«التفسير المأثور»:الاصطلاح والمشكلات والمسارات نحو مجالات العلوم
يتداول الباحثون في علوم القرآن ومناهج المفسرين اصطلاح «التفسير بالمأثور» للتعبير عن النمط السائد في تفاسير المتقدمين، والمعتمد على المأثورات والمرويات في مجال التفسير، وقد درج هذا الاصطلاح المركب بعد استخدام السيوطي (ت911هـ) له في أشهر كتبه المعتمدة على هذا المنهج وهو تفسيره الموسوم بـ «الدر المنثور في التفسير المأثور»، ولا نجد استعمالاً لهذا الاصطلاح قبل السيوطي في ما تتبعناه، على رغم استعمال المتقدمين كلمة «المأثور» كتعبير عما أضيف إلى السنّة أو السلف، وغالباً ما تذكر في الدعاء أو وصف الأفعال، أما كوصف خاص مضاف إلى التفسير فلم ترد، لكننا نجد مركباً أدل على المقصود وهو «التفسير النقلي»، ولعل أول من استعمله ابن خلدون (ت 808هـ)، في مقدمته، واعتبره أحد نوعي التفسير ووصفه بقوله: «تفسير نقلي مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي. وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين. وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود».
وضبط المتأخرون مشمولات التفسير المأثور بأنها ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نُقل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وما نُقِل عن الصحابة والتابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم، وقد انتشر هذا التعريف من خلال الكتاب الأهم في هذا المجال وهو «التفسير والمفسرون» للمرحوم الدكتور محمد حسين الذهبي الذي أصبح كل كتاب في مناهج المفسرين عالة عليه، وقد انتقد هذا التعريف بأن تفسير القرآن بالقرآن لا نقل فيه حتى يكون طريقه الأثر، بل هو داخل ضمن تفسير من فسر به، فكل من فسر آية بآية فإن هذا التفسير ينسب إليه، وبالتالي فاعتماد بعض القرآن في تفسير بعضه الآخر هو اجتهاد في الربط بين الآيات، فإن كان ظاهراً في نفس النص فهو واضح لا يحتاج إلى تفسير، وإن كان بين نصين في مكانين وتم الربط بينهما فهي عملية تفسيرية قد ترجع إلى السنّة أو إلى من قام بهذا الربط من الصحابة أو من بعدهم، وبالتالي فتفسير القرآن بالقرآن هو أداة في التفسير وليس مصدراً مأثوراً. وكذلك انتقد التعريف بعدم إلحاق تابعي التابعين في تعريف التفسير المأثور، وقد حفلت كتب التفسير بها، ولعل المانع من إدخالهم في التعريف هو عدم إلحاقهم بالمكانة الخاصة للتفسير المأثور عن الرسول والصحابة والتابعين، بل إن الخلاف وارد في تفاسير الصحابة والتابعين أنفسهم.
فينبغي أن يشمل اصطلاح التفسير بالمأثور ما ورد في هذه الكتب من أقوال المتقدمين، لاسيما ممن هم قبل عصر التدوين، سواء كانوا من التابعين أم تابعيهم، وذلك لاعتبار منهجي وصفي، أما قضية الموقف من المأثور فهي قضية أعمق من أن يعمم الحكم فيها على قبول هذا النمط أو عدمه، فمشكلات التفسير المأثور متعددة وشاملة لكل جوانبه، فما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) من تفسير إنما يخضع لقواعد النقد سنداً ومتناً كما هو معلوم في علم المصطلح، وفي حال الصحة يخضع ربط السنّة بالقرآن إلى الاجتهاد أيضاً ما لم يكن النص صريحاً، فثمة فارق بين أن يتضمن كلام الرسول ربطاً مع الآية وبين أن يوجد هذا الربط من المفسر باجتهاده، وفي هذه الحال قد لا يكون الربط دقيقاً أو صريحاً، وكذلك الشأن بالنسبة الى ما ورد عن الصحابة وبعد صحة النسبة قد يكون القسم الأكبر منه من قبيل اجتهاد الصحابي في التفسير، ومن باب أولى أن يقال ما ذكر في شأن التابعي.
وبالتالي ينبغي ألا يعمم الحكم بتفضيل التفسير المأثور، إنما يرتبط ذلك بحسب الأثر لجهة صحته وقائله، وتناسبه مع النص المفسر، وإذا كان الأمر كذلك فإن اصطلاح «التفسير بالمأثور» إنما هو تصنيف شكلي لنمط من أنماط التأليف في علم التفسير، وبديهي أن يقال أنه ينبغي على المفسر أن يبدأ به، لكن ذلك لا يعني أن ينتهي إليه، فالبداية به من باب التأريخ العلمي للتفسير ونسبة القول إلى أول قائل به، وهذا شرط علمي في كل ميدان، لكن المفسر قد يصل إلى خلافه بناء على معطيات علمية ترتبط بأصول التفسير وقواعده.
ومما يعزز هذا الحكم ما يكتنفه التفسير المأثور من مشكلات جعلت المتقدمين يقللون من أهميته وما صح منه، نظراً الى ما طرأ من ضعف في رواية التفسير المأثور ترجع إلى كثرة الوضع في التفسير، وقد بدأ مع الوضع في الحديث قبل منتصف القرن الهجري الأول، وكان الوضع في التفسير على الصحابة أكثر، لا سيما على علي وابن عباس لمكانتهما العلمية والاجتماعية والسياسية، ومما زاد التفسير ضعفاً دخول الإسرائيليات فيه لدواع متعددة، لاحظ منها ابن خلدون في مقدمته شوق العرب إلى بعض المعلومات التفصيلية، من أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، وتفصيل الأحداث الكبرى في تاريخ الإنسانية الأولى، نظراً الى بداوتهم وأُميِّتهم، وقلَّة المتداول بينهم منه، فكان من وراء ذلك كثرة الإسرائيليات، وقد عزز الوضع في التفسير وانتشار الإسرائيليات حذف الأسانيد المتعمد أحياناً، والذي أدى إلى اختلاط الصحيح بالضعيف وفقد الثقة بكثير من المرويات لدى اللاحقين، أو النظر إلى جميع ما رُوِي بعين واحدة، فيحكم على الجميع بالصحة، وتصور التناقض لدى المفسرين الذين تنسب إليهم أقوال متناقضة في المسألة الواحدة، وهذا ما حصل مع «جولدزيهر» الذي أظهر ابن عباس بمظهر الشخص الذي يناقض نفسه في الكلمة الواحدة أو الموضوع الواحد.
لكن هذا التفسير الموضوع – كما يشير الذهبي- إن كان موضع نقد من ناحيته الإسنادية، فإنه لا يخلو من قيمته العلمية، لأنه مهما كثر الوضع في التفسير فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها، أما التفسير في حد ذاته فليس دائماً أمراً خيالياً بعيداً من الآية، وإنما هو - في كثير من الأحيان - نتيجة اجتهاد علمي له قيمته، فمثلاً مَنْ يضع في التفسير شيئاً وينسبه إلى عليّ أو إلى ابن عباس، لا يضعه على أنه مجرد قول يلقيه على عواهنه، وإنما هو رأي له، واجتهاد منه في تفسير الآية، بناه على تفكيره الشخصي، وكثيراً ما يكون صحيحاً، غاية الأمر أنه أراد لرأيه رواجاً وقبولاً، فنسبه إلى مَنْ نُسِب إليه من الصحابة. ومن هذا الملحظ يمكن توجيه ثناء الإمام الشافعي وغيره على تفسير مقاتل الذي لم يوثقه أحد بل تركوا حديثه، وهذا أيضا ً ما جعل المفسرين يتناقلون الأقوال المأثورة بغض النظر عن صحتها، إذ أهم ما يعول عليه فيها هو قيمتها العلمية الذاتية.
وأول ما عُرف من التفسير بالمأثور بعد أن انفصل التفسير عن الحديث، وأُفرد بتأليف خاص، الصحيفة التي رواها عليّ بن أبى طلحة عن ابن عباس، ثم وجُد من ذلك جزء أو أجزاء دُوِّنت في التفسير خاصة، مثل الجزء المنسوب لأبى رَوق، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.
ثم وُجِدَت بعد ذلك موسوعات من الكتب المؤلَّفة في التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وتابعيهم، وأجمع التفاسير المسندة للمأثور عن النبي (صلى الله عليه وسلم) والسلف هي تفاسير: ابن جرير، وابن المنذر، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. فهذه التفاسير الأربعة-كما قال ابن حجر عنها- قلَّ أن يشذ عنها شيء من التفسير المرفوع والموقوف على الصحابة والمقطوع عن التابعين. وأما التفاسير غير المسندة فكتاب السيوطي (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) يعتبر أجمع الكتب لتلك الروايات.
وتجدر الإشارة هنا إلى نمطين من المؤلفات التي تدرج ضمن التفسير المأثور، النمط الأول هو النمط الذي لا يقصد أكثر من الرواية والسرد، من دون أن يتدخل في توظيف هذه المرويات وتوجيهها في بيان المعنى، والنمط الثاني هو الذي يسرد المرويات ليصل من خلال نقاشها إلى المعنى الذي يبحث عنه المفسر، فنجده يرجح وينقد ويوجه، بل ويرفض ما أورده من مأثورات معتمداً على عناصر أخرى في التفسير كاللغة والسياق وغيرها، وهذا ما يتميز به تفسير الإمام الطبري الذي لم يلحظ فيه ابن خلدون هذه الناحية واعتبره من سياق كتب الرواية وما فيها من عيوب، وقد ميز بعض المعاصرين هذا النوع الثاني باسم خاص سماه «التفسير الأثري»، وهو يطابق عملياً التفسير بالرأي، الذي جُعل مقابل «التفسير المأثور»، إذ لا يخلو كتاب منها من الاعتماد على المأثور وتوظيفه في الفهم.
التأمل في الخطاب القرآني المتعلق بالنظر والمعرفة كموجه ومرشد يبرز الآفاق الرحبة التي لا حدود لها في الحث على المعرفة والتأمل في الآفاق والأنفس، بل وفي النص نفسه وتدبر كلماته وآياته، وفي ذلك إشارة صريحة إلى وجوب البحث، مع الإقرار باستحالة انسداد آفاقه سواء في النص أم في الكون، ففيهما أسرار إلهية ومعان وسنن جعلها الله منارات يصل من خلالها الإنسان إلى المعرفة والقوانين التي أقام الله الحياة على أساسها، من هذا المنطلق القرآني تحركت المعرفة في سياقها الحضاري الإسلامي، منضبطة بالقيم والمحفزات القرآنية من دون أن تكون أسيرة لنصه أو متعسفة في البحث فيه عما أرشد إلى وجوده في غيره.
وسارت الحضارة الإسلامية وتعاقبت طبقات التاريخ بين مد وجزر إلى أن آلت إلى مراحل تراجعت فيها المعرفة، من دون أن تنهار العلاقة القدسية مع النص، لكن هذه العلاقة أخذت النص إلى مسار مختلف لم يأت من أجله، فجعلت منه كتاباً يحوي كل العلوم، واتجه التأويل لاستخراج العلوم منه دون لحظ طبيعة النص وخصائصه والرسالة التي جاء من أجلها، فحل الإسقاط على النص محل الاستمداد منه، وتم الأمر نفسه لدواع أخرى مذهبية أو سياسية أو غيرها، بوعي أو من دونه، لكن هذا الإسقاط المتنوع المظاهر والدواعي لا يلغي وجود صلة ما بين النص وبين المجالات التي تم ربطه بها، على أن هذه الصلة ينبغي أن تؤخذ ضمن مسارها الطبيعي المرتبط بمسار النص كحامل للرسالة الخاتمة.
ومما يعزز هذه الصلة بين القرآن والمعرفة عموماً، الأثر الذي تركه القرآن في مختلف العلوم والمعارف، بل أصبح علم التفسير هو الحاضن الأساسي للعلوم التي ولدت في الحضارة الإسلامية، فعاشت تلك العلوم في كنفه إلى أن بلغت الرشد واستقلت بذاتها، وأصبحت علماً له قوانينه التي لا بد لدارس القرآن من معرفتها.
ومع ظهور إفراد تفسير القرآن بالتأليف في القرن الثاني للهجرة، بدأت تظهر حاجة المفسرين إلى العلوم الأخرى، بحسب موضوعات القرآن، بل ولدت من رحم تفسير القرآن علوم جديدة اختصت بالقرآن الكريم، وذلك في ضوء الحاجة إلى ذلك، وفي القرن الثامن الهجري ظهر اصطلاح علمي خاص يجمع أصول هذه العلوم التي تدور حول القرآن وما يحتاجه المفسر، ويعرِّف بها في علم واحد هو»علوم القرآن»، وذلك مع الإمام بدر الدين الزركشي، (ت794هـ) ، صاحب «البرهان في علوم القرآن»، فكان أول من ألف في علوم القرآن بمعناها الاصطلاحي الذي يختص بجمع ضوابط العلوم المتصلة بالقرآن الكريم من ناحية كلية عامة، ودرج من بعده الحديث عن علوم القرآن كمصطلح خاص. وكان من بين القضايا التي تطرقت إليها كتب علوم القرآن شروط المفسر، والأصول والقواعد والضوابط التي يحتاجها المفسر، وهي موضوعات سبق وتطرقت إليه كتب خاصة، وهي بعض ما غدا يعرف حديثاً بـ «أصول التفسير»، أو ما كان يسمى «القواعد الكلية» حسب ابن تيمية، أو «قانون التأويل» حسب تسمية الغزالي وتلميذه ابن العربي، أو «علم التفسير» حسب تسمية الطوفي.
فأصول التفسير مبحث تفرقت موضوعاته في مقدمات بعض المفسرين لتفاسيرهم، وفي كتب علوم القرآن وكتب اللغة وأصول الفقه، ويتناول دراسة الشروط الواجب توافرها في المفسر، والعلوم التي يحتاج إليها المفسر، وأهم قواعد التفسير، اللغوية والأصولية والاستقرائية، فموضوعه «قواعد كلية تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه»، فهو أحد علوم القرآن، وقد ضمن المصنفون -المتقدمون والمتأخرون- في علوم القرآن موضوعاته ضمن كتبهم، فثمة تداخل بين أصول التفسير وعلوم القرآن، لكن علوم القرآن أشمل، وقد تتوسع بعض كتب أصول التفسير إلى مسائل من علوم القرآن، كما أن من علوم القرآن ما لا علاقة له بالتفسير، إنما هو من قبيل الإحصاء والتوثيق والتأريخ، وأهم وظيفة يؤديها علم أصول التفسير هي ضبط الاستنباط والفهم، والترجيح عند الاختلاف، إذ فيه الأسس والقواعد التي يعرف بها تفسير كلام الله، والشروط والمقدمات العلمية التي يحتاجها المفسر.
وأصبح البحث عن أصول للتفسير والتأويل هاجساً لدى المشتغلين بالتفسير حديثاً، واهتم به من المتأخرين المعلم عبدالحميد الفراهي الهندي في كتابه «التكميل في أصول التأويل»، لكن هذا المشروع لم يكتمل مساره، على رغم كثرة اللبنات في بنائه، إذ المطلوب من هذا العلم أن يعمل في التفسير ما عملته أصول الفقه في الفقه، وأصول الحديث في الحديث، أي أن يصبح هذا العلم بمثابة قانون يضبط العملية التفسيرية.
لكن عدم اكتمال بناء أصول التفسير كعلم لا يعني عدم وجود تلك الأصول والضوابط والمعايير، والتي تمثل كليات في العلوم التي يحتاجها المفسر، لذلك كانوا يشترطون لمن يمارس التفسير أن يكون عالماً بتلك العلوم، لكن العلم بها لا يغني عن استخلاصها وتجريدها كمبادئ ذات صلة مباشرة بالتفسير.
وتبرز أهمية العناية بأصول التفسير في العصر الحديث من ناحيتين: الأولى صعوبة إحاطة المفسر بالعلوم التي ذكرت كشرط للتفسير نظراً الى تطور هذه العلوم واتساعها، ومن ناحية ثانية أنه عندما يتعمق الباحث في واحد من هذه العلوم يطغى على العلوم الأخرى ويترك أثره في تفسيره، وهذا ما نلمسه في مناهج المفسرين المتقدمين، حتى أصبحت التفاسير توسم بالعلم الذي اصطبغت به أو أثر ذلك العلم فيها، كالتفسير اللغوي، والتفسير الفقهي، والتفسير بالمأثور، والتفسير الصوفي...، وهذا إن كان لوناً من التفسير إلا أنه ليس التفسير الأمثل الذي تقتضيه الضوابط التي وضعها المفسرون، بل لا يصح واحد منها ما لم يلتزم بمقتضيات العلوم الأخرى.
هذا التواشج بين العلوم وبين التفسير والجدال التاريخي بينها (استيلاداً للعلوم أو توظيفاً لها) أصبح في العصر الحديث أشد إلحاحاً وأعمق إشكالاً، من ناحيتي دعوى احتواء القرآن على بعض العلوم أو كلها أو صلاحية أي علم لأن يوظف في فهم القرآن، وقد وجِد المخلص والمسيء بين مدعي كل من الإشكالين أو معارضيهما، كما وجد العالم والمتعالم في تعاطيهما، لكن الدقة تقتضي الحذر في الأحكام المطلقة في القضيتين، وإرجاع تعاطيهما إلى اعتبارين أساسيين في أي مقاربة للقرآن: الأول هو لحظ طبيعة القرآن عند درسه وهي كونه حاملاً لرسالة إلهية، وخطاباً للعالمين يتضمن محتوى يطلب من المخاطب التعاطي معه، وأي تجاوز لهذا المستوى يدخل في إسقاط معنى على القرآن لم يأت لبيانه وإن كان أشار إليه. والاعتبار الثاني هو لحظ كون القرآن إنما هو نص صيغ بلغة عربية لها قوانينها ومعانيها وأساليبها، ولا يستقيم فهم القرآن من غير الأخذ بالاعتبار البعد النصي والبعد اللغوي للقرآن، ففي البعد النصي ينبغي لحظ تكامل النص وإفصاح بعضه عن بعضه، وأثر بنيته في فهمه، وكيفية صوغ أساليبه وخطابه، وفي البعد اللغوي ينبغي لحظ لغة عصر نزوله وما قبلها، ولغة القرآن في علاقته مع هذه اللغة، فضلاً عن قوانين العربية ومعاني مفرداتها.
وعند مراعاة هذين المعيارين يمكن نقد الدارسات المعاصرة للقرآن ومدى الدقة العلمية فيها على تنوع مناهجها وتخصصاتها، ولا بد للدارس عند مراعاتهما من أن يلحظ متفرعات عنهما ولوازم لهما، وستكون مشكلات كالتي يثيرها ما يسمى التفسير أو الإعجاز العلمي، أو القراءة المعاصرة للقرآن، أو استخدام العلوم الحديثة في فهم القرآن، غير ذات بال أو أثر لأن لحظ البعد الإلهي والهدائي للقرآن كرسالة سيبعد نسبة شيء إلى القرآن لا يدخل في هذا الإطار، وكذلك الشأن في لحظ الضابط النصي واللغوي يمنع الإسقاط ويساهم في الاستمداد المنهجي للمعنى من القرآن، وهذا هو موضوع «أصول التفسير» كعلم لم يكتمل بناؤه.
عبد الرحمن حللي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد