال تطبيق اتفاقية السلام السودانية، بما يؤدي إلى دفع الجنوبيين إلى خيار الانفصال  عن شمال السودان في الاستفتاء القادم في عام 2011م
- تعقيد الأوضاع في إقليم دارفور، بما يدفع الحكومة السودانية إلى القبول بمبدأ إعطاء حق تقرير المصير لسكان دارفور
- تعزيز قبضة واشنطن- باريس على منطقة دارفور.
- تصعيد الخلافات السودانية الداخلية.
- عزل السودان عن روابطه الإقليمية والدولية.
• المحكمة الجنائية الدولية: أبرز الشكوك والتساؤلات؟
من المعروف أن المحاكم الجنائية، هدفها الرئيسي هو نشر العدالة الجنائية ومعاقبة مرتكبي الجرائم الحقيقيين، ولكن على خلفية ازدواج المعايير، فإن المحكمة الجنائية الدولية الحالية من الصعب القول بأنها سوف تهدف إلى تحقيق هذا النوع من العدالة، وإنما من أجل القيام بدور سياسي دولي إقليمي، يهدف إلى تعزيز قدرة أمريكا وإسرائيل في استئصال خصومهما بالوسائل القانونية والجنائية.
تشير التحليلات إلى أن المحكمة الجنائية الدولية بشكلها الحالي لن تكون سوى وسيلة أمريكية- إسرائيلية يتم استخدامها من أجل تغيير الأنظمة السياسية واستبدالها بأنظمة أخرى.
وتشير التحليلات أيضاً إلى أن عمر البشير لن يكون الرئيس الوحيد الذي سيتم استهدافه بواسطة المحكمة الجنائية الدولية، فهناك الرئيس الفنزويلي هوغو تشافير، وهناك رئيس زمبابوي روبرت موغابي، وتقول المعلومات بأن ملفات المحكمة الجنائية الدولية القادمة ستتضمن الكثير من زعماء الميليشيات وحركات المقاومة المسلحة المناهضة لمحور واشنطن- تل أبيب.
• تقرير المحكمة المتوقع وأبرز ردود الأفعال:
سبق أن أعلن السودان عن رفضه الصريح تسليم اثنين من السودانيين الذين سبق وأن طالب تقرير المحكمة الأول بتسليمها.. والآن، فمن الواضح أن لا أحد يستطيع تسليم رئيس الجمهورية السوداني للمحكمة الدولية، ومن المؤكد بعد مرور فترة محددة ستقوم المحكمة الجنائية الدولية بتسليم تقريرها إلى مجلس الأمن الدولي، ومن المؤكد أن خلافاً كبيراً سينشأ داخل مجلس الأمن الدولي، والذي لن يستطيع فرض العقوبات ضد السودان أو استخدام القوة المسلحة ضد السودان، إلا إذا حصل الاقتراح الأمريكي على الأغلبية مع امتناع الصين وروسيا عن استخدام حق الفيتو.
وعلى ما يبدو، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع تمرير مشروع قراراتها بسهولة كما كان يحدث في الماضي، وقد بدأت بالأمس أولى الدلائل على ذلك. تبني روسيا والصين للمواقف المتشددة ضد النفوذ الأمريكي على مجلس الأمن، وذلك عندما واجهه الاقتراح الأمريكي بفرض العقوبات ضد زمبابوي فيتو مزدوج تم استخدامه في وقت واحد بواسطة روسيا والصين، وتشير التحليلات إلى أن الاستهداف الأمريكي عن طريق المحكمة الدولية لنظام البشير سببه سعي أمريكا لتقويض المصالح الصينية في إفريقيا، خاصة وأن السودان يعتبر الشريك الاقتصادي والتجاري الأول والرئيسي للصين في إفريقيا، وتأكيداً على ذلك فليس من المتوقع أن تتبجح الإدارة الأمريكية في تمرير أي مشروع قرار دولي يستهدف حكومة البشير في ظل وجود الصين في مجلس الأمن الدولي وتزايد المصالح الصينية في السودان.
وتشير التحليلات أيضاً إلى أن الخلافات الصينية- الأمريكية حول دارفور قد نشأت قبل عدة سنوات، وذلك عندما أرسلت الإدارة الأمريكية مبعوثاً خاصاً لدارفور، أعقبه قيام الحكومة الصينية بإرسال مبعوثاً خاصاً لدارفور، وقد حاول الرئيس بوش خلال لقاءه مع الرئيس الصيني هوجينتاو إقناعه بضرورة أن تتعاون بكين مع واشنطن في ملف دارفور، ولكن الطلب الأمريكي قوبل بالتحفظ الصيني الرافض.


الجمل: قسم الترجمة والدراسات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...