حنا مينه... حارس الشقاء والأمل
هل هي صدفة أن يقع بين يديّ كتاب تعريفي بالروائي الكبير حنا مينه، ثم في اليوم التالي أقرأ وصيته منشورة في الصحافة السورية، يطلب فيها ألا يذاع خبر موته، وألا يقام له حفل تأبيني، وألا يرثيه أحد، وأن يتركوا موته يمر بهدوء وسلام، ربما هي صدفة، مع أن الرجل ينتظر موته بفارغ الصبر منذ أمد ليس بالقصير، بعد قراءتي للوصية شعرت، ومن باب الاحترام الكبير لهذا المعلم، أن أقدم عرضاً لهذا الكتاب التعريفي من باب الرثاء أو التأبين المسبق، ذلك أني سأحترم موته جداً وسأحترم وصيته تلك.
ضمن سلسلة «أعلام الأدب السوري» الصادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية جاء هذا الكتاب لروائي غني عن التعريف، جمعه وقدّم له الكاتب نذير جعفر، وقد اختار أن يقسمه إلى ثلاثة فصول، تضمن الأول منها مقتطفات من حوارات أجريت معه، وتضمن الثاني مقتطفات من شهادات أدلى بها عدد من النقاد العرب، أما الفصل الثالث فقد كان عبارة عن مختارات مما كتبه حنا مينه.
- بلغ عدد الروايات التي كتبها حنا مينه حتى العام 2006 أربعاً وثلاثين رواية ومجموعتين قصصيتين، إحداهما مشتركة مع الدكتورة نجاح العطار وثمانية كتب أدبية، وقد استطاع من خلال روايتيه الأوليين «المصابيح الزرق / الشراع والعاصفة» أن يضع الرواية في مسارها الفني الأصيل بعدما كانت قبله مجرد تمارين مدرسية حسب تعبير الدكتور فيصل دراج، واستطاع أيضاً وحسب تعبير الناقد ذاته أن يخترق بجهده الدؤوب أجيالاً روائية سورية وبقي مسيطراً، فقد جاء هاني الراهب بـ «المهزومون / الوباء» ولم يخدش موقع حنا مينه، وأعطى حيدر حيدر «الزمن الموحش / وليمة لأعشاب البحر»، ولحقه نبيل سليمان في «مدارات الشرق»، وزامنه وليد إخلاصي الذي نقض الواقعية برواية تستلهم الرمز والأسطورة، وبقي صاحب «الطروسي» في موقعه. وفي لقاء معه في مجلة العربي العدد 508 مارس 2001 يتحدث حنا مينه عن علاقته بالبحر قائلاً:
«يقال إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمداً؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، إذا نادوا: يابحر! أجبت: أنا، البحر أنا.. إنه يتعمد بماء اللجّة لا بماء نهر الأردن على طريقة يوحنا!».
- من جانب آخر، نراه في «الكتابة هي الحياة» يبوح بآلامه: «لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة بشيء جوهري لديّ: هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس، أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فرض عليّ من قبل المجتمع فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى، فإن السياسة نقشت صورتها على أظفاري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكراً كيف أصعّد ألمي الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى مايريد أن يكون لا إلى مايراد له أن يكون». ولذلك نراه يشترط في أي روائي أن يكون له مفهومه الخاص عن الطبيعة والمجتمع تماماً كأي فيلسوف، لأنه ومن خلال هذا المفهوم تتصل الفلسفة بالفن وتتحالف معه، وهو يكاد يجزم أن هذا التحالف بين الفلسفة والفن شرط للتقدم، كما ورد في حوار معه (حاوره بدر الدين عرودكي 1970) وقد عرف عن حنا مينه تشبثه بالواقعية، فهو لا يساير «الموضة» ولا «يجرب». يكتب ما يعيشه ويعيش ما يكتبه، وفي رده حول هذه النقطة نقرأ له في (نزوى العدد 32/ 2002 ) قوله: «الواقعية في الإبداع هي غير الواقعية في الحياة.. والواقعية كمدرسة في التعبير الإبداعي تستوعب جميع المدارس الأدبية من الرمزية إلى التعبيرية، إلى الأسطورية إلى رواية اللارواية وبدعتها التي ظهرت في أوربا، وتسابق عليها بعض المبدعين العرب، وكذلك رواية الحداثة وما بعد الحداثة، إذ كل هذا مصدره الواقع مادياً كان أم معنوياً». ويستغرب الروائي حنا مينه ممن يقول أن الواقعية جافة مسطحة لا تعطي أدباً خلاقاً فمثل هؤلاء «المُضلَّلون المتوهمون» لا يستندون إلى الواقع إنما ينكرون ذواتهم لأن ذواتهم نفسها واقعية. فهم «مساكين يأخذون من الواقع وينكرون».
- وعن موقفه من المرأة، يورد الكتاب مقطعاً من حوار أجراه معه جان ألكسان في مجلة البيان الكويتية العدد 224 إذ يقول: «ارفعوا تمثالاً للمرأة.. كونوا من حضارة القرن العشرين.. فموقف الرجل من المرأة قضية حضارية، ولا عبرة بالشهادات الكبيرة، المهم هو الفهم التاريخي والاتساق معه. كفوا عن النرجسية بذكورتكم يا عناترة هذا الزمان».
أما الفصل الثاني من الكتاب، فقد اقتصر على شهادات قيلت في الروائي وسأقتصر منها على شهادتين، الأولى ما قاله الناقد غالي شكري في كتابه «الرواية العربية في رحلة العذاب» عالم الكتب ط-1 القاهرة 1970 حيث قال: «... إنما هو فنان واقعي بأرحب معاني الواقعية وأكثر صورها خصوبة وغنى، إنه يعاني الواقع بكل ذرات دمه، الواقع بأبعاده الخفية والظاهرة، الحية والمتطورة، ثم هو يعاني في نفس الوقت رؤيته لهذا الواقع بكل ما تشتمل عليه هذه الرؤية من تقليب لكافة وجهات النظر، ومحصلات المعرفة، وخبرات الثقافة، ثم هو يعاني أخيراً مشقة الوصول إلى همزة الوصل الواعية واللاواعية في صياغة جمالية واحدة نسميها بالإبداع الفني... لقد تجاوزت واقعيته عبر مراحل تطوره الآفاق الضيقة للواقعية التقليدية بمدلولها التقريري المباشر».. أما الشهادة الثانية فهي ما ذكرته الناقدة يمنى العيد في مجلة العربي العدد 585 / 2007 حيث قالت: «لقد كان للتجنيس الروائي الذي توسله حنا مينه في كتابة سيرة الطفل الذي كانه، وظيفة أخرى هي بناء المتواليات السردية بناء نقدياً، يظهر صراع الذات لا فقط مع ذاتها، بل أيضاً وبشكل أساسي، مع محيطها ومجموعة القيم الظالمة. وبذلك كان للتجنيس الروائي دوراً أوسع من حكاية سيرة طفل، هو هدم المحرمات والمسلمات التي تحول دون قول الحقيقة، وكشف معنى القمع، وعواقبه، القمع الذي تمارسه أكثر من سلطة هي في الثلاثية سلطة الأب وسلطة المختار، وسلطة القيم العفنة، وسلطة الفقر والجهل، وسلطة الغيبيات، وسلطة ذوي النفوذ على تعدد مستوياتهم».
عبد الرحمن حلاق
المصدر: أوان
إضافة تعليق جديد