المصلحة في الشريعة الإسلامية
أعلم أن أدلة الشرع تسعةعشر بابا بالاستقراء،أولها الكتاب، وثانيها السنة، وثالثها إجماع الأمة، ورابعها إجماع أهل المدينة، وخامسها القياس، وسادسها قول الصحابي، وسابعها المصلحة المرسلة، وثامنها الاستصحاب، وتاسعها البراءة الأصلية، وعاشرها العادات، الحادي عشر بالاستقراء، الثاني عشر سد الذرائع، الثالث عشر الاستدلال، الرابع عشر الاستحسان، الخامس عشر الأخذ بالأخف، السادس عشر العصمة، السابع عشر إجماع أهل الكوفة، الثامن عشر إجماع العترة عند الشيعة، التسع عشر إجماع الخلفاء الأربعة، وبعضها مختلف فيه، ومعرفة حدودها ورسومها والكشف عن حقائقها وتفاصيل مذكور في أصول الفقه.
ثم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا ضرر ولا ضرر " يقتضي رعاية المصالح إثباتاً ونفياً والمفاسد نفياً إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما، وهذه الأدلة التسعة عشر أقوالها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة
أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت ولا تنازع، إذا قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي : النص، والإجماع، ورعاية المصلحة، المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام « لا ضرر ولا ضرار »
وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان، وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضرراً ولا مفسدة بالكلية، أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئاً من ذلك فهما موقوفان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضرراً، فإما أن يكون مجموع مدلولهما ضرراً ولا بد أن يكون من قبيل ما استثنى من قوله السلام عليه « لا ضرر ولا ضرار » جمعاً بين الأدلة، ولعلك تقول إن رعاية المصلحة المستفادة من قوله
عليه السلام: « لا ضرر ولا ضرار » لا تقوى على معارضة الإجماع لتضي عليه بطريق التخصيص والبيان لأن الإجماع دليل قاطع، وليس كذلك رعاية المصلحة، لأن الحديث الذي دل عليها واستفدت
منه ليس قاطعاً فهو أولى، فنقول لك إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها
من أدلة الشرع لأن الأقوى من الأقوى، أقوى ويظهر ذلك من الكلام في المصلحة والإجماع.
أما المصلحة فالنظر: في لفظها، وحَدِّها، وبيان اهتمام الشرع بها، وأنها مبرهنة، أما لفظها فهو
مفْعَلة من الصلاح، وهو كون الشيء على هيئة كاملة بحسب ما يراد ذلك الشيء له كالقلم يكون على
هيئة المصلحة للكتابة، والسيف على هيئة المصلحة للضرب.
وأما حدّها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبدة أو عادة، ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات، وإلى ما لا يقصده الشارع لحقه كالعادات.
وأما بيان اهتمام الشرع بها فمن جهة الإجمال والتفصيل، أما الإجمال فقوله عز وجل :
( يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) الآتيين ودلالتهما من وجوه:
أحدها قوله عز وجل « قد جاءتكم موعظة »حيث إنه توعدهم وفيه أكبر صالحهم إذ في الوعظ كفُّهم عن الأذى، وإرشادهم إلى الهدى؛ الثاني: وصف القرآن أنه « شفاء لما في الصدور » يعني من شك ونحوه وهو مصلحة عظيمة: الثالث: وصفه بالهُدَى؛ الرابع: وصفه بالرحمة، ولا يصدر عنهما إلا مصلحة عظيمة؛ السادس: الفرح بذلك لقوله عز وجل: « فبذلك فليفرحوا » وهو في معنى التهنئة لهم بذلك، والفرح والتهنئة إنما يكونان لمصلحة عظيمة؛ السابع قوله عز وجل : « وهو خير مما يجمعون » والذي يجمعونه هو مصالحهم. فالقرآن ونفعه أصلح من مصالحهم، والأصلح من المصلحة غاية المصلحة.
فهذه سبعة أوجه من هذه الآية تدل على أن الشرع راعي مصلحة المكلفين واهتم بها، ولو استقرأت النصوص لوجدت على ذلك أدلة كثيرة.
فإن قيل لم يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص والإجماع دليلاً لهم على معرفة الأحكام؟ قلما هو كذلك، ونحن نقول به في العبادات. وحيث وافق المصلحة في غير المصلحة في غير العبادات، وإنما ترجح رعاية المصالح في المعاملات ونحوها، لأن رعايتها في ذلك هو قطب مقصود الشرع منها، بخلاف العبادات فإنها حق الشرع، ولا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصاً وإجماعاً.
وأما التفصيل ففيه أبحاث.
- البحث الأول :
في أن أفعال الله عز وجل معللة أم لا؟ حجة المثيت أن فعلاً لا علة له عيث، والله عز وجل منزه عن العبث، ولأن القرآن مملوء من تعليل الأفعال نحو « لتعلموا عدد السنين والحساب » ونحوه،
وحجة النافي أن كل من فعل فعلاً لعلة فهو مستكمل بتلك العلة ما لم يكن قبلها فيكون ناقصاً بذاته
كاملاً بغيره، والنقص على الله عز وجل محال، وأجيب عنه بمنع الكلية، فلا يلزم ما ذكروه إلا في
حق المخلوقين، والتحقيق أن أفعال الله عز وجل معللة بحكم غائبة بنفع المكلفين وكمالهم، لا بنفع الله
عز وجل لاستغنائه بذاته عما سواه.
- البحث الثاني :
أن رعاية المصالح تفَضُّلٌ من الله عز وجل على خالقه عند أهل السنة، واجبة عليه عند المعتزلة، حجةُ الأولين أن الله عز وجل متصرف في خلقه بالملك، ولا يجب له عليه شيء، ولأن الإيجاب يستدعي موجباً أعلى، ولا أعلى من الله عز وجل يوجب عليه، حجة الآخرين أن الله عز وجل كلف خلقه بالعبادة فوجب أن يراعي مصالحهم، إزالة لعللهم في التكليف، وإلا لكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق أو شبيهاً به، وأجيب عنه بأن هذا مبنى على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل عند الجمهور.
والحق أن رعاية المصالح واجبة من الله عز وجل، حيث التزم التفضل بها لا واجبة عليه كما في آية « إنما التوبة على الله » فإن قبولها واجب منه لا عليه وكذلك الرحمة في قوله عز وجل « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ونحو ذلك.
- البحث الثالث:
في أن الشرع حيث راعي مصالح الخلق،هل راعاها مطلقاً، أو راعي أكملها في بعض
وأسفلها في بعض أو أنه راعي منها في الكل ما يصلحهم وينتظم به حالهم؟ الأقسام كلها ممكنة.
- البحث الرابع:
في أدلة رعاية المصلحة على التفصيل، وهي من الكتاب، والسنة والإجماع، والنظر، ولنذكر
من كل منها يسيراً على وجهة ضرب المثال، إذ استقصاء ذلك بعيد المنال.
أما الكتاب فنحو قوله تعالى: «ولكم في القصاص حياة. والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة» . وهو كثير، ورعاية مصلحة الناس في نفوسهم
وأموالهم وأعراضهم مما ذكرناه ظاهر، وبالجملة فما من آية من كتاب الله عز وجل، إلا وهي تشتمل
على مصلحة أو مصالح كما في غير هذا الموضع.
وأما السنة فنحو قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يبع خاصر
لباد، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) وهذا نحوه في السنة
كثير، لأنها بيان الكتاب، وقد بيناً اشتمال كل آية منه على مصلحة، والبيان على وفق المبين.
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء إلا من لا يعتد به من جامدي الظاهرية على تعليل الأحكام بالمصالح المرسلة، وفي الحقيقة الجميع قائلون بها، حتى المخالفون في كون الإجماع حجة قالوا بالمصالح، ومن
ثم علل وجوب الشفعة برعاية حق الجار وجواز السلم والإجارة بمصلحة الناس مع مخالفتهما للقياس،
إذ هما معاوضة على معدوم وسائر أبواب الفقه ومسائله فيما يتعلق بحقوق الخلق لعلل المصالح.
وأما النظر فلا شك عند كل ذي عقل صحيح، أن الله عز وجل راعي مصلحة خلقه عموماً وخصوصاً، أما عموماً ففي مبدئهم ومعاشهم، أما المبدأ فحيث أوجدهم بعد العدم على الهيأة التي ينالون بها مصالحهم في حياتهم، ويجمع ذلك قوله عز وجل « يأيها الإنسان ماغرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك » وقوله عز وجل : « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » وأما المعاش فحيث هيأ لهم أسباب ما يعيشون به ويتمتعون به من خلق السموات والأرض وما بينهما وجميع ذلك في قوله عز وجل : « ألم نجعل الأرض مهاداً، إلى قوله: إن يوم الفصل كان ميقاتاً» وفي قوله عز وجل : « فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صبيناً الماء صبا » إلى قوله عز وجل « متاعاً لكم ولأنعامكم ».
وأما خصوصاً فرعاية مصلحة العباد السعداء حيث هداهم السبيل، ووفقهم لنيل الثوابت الجزيل،
في خير مقيل.
وعند التحقيق إنما راعي مصلحة العباد عموماً، حيث دعا الجميع إلى الإيمان الموجب لمصلحة العباد، لكن بعضهم فرط بعدم الإجابة بدليل قوله عز وجل: « وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى » تحرير هذا المقام، أن الدعاء كان عموماً والتوفيق المكمل للمصلحة، المصحح لوجودها، كان خصوصاً، بدليل قوله عز وجل: « والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم »
فدعا عاماً، وهدى ووفق خاصاً.
إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبداهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضاً من مصلحة معاشهم، لأنها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ولا معاش لهم بدونها، فوجب القول بأنه راعاها لهم. وإذا ثبت وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام . وإن خالفها دليل شرعي، وفق بينه وبينها بما الشرع بها وأدلته.
« ثم قال الطوفي بعد بيانه الإجماع وأدلته ومعارضتها »:
ومما يدل على تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع على الوجه الذي ذكرناه وجوه.
- أحدها: أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح، فهي إذاً محل وفاق والإجماع محل الخلاف، والتمسك بما اتفقوا عليه أولى من التمسك بما اختلفوا فته.
- الوجه الثاني: إن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعاً،
ورعاية المصلحة أمر متفق في نفسه الله عز وجل: « واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شتى » وقوله عليه الصلاة والسلام : « لا تختلفوا فتختلف قلوبكم » وقال عز وجل في مدح الاجتماع : «وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً وما ألفت بين
قلوبهم ولكن الله ألف بينهم» وقال عليه الصلاة والسلام : « وكونوا عبد الله إخواناً ».
- الوجه الثالث: قد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح ونحوها في قضايا، منها:
معارضة ابن مسعود النص والإجماع، بمصلحة الاحتياط للعبادة كما سبق، ومنها قوله عليه السلام
حين فرغ من الأحزاب : « لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» فصلى أحدهم قبلها وقالوا
لم يرد منا ذلك وهو شبيه بما ذكرنا.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : « لولا قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة
وبنيتها على قواعد إبراهيم » وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها،
فتركه لمصلحة الناس.
ومنها أنه عليه السلام لما أمرهم بجعل الحج عمرة، قالوا كيف وقد سمينا الحج، وتوقفوا،
وهو معارضة للنص بالعادة، وهو شبيه بما نحن فيه.
وكذلك يوم الحديبية، لما أمرهم بالتحليل توقفوا، تمسكا بالعادة في أن أحداً لا يحل
قبل قضاء المناسك، حتى غضب صلى الله عليه وسلم وقال: « مالى آمر بالشيء فلا يفعل»
ومنها ما روى أبو يعلى الموصلى في مسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أب بكر ينادى: « من قال لا إله إلا الله دخل الجنة » فوجده عمر فرده وقال: إذاً يتكلوا، وكذلك رد عمر أبا هريرة عن
مثل ذلك في حديث صحيح، وهو معرضة لنص الشرع بالمصلحة، فكذلك من قدم رعاية مصالح المكلفين على باقي أدلة الشرع، يقصد بذلك إصلاح شأنهم، وانتظام حالهم، وتحصيل ما تفضل الله به عليهم
من الصلاح، وجمع الأحكام من التفرق وائتلافها عن الاختلاف. فوجب أن يكون جائزاً إن لم يكن
متعيناً، فقد ظهر بما قررناه، أن دليل رعاية المصالح، أقوى من دليل الإجماع، فليقدم عليه وعلى غيره
من أدلة الشرع، عند التعارض بطريق البيان.
فإن قيل حاصل ما ذهبتم غليه تعطيل أدلة الشرع بقياس مجرد، وهو كقياس إبليس، فاسد الوضع والاعتبار، قلنا: وَهَمُ واشتباه، من نائم بعد الانتباه، وإنما هو تقديم دليل شرعي على أقوى منه، وهو دليل الإجماع على وجوب العمل، بالراجح كما قدمتم انتم الإجماع على النص، والنص على الظاهر،
وقياس إبليس وهو قوله: « أنا خير منه خلقني من نار وخلقته من طين » لم يقم عليه ما قام على رعاية المصالح من البراهين، وليس هذا من باب فساد الوضع، بل من باب تقديم رعاية المصالح كما ذكرنا.
فإن قيل الشرع أعلم بمصالح الناس وقد أوعها أدلة الشرع وجعلها أعلاماً عليها يعرف بها، فترْكُ أدلته لغيرها مراغمة ومعاندة له، قلنا: أما كون الشرع أعلم بمصالح المكلفين فنعم، أما كون ما ذكرناه من رعاية المصالح تركا لأدلة الشرع بغيرها فممنوع، بل إنما تترك أدلته بديل شرعي راجح عليها، مستند إلى قوله عليه الصلاة والسلام « لا ضرر ولا ضرار » كما قلتم في تقديم الإجماع على غيره من الأدلة، ثم أن الله عز وجل، جعل لنا طريقا إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مهم، يحتمل أن يكون طريقا إلى مصلحة، ويحتمل أن لا يكون.
فإن قيل خلاف الأمة في مسائل الأحكام رحمة وسعة، فلا يحويه حصر بحكم في جهة واحدة،
لئلا يضيق عليهم مجال الاتساع، قلنا: هذا الكلام ليس منصوصاً عليه من جهة الشرع حتى يمتثل، ولو
كان لكان مصلحة الوفاق أرجح من مصلحة الخلاف فتقدم، ثم ما ذكرتموه من مصلحة الخلاف
بالتوسعة على المكلفين معارض بمفسدة تعرض منه، وهو أن الآراء إذا اختلفت وتعددت اتبع بعض
الناس رخص المذاهب، فأفضى إلى الانحلال والفجور، أيضاً فإن بعض أهل الذمة ربما أراد الإسلام
فتمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء، لأن الخلاف منفور عنه بالطبع، ولهذا قال عز وجل: « الله نزل
أحسن الحديث كتاباً متشابهاً » أي يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضا، لا يختلف إلا بما فيه من المتشابهات، وهي ترجع إلى المحكمات بطريقها، ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام « لا ضرر ولا ضرار » على ما تقرر لا تحد طريق الحكم وانتفي الخلاف.
فإن قيل هذه الطريقة التي سلكتها، إما أن تكون خطأ فلا يلتفت إليها، أو صواباً فإما أن ينحصر الصواب فيها، أولاً، فإن انحصر، لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ، إذ لم يقل بها أحد منهم، وإن لم ينحصر فهي طريقة جائرة من الطرق، ولكن طريق الأئمة التي اتفقت الأمة على إتباعها أولى بالمتابعة لقوله عليه الصلاة والسلام « اتبعوا السواد الأعظم فإن من شذ شذ في النار ».
فالجواب أنها ليست خطأ لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعاً، بل
ظناً واجتهاداً، وذلك يوجب المصير إليها، إذا الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها. وما يلزم على هذا
من خطأ الأمة فيما قبله، لازم على رأي كل ذي قول، أو طريقة انفرد بها، غير مسبوق إليها،
والسواد الأعظم الواجب إتباعه هو الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم
لأن العامة أكثر، وهو السواد الأعظم.
وأعلم أن هذه الطريقة هي التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور، ليست
هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب غليه مالك، بل هي ابلغ من ذلك، وهي التعويل على
النصوص والإجماع في العبادات، والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات، وباقي الأحكام.
وتقرير ذلك أن الكلام في أحكام الشرع، إما أن يقع في العبادات والمقدرات ونحوها، أو في المعاملات والعادات وشبهها، فإن وقع في الأول، اعتبر فيه النص والإجماع ونحوهما من الأدلة.
غير أن الدليل على الحكم إما أن يتحد، أو يتعدد، فإن اتحد مثل إن كان فيه آية، أو حديث، أو قياس، أو غير ذلك، ثبت به، وإن تعدد لدليل مثل إن كان آية وحديثاً واستصحاباً ونحوه، فإن اتفقت الأدلة على إثبات أو نفي ثبت بها. وإن تعارضت فيه، فإما تعارضا يقبل الجمع أو لا يقبله، فإن قبل الجمع جمع بينهما، لأن الأصل في أدلة الشرع الإعمال لا الإلغاء، غير أن الجمع بينهما يجب أن يكون بطريق قريب واضح، لا يلزم منع التلاعب ببعض الأدلة،وإن لم يقبل الجمع فالإجماع مقدم على ما عداه من الأدلة التسعة عشر، والنص مقدم على ما سوى الإجماع، ثم إن النص منحصر في الكتاب والسنة، ثم لا يخلو إما أن ينفرد بالحكم أحدهما أو يجتمعا فيه، فإن أنفرد به أحدهما فإما الكتاب أو السنة، فإن أنفرد به الكتاب، فإما أن يتحد الدليل أو يتعدد، فإن اتحد بأن كان في الحكم آية واحدة عمل بها، إن كانت نصاً أو ظاهراً فيه، وإن
كانت مجملة، فإن كان أحد احتماليها أو احتمالاتها أشبه بالأدب مع الشرع، عمل به وكان ذلك كالبيان.
وإن استوى احتمالاها في الأدب مع الشرع جاز الأمران، والمختار أن يتعبد بكل منهما مرة.
وإن لم يظهر وجه الأدب وقف الأمر على البيان.وإن تعدد لدليل من الكتاب فإن كان في الحكم منه آيتان أو أكثر، فإن اتفق مقتضاهن فكالآية الواحدة، وإن اختلف، فإن قبل، الجمع جمع بينهن بتخصيص أو تقييد أو نحوه، وإن لم يقبل الجمع، فغن علم نسخ بعضها بعينه فيها، وإلا فالمنسوخ منهما مبهم فليستدل عليه بموافقة السنة غيره، إذ السنة بيان الكتاب، وهي إنما تبين صح عمل به كالآية الواحدة، إن لم يصح لم يتعمد عليه، وأخذَ الحكم من الكتاب إن وجد، وإلا فمن الاجتهاد إن ساغ، مثل أن يعمل بما هو أشبه بالأدب مع الشرع وتظعيم حقه وإن لم يسغ فيه الاجتهاد، وقف على البيان.
وإن كان فيه أكثر من حديث، فإن صح جميعها، فغما أن تتساوى في الصحة أو تتفاوت، فإن تساوت في الصحة، فإن اتفق مقتضاها، فكالحديث الواحد، وإن اختلفت، فإن قبلت الجمع، جمع بينها، وإلا فبعضها منسوخ، فإن تعين، وإلا استدل عليه بموافقة الكتاب أو الإجماع غيره، أو بغير ذلك من الأدلة.
وإن لم تصح جميعها، فإن كان الصحيح منها واحداً، فكما لم يكن في الحكم إلا حديث
واحد، فإن كان الصحيح أكثر من واحد، فإن اتفقت عمل بها، وإن اختلفت، جمع بينها
إن أمكن الجمع، وإلا فبعضها منسوخ كما سبق فيما إذا كان جميع الأحاديث صحيحاً.
وإن تفاوتت في الصحة، فإن كان بعضها أصح من بعض، فإن اتفق مقتضاها فلا إشكال،
كالحديث الواحد، وإن تعارضت، فإن قبلت الجمع جمع بينها، وإن لم تقبله قدم الأصح فالأصح.
ثم إن اتحد الأصح عمل به، وإن تعدد فإن اتفق فكالحديث الواحد، وإن تعارض، جمع بينه إن قبل الجمع، وإلا فبعضه منسوخ معين أو مبهم، يستدل عليه بما سبق، وإن اجتمع في الحكم كتاب وسنة، فإن اتفقا عمل بهما، وأحدهما بيان للآخر أو مؤكد له، وإن اختلفا، فإن أمكن الجمع بينهما جمع، وإن لم يكن فإن اتجه نسخ أحدهما بالآخر نسخ به، وإن لم يتجه فهو محل نظر وتفصيل، والأشبه تقديم الكتاب، لأنه الأصل الأعظم ولا يترك بفرع هذا تفصيل القول في أحكام العبادات. أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فيها ونعمت، كما اتفق النص والإجماع والمصلحة، على إثبات الأحكام الخمسة الكلية الضرورية، وهي: قتل القاتل، المرتد، وقطع السارق، وخذ القاذف، والشارب، ونحو ذلك من الأحكام التي وافقت فيها أدلة الشرع المصلحة،وإن اختلفا، فأن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جمع، مثل أن يحمل بعض الأدلة على بعض الأحكام والأحوال، دون بعض على وجه لا يخل بالمصلحة، ولا يفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها، وإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم: « لا ضرر ولا ضرار » وهو خاص في نفي الضرر المستلزم لرعاية المصلحة فيحب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام وباقي الأدلة كالوسائل، والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل.
ثم إن المصالح والمفاسد قد تتعارض فيحتاج إلى ضابط يدفع محذور تعارضها فنقول:
كل حكم نفرضه، فإما أن تتمحض مصلحته، فإن أتحدث، بأن كان فيه مصلحة واحدة حصلت.
وإن تعددت بأن كان فيها مصلحتان ومصالح، فإن أمكن تحصيل جميعها حصل، وإن لم يمكن
حصل الممكن، فإن تعذر تحصيل ما زاد على المصلحة الواحدة، فإن تفاوتت المصالح في الاهتمام بها، حصل الأهم منها وإن تساوت في ذلك، حصلت واحدة منها بالاختيار، إلا أن يقع منها تهمة فبالقرعة.
وإن تمحضت مفسدته، فإن اتحدت دفعت، وإن تعددت فإن أمكن درء جميعها درئت، وإن تعددت
درئ منها الممكن، فإن تعذر درء ما زاد على مصلحة واحدة، فإن تفاوتت في عظم المفسدة دُفع
أعظمها، وإن تساوت في ذلك فبالاختيار أو القرعة أن اتجهت التهمة.
إن اجتمع فيه الأمران، المصلحة المفسدة، فإن أمكن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة
تعين، وإن تعذر فعل الأهم من تحصيل أو دفع، إن تفاوتا في الأهمية وإن تساويا فبالاختيار أو
القرعة، إن اتجهت التهمة.
وإن تعارض مصلحتان أو مفسدتان، أو مصلحة أو مفسدة، وترجح كل واحد من الطرفين، من وجه دون وجه، اعتبرنا ارجح الوجهين تحصيلاً أو دفعاً فإن استويا في ذلك عدنا إلى الاختيار أو القرعة.
فهذا ضابط مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: « لا ضرر ولا ضرار » يتوصل به إلى أرجح الأحكام غالباً، وينتفي به الخلاف بكثرة الطرق والأقوال.
مع أن في اختلاف الفقهاء فائدة عرضت خارجة عن المقصود، وهي معرفة الحقائق التي
تتعلق بالأحكام وأعراضها ونظائرها، والفروق بينها، وهي شبيهة بفائدة الحساب من جزالة الرأي.
وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها، لأن العبادات حق
الشرع، خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمّا وكيفا، وزماناً ومكاناً إلا من جهته، فيأتي به العبد على
ما رسم له، ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعاً خادماً له، إلا إذا امتثل ما رسم له سيده، وفعل ما يعلم أنه يرضيه، فكذلك ههنا، ولهذا لمّا تعبدت الفلاسفة بعقولهم، ورفضوا الشرائع، أسخطوا الله عز وجل
وضلوا وأضلوا، وهذا بخلاف حقوق المكلفين، فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم،
وكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول.
ولا يقال أن الشرع أعلم بمصالحهم، فلتؤخذ من أدلته : لأنا نقول: قد قررنا أن المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقولها وأخصها، فلنقدمها في تحصيل المصالح.
ثم هذا إنما يقال في العبادات التي تخفي مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا دليل الشرع متقاعداً عن إفادتها، علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على رعايتها، كما أن النصوص لما كانت لا تفي بالأحكام، علمنا أنا أحلنا بتمامها على القياس، وهو إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بجامع بينهما، والله عز وجل أعلم بالصواب.
بحث أصولي كتبه نجم الدين الطوفي المتوفي سنة 716
يرى فيه تقديم المصلحة على النص في المعاملات
عبد العزيز المراغي
من مختارات الجمل
إضافة تعليق جديد